فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49)}.
هي جمع فنن أي ذواتا أغصان أو جمع فن أي فيهما فنون من الأشجار وأنواع من الثمار.
فإن قيل: أي الوجهين أقوى؟ نقول: الأول لوجهين أحدهما: أن الأفنان في جمع فنن هو المشهور والفنون في جمع الفن كذلك، ولا يظن أن الأفنان والفنون جمع فن بل كل واحد منهما جمع معرف بحرف التعريف والأفعال في فعل كثير والفعول في فعل أكثر ثانيهما: قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] مستقل بما ذكر من الفائدة، ولأن ذلك فيما يكون ثابتًا لا تفاوت فيه ذهنًا ووجودًا أكثر، فإن قيل: كيف تمدح بالأفنان والجنات في الدنيا ذوات أفنان كذلك؟ نقول: فيه وجهان أحدهما: أن الجنات في الأصل ذوات أشجار، والأشجار ذوات أغصان، والأغصان ذوات أزهار وأثمار، وهي لتنزه الناظر إلا أن جنة الدنيا لضرورة الحاجة وجنة الآخرة ليست كالدنيا فلا يكون فيها إلا ما فيه اللذة وأما الحاجة فلا، وأصول الأشجار وسوقها أمور محتاج إليها مانعة للإنسان عن التردد في البستان كيفما شاء، فالجنة فيها أفنان عليها أوراق عجيبة، وثمار طيبة من غير سوق غلاظ، ويدل عليه أنه تعالى لم يصف الجنة إلا بما فيه اللذة بقوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} أي الجنة هي ذات فنن غير كائن على أصل وعرق بل هي واقفة في الجو وأهلها من تحتها والثاني: من الوجهين هو أن التنكير للأفنان للتكثير أو للتعجب.
{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)} أي في كل واحدة منهما عين جارية، كما قال تعالى: {فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ} وفي كل واحدة منهما من الفواكه نوعان، وفيها مسائل بعضها يذكر عند تفسير قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [الرحمن: 66- 68] وبعضها يذكر ههنا.
المسألة الأولى:
هي أن قوله: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] و{فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} و{فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} كلها أوصاف للجنتين المذكورتين فهو كالكلام الواحد تقديره: جنتان ذواتا أفنان، ثابت فيهما عينان، كائن فيهما من كل فاكهة زوجان، فإن قيل: ما الفائدة في فصل بعضها عن بعض بقوله تعالى: {فَبِأَىّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} ثلاث مرات مع أنه في ذكر العذاب ما فصل بين كلامين بها حيث قال: {يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ} [الرحمن: 35] مع أن إرسال نحاس غير إرسال شواظ، وقال: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} [الرحمن: 44] مع أن الحميم غير الجحيم، وكذا قال تعالى: {هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذّبُ بِهَا المجرمون} [الرحمن: 43] وهو كلام تام، وقوله تعالى: {يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ ءَانٍ} [الرحمن: 44] كلام آخر ولم يفصل بينهما بالآية المذكورة؟ نقول: فيه تغليب جانب الرحمة، فإن آيات العذاب سردها سردًا وذكرها جملة ليقصر ذكرها، والثواب ذكره شيئًا فشيئًا، لأن ذكره يطيب للسامع فقال بالفصل وتكرار عود الضمير إلى الجنس بقوله: {فِيهِمَا عَيْنَانِ}، {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة} لأن إعادة ذكر المحبوب محبوب، والتطويل بذكر اللذات مستحسن.
المسألة الثانية:
قوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} أي في كل واحدة عين واحدة كما مر، وقوله: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} معناه كل واحدة منهما زوج، أو معناه في كل واحدة منهما من الفواكه زوجان، ويحتمل أن يكون المراد مثل ذلك أي في كل واحدة من الجنتين زوج من كل فاكهة ففيهما جميعًا زوجان من كل فاكهة، وهذا إذا جعلنا الكنايتين فيهما للزوجين، أو نقول: من كل فاكهة لبيان حال الزوجين، ومثاله إذا دخلت من على ما لا يمكن أن يكون كائنًا في شيء كقولك: في الدار من الشرق رجل، أي فيها رجل من الشرق، ويحتمل أن يكون المراد في كل واحدة منها زوجان، وعلى هذا يكون كالصفة بما يدل عليه من كل فاكهة كأنه قال: فيهما من كل فاكهة، أي كائن فيهما شيء من كل فاكهة، وذلك الكائن زوجان، وهذا بين فيما تكون من داخله على ما لا يمكن أن يكون هناك كائن في الشيء غيره، كقولك: في الدار من كل ساكن، فإذا قلنا: فيهما من كل فاكهة زوجان الثالث: عند ذكر الأفنان لو قال: فيهما من كل فاكهة زوجان كان متناسبًا لأن الأغصان عليها الفواكه، فما الفائدة في ذكر العينين بين الأمرين المتصل أحدهما بالآخر؟ نقول: جرى ذكر الجنة على عادة المتنعمين، فإنهم إذا دخلوا البستان لا يبادرون إلى أكل الثمار بل يقدمون التفرج على الأكل، مع أن الإنسان في بستان الدنيا لا يأكل حتى يجوع ويشتهي شهوة مؤلمة فكيف في الجنة فذكر ما يتم به النزهة وهو خضرة الأشجار، وجريان الأنهار، ثم ذكر ما يكون بعد النزهة وهو أكل الثمار، فسبحان من يأتي بالآي بأحسن المعاني في أبين المباني.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55)} وفيه مسائل نحوية ولغوية ومعنوية:
المسألة الأولى من النحوية:
هو أن المشهور أن (متكئين) حال وذو الحال من في قوله: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ} [الرحمن: 46] والعامل ما يدل عليه اللام الجارة تقديره لهم في حال الاتكاء جنتان وقال صاحب (الكشاف): يحتمل أن يكون نصبًا على المدح، وإنما حمله على هذا إشكال في قول من قال: إنه حال وذلك لأن الجنة ليست لهم حال الإتكاء بل هي لهم في كل حال فهي قبل الدخول لهم، ويحتمل أن يقال: هو حال وذو الحال ما تدل عليه الفاكهة.
لأن قوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] يدل على متفكهين بها كأنه قال: يتفكه المتفكهون بها، متكئين، وهذا فيه معنى لطيف، وذلك لأن الأكل إن كان ذليلًا كالخول والخدم والعبيد والغلمان، فإنه يأكل قائمًا، وإن كان عزيزًا فإن كان يأكل لدفع الجوع يأكل قاعدًا ولا يأكل متكئًا إلا عزيز متفكه ليس عنده جوع يقعده للأكل، ولا هنالك من يحسمه، فالتفكه مناسب للإتكاء.
المسألة الثانية من المسائل النحوية:
{عَلَى فُرُشٍ} متعلق بأي فعل هو؟ إن كان متعلقًا بما في {مُتَّكِئِينَ}، حتى يكون كأنه يقول: يتكئون على فرش كما كان يقال: فلان اتكأ على عصاه أو على فخذيه فهو بعيد لأن الفراش لا يتكأ عليه، وإن كان متعلقًا بغيره فماذا هو؟ نقول: متعلق بغيره تقديره يتفكه الكائنون على فرش متكئين من غير بيان ما يتكئون عليه، ويحتمل أن يكون اتكاؤهم على الفرش غير أن الأظهر ما ذكرنا ليكون ذلك بيانًا لما تحتهم وهم بجميع بدنهم عليه وهو أنعم وأكرم لهم.
المسألة الثالثة:
الظاهر أن لكل واحد فرشًا كثيرة لا أن لكل واحد فراشًا فلكلهم فرش عليها كائنون.
المسألة الرابعة لغوية:
الاستبرق هو الديباج الثخين وكما أن الديباج معرب بسبب أن العرب لم يكن عندهم ذلك إلا من العجم، استعمل الاسم المعجم فيه غير أنهم تصرفوا فيه تصرفًا وهو أن اسمه بالفارسية ستبرك بمعنى ثخين تصغير (ستبر) فزادوا فيه همزة متقدمة عليه، وبدلوا الكاف بالقاف، أما الهمزة، فلأن حركات أوائل الكلمة في لسان العجم غير مبنية في كثير من المواضع فصارت كالسكون، فأثبتوا فيه همزة كما أثبتوا همزة الوصل عند سكون أول الكلمة، ثم إن البعض جعلوها همزة وصل وقالوا: {مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} والأكثرون جعلوها همزة قطع لأن أول الكلمة في الأصل متحرك لكن بحركة فاسدة فأتوا بهمزة تسقط عنهم الحركة الفاسدة وتمكنهم من تسكين الأول وعند تساوي الحركة، فالعود إلى السكون أقرب، وأواخر الكلمات عند الوقف تسكن ولا تبدل حركة بحركة، وأما القاف فلأنهم لو تركوا الكاف لاشتبه ستبرك بمسجدك ودارك، فأسقطوا منه الكاف التي هي على لسان العرب في آخر الكلم للخطاب وأبدلوها قافًا ثم عليه سؤال مشهور، وهو أن القرآن أنزل بلسان عربي مبين، وهذا ليس بعربي، والجواب الحق أن اللفظة في أصلها لم تكن بين العرب بلغة، وليس المراد أنه أنزل بلغة هي في أصل وضعها على لسان العرب، بل المراد أنه منزل بلسان لا يخفى معناه على أحد من العرب ولم يستعمل فيه لغة لم تتكلم العرب بها، فيصعب عليهم مثله لعدم مطاوعة لسانهم التكلم بها فعجزهم عن مثله ليس إلا لمعجز.
المسألة الخامسة:
معنوية الإتكاء من الهيئات الدالة على صحة الجسم وفراغ القلب، فالمتكىء تكون أمور جسمه على ما ينبغي وأحوال قلبه على ما ينبغي، لأن العليل يضطجع ولا يستلقي أو يستند إلى شيء على حسب ما يقدر عليه للاستراحة، وأما الإتكاء بحيث يضع كفه تحت رأسه ومرفقه على الأرض ويجافي جنبيه عن الأرض فذاك أمر لا يقدر عليه، وأما مشغول القلب في طلب شيء فتحركه تحرك مستوفز.
المسألة السادسة:
قال أهل التفسير قوله: {بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} يدل على نهاية شرفها فإن ما تكون بطائنها من الإستبرق تكون ظهائرها خيرًا منها، وكأن شيء لا يدركه البصر من سندس وهو الديباج الرقيق الناعم، وفيه وجه آخر معنوي وهو أن أهل الدنيا يظهرون الزينة ولا يتمكنون من أن يجعلوا البطائن كالظهائر، لأن غرضهم إظهار الزينة والبطائن لا تظهر، وإذا انتفى السبب انتفى المسبب، فلما لم يحصل في جعل البطائن من الديباج مقصودهم وهو الإظهار تركوه، وفي الآخرة الأمر مبني على الإكرام والتنعيم فتكون البطائن كالظهائر فذكر البطائن.
المسألة السابعة:
قوله تعالى: {وَجَنَى الجنتين دَانٍ} فيه إشارة إلى مخالفتها لجنة دار الدنيا من ثلاثة أوجه: أحدها: أن الثمرة في الدنيا على رءوس الشجرة والإنسان عند الاتكاء يبعد عن رءوسها وفي الآخرة هو متكىء والثمرة تنزل إليه ثانيها: في الدنيا من قرب من ثمرة شجرة بعد عن الأخرى وفي الآخرة كلها دان في وقت واحد ومكان واحد، وفي الآخرة المستقر في جنة عنده جنة أخرى ثالثها: أن العجائب كلها من خواص الجنة فكان أشجارها دائرة عليهم ساترة إليهم وهم ساكنون على خلاف ما كان في الدنيا وجناتها وفي الدنيا الإنسان متحرك ومطلوبه ساكن، وفيه الحقيقة وهي أن من لم يكسل ولم يتقاعد عن عبادة الله تعالى، وسعى في الدنيا في الخيرات انتهى أمره إلى سكون لا يحوجه شيء إلى حركة، فأهل الجنة إن تحركوا تحركوا لا لحاجة وطلب، وإن سكنوا سكنوا لا لاستراحة بعد التعب، ثم إن الولي قد تصير له الدنيا أنموذجًا من الجنة، فإنه يكون ساكنًا في بيته ويأتيه الرزق متحركًا إليه دائرًا حواليه، يدلك عليه قوله تعالى: {كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا} [آل عمران: 37].
المسألة الثامنة:
الجنتان إن كانتا جسميتين فهو أبدًا يكون بينهما وهما عن يمينه وشماله هو يتناول ثمارهما وإن كانت إحداهما روحية والأخرى جسمية فلكل واحد منهما فواكه وفرش تليق بها. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} فيه مسألتان:
الأولى: لما ذكر أحوال أهل النار ذكر ما أعدّ للأبرار.
والمعنى خاف مقامه بين يدي ربه للحساب فترك المعصية.
ف {مَقَامَ} مصدر بمعنى القيام.
وقيل: خاف قيام ربه عليه أي إشرافه واطلاعه عليه؛ بيانه قوله تعالى: {أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ} [الرعد: 33] وقال مجاهد وإبراهيم النخعي: هو الرجل يَهُمّ بالمعصية فيذكر الله فيدعها من خوفه.
الثانية: هذه الآية دليل على أن من قال لزوجه: إن لم أكن من أهل الجنة فأنت طالق أنه لا يحنث إن كان هَمَّ بالمعصية وتركها خوفًا من الله وحياءً منه.
وقال به سفيان الثوريّ وأفتى به.