فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
فصل ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الإحسان:
وهي لب الإيمان وروحه وكماله وهذه المنزلة تجمع جميع المنازل فجميعها منطوية فيها وكل ما قيل من أول الكتاب إلى هاهنا فهو من الإحسان.
قال صاحب المنازل رحمه الله وقد استشهد على هذه المنزلة بقوله تعالى: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن: 60]: فالإحسان جامع لجميع أبواب الحقائق وهو أن تعبد الله كأنك تراه أما ال: فقال ابن عباس رضي الله عنه والمفسرون: هل جزاء من قال: لا إله إلا الله وعمل بما جاء به محمد إلا الجنة وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أنه قرأ: {هَلْ جَزَاءُ الْأِحْسَانِ إِلَّا الْأِحْسَانُ} [الرحمن: 60] ثم قال: هل تدورن ماذا قال ربكم قالوا: الله ورسوله أعلم قال: يقول: هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة» وأما الحديث: فإشارة إلى كمال الحضور مع الله عز وجل ومراقبته الجامعة لخشيته ومحبته ومعرفته والإنابة إليه والإخلاص له ولجميع مقامات الإيمان قال: وهو على ثلاث درجات الدرجة الأولى: الإحسان في القصد بتهذيبه علما وإبرامه عزما وتصفيته حالا يعني إحسان القصد يكون بثلاثة أشياء أحدها: تهذيبه علما بأن يجعله تابعا للعلم على مقتضاه مهذبا به منقى من شوائب الحظوظ فلا يقصد إلا ما يجوز في العلم والعلم هو اتباع الأمر والشرع والثاني: إبرامه عزما والإبرام الإحكام والقوة أي يقارنه عزم يمضيه ولا يصحبه فتور وتوان يضعفه ويوهنه الثالث: تصفيته حالا أي يكون حال صاحبه صافيا من الأكدار والشوائب التي تدل على كدر قصده فإن الحال مظهر القصد وثمرته وهو أيضا مادته وباعثه فكل منهما ينفعل عن الآخر فصفاؤه وتخليصه من تمام صفاء الآخر وتخليصه.
فصل:
قال: الدرجة الثانية: الإحسان في الأحوال وهو أن تراعيها غيرة وتسترها تظرفا وتصححها تحقيقا يريد بمراعاتها: حفظها وصونها غيرة عليها أن تحول فإنها تمر مر السحاب فإن لم يرع حقوقها حالت ومراعاتها: بدوام الوفاء وتجنب الجفاء ويراعيها أيضا بإكرام نزلها فإنها ضيف والضيف إن لم تكرم نزله ارتحل ويراعيها أيضا بضبطها ملكة وشد يده عليها وأن لا يسمح بها لقاطع طريق ولا ناهب ويراعيها أيضا: بالانقياد إلى حكمها والإذعان لسلطانها إذا وافق الأمر ويراعيها أيضا: بسترها تظرفا وهو أن يسترها عن الناس ما أمكنه لئلا يعلموا بها ولا يظهرها إلا لحجة أو حاجة أو مصلحة راجحة فإن في إظهارها بدون ذلك آفات عديدة مع تعريضها للصوص والسراق والمغيرين وإظهار الحال للناس عند الصادقين: حمق وعجز وهو من حظوظ النفس والشيطان وأهل الصدق والعزم لها أستر وأكتم من أرباب الكنوز من الأموال لأموالهم حتى إن منهم من يظهر أضدادها نفيا وجحدا وهم أصحاب الملامتيه ولهم طريقة معروفة وكان شيخ هذه الطائفة عبد الله بن منازل واتفقت الطائفة على أن من أطلع الناس على حاله مع الله: فقد دنس طريقته إلا لحجة أو حاجة أو ضرورة وقوله: وتصحيحها تحقيقا أي يجتهد في تحقيق أحواله وتصحيحها وتخليصها فإن الحال قد يمتزج بحق وباطل ولا يميزه إلا أولو البصائر والعلم وأهل هذه الطريق يقولون: إن الوارد الذي يبتدىء العبد من جانبه الأيمن والهواتف والخطاب: يكون في الغالب حقا والذي يبتدىء من الجانب الأيسر: يكون في الغالب باطلا وكذبا فإن أهل اليمين: هم أهل الحق وبأيمانهم يأخذون كتبهم ونورهم الظاهر على الصراط يكون بأيمانهم وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه التيمن في تنعله وترجله وطهوره وشأنه كله والله وملائكته يصلون على ميامن الصفوف وأخبر أن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله وحظه من ابن آدم جهة الشمال ولهذا تكون اليد الشمال للاستجمار وإزالة النجاسة والأذى ويبدأ بالرجل الشمال عند دخول الخلاء ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد يبقي الإنسان بعد انفصاله نشيطا مسرورا نشوانا: فإنه وارد ملكي وكل وارد يبقي الإنسان بعد انفصالة خبيث النفس كسلان ثقيل الأعضاء والروح يجنح إلى فتور: فهو وارد شيطاني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد أعقب في القلب: معرفة بالله ومحبة له وأنسا به وطمأنينة بذكره وسكونا إليه: فهو ملكي إلهي وخلافه بخلافه.
ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد أعقب صاحبه تقدما إلى الله تعالى والدار الآخرة وحضورا فيها حتى كأنه يشاهد الجنة قد أزلفت والجحيم قد سعرت: فهو إلهي ملكي وخلافه شيطاني نفساني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد كان سببه النصيحة في امتثال الأمر والإخلاص والصدق فيه: فهو إلهي ملكي وإلا فهو شيطاني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد استنار به القلب وانشرح له الصدر وقوي به القلب: إلهي ملكي وإلا فهو شيطاني ومن الفرقان أيضا: أن كل وارد جمعك على الله فهو منه وكل وارد فرقك عنه وأخذك عنه: فمن الشيطان ومن الفرقان أيضا: أن الوارد الإلهي لا يصرف إلا في قربة وطاعة ولا يكون سببه إلا قربة وطاعة فمستخرجه الأمر ومصرفه الأمر والشيطاني بخلافه ومن الفرقان أيضا: أن الوارد الرحماني لا يتناقض ولا يتفاوت ولا يختلف بل يصدق بعضه بعضا والشيطاني بخلافه يكذب بعضه بعضا والله سبحانه أعلم.
فصل:
قال: الدرجة الثالثة: الإحسان في الوقت وهو أن لا تزايل المشاهدة أبدا ولا تخلط بهمتك أحدا وتجعل هجرتك إلى الحق سرمدا أي لا تفارق حال الشهود وهذا إنما يقدر عليه أهل التمكن الذين ظفروا بنفوسهم وقطعوا المسافات التي بين النفس وبين القلب والمسافات التي بين القلب وبين الله بمجاهدة القطاع التي على تلك المسافات وقوله: ولا تخلط بهمتك أحدا يعني: أن تعلق همتك بالحق وحده ولا تعلق همتك بأحد غيره فإن ذلك شرك في طريق الصادقين قوله: وأن تجعل هجرتك إلى الحق سرمدا يعني: أن كل متوجه إلى الله بالصدق والإخلاص فإنه من المهاجرين إليه فلا ينبغي أن يتخلف عن هذه الهجرة بل ينبغي أن يصحبها سرمدا حتى يلحق بالله عز وجل.
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي ** ويحمد غب السير من هو سائر

ولله على كل قلب هجرتان وهما فرض لازم له على الأنفاس: هجرة إلى الله سبحانه بالتوحيد والإخلاص والإنابة والحب والخوف والرجاء والعبودية وهجرة إلى رسوله: بالتحكيم له والتسليم والتفويض والانقياد لحكمه وتلقي أحكام الظاهر والباطن من مشكاته فيكون تعبده به أعظم من تعبد الركب بالدليل الماهر في ظلم الليل ومتاهات الطريق فما لم يكن لقلبه هاتان الهجرتان فليحث على رأسه الرماد وليراجع الإيمان من أصله فيرجع وراءه ليقتبس نورا قبل أن يحال بينه وبينه ويقال له ذلك على الصراط من وراء السور والله المستعان. اهـ.

.تفسير الآيات (62- 78):

قوله تعالى: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان قد علم مما ذكر أول هذا الكلام من الخوف مع ذكر وصف الإكرام، وآخره من ذكر الإحسان أن هذا الفريق محسنون، وكان من المعلوم أن العاملين طبقات، وأن كل طبقة أجرها على مقدار أعمالها، اقتضى الحال بيان ما أعد لمن دونهم: {ومن دونهما} أي من أدنى مكان، رتبة مما تحت جنتي هؤلاء المحسنين المقربين {جنتان} أي لكل واحد لمن دون هؤلاء المحسنين من الخائفين وهم أصحاب اليمين، قال ابن عباس- رضى الله عنهما ـ: دونهما في الدرج، وجعل ابن برجان الأربع موزعة بين الكل، وأن تخصيص هذه العدة إشارة إلى أنها تكون جامعة لما في فصول الدنيا الأربعة: الشتاء والربيع والصيف والخريف، وفسر بذلك قول النبي- صلى الله عليه وسلم- «جنتان من ذهب أوتيتهما وما فيهما وجنتان من فضة أوتيتهما وما فيهما» ثم جوز أن يكون المراد بالدون الأدنى إلى الإنسان، وهو البرزخ، فتكون هاتان لأهل البرزخ كما كان {وإن للذين ظلموا عذابًا دون ذلك} من عذاب القبر {فبأيِّ آلاء ربكما} أي المحسن بنعمه السابغة إلى الأعلى ومن دونه {تكذبان} أبنعمة اللمس من جهة التحت أم غيرها مما جعله الله في الدنيا مثالًا لهذا من أن بعض البساتين أفضل من بعض إلى غير ذلك من أنواع التفضيل.
ولما كان ما في هاتين من الماء دون ما في الباقيتين، فكان ربما ظن أن ماءهما لا يقوم بأعلى كفايتهما قال: {مدهامتان} أي خضراوان خضرة تضرب من شدة الري إلى السواد، من الدهمة، قال الأصبهاني: الغالب على هاتين الجنتين النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض وفي الأوليين الأشجار والفواكه {فبأيِّ آلاء ربكما} أي نعم المحسن إلى العالي منكما ومن دونه بسعة رحمته {تكذبان} أبنعمة الذوق من جهة الأمام أم غيرها مما جعله مثالًا لذلك من جنان الدنيا الكثيرة الري وغيره.
ولما كان ذكر ما يدل على ريهما، حققه بقوله: {فيهما} أي في كل جنة لكل شخص منهم {عينان نضاختان} أي تفوران بشدة توجب لهما رشاش الماء بحيث لا ينقطع ذلك، ولم يذكر جريهما فكأنهما بحيث يرويان جنتهما ولا يبلغان الجري، والنضخ دون الجري وفوق النضخ، قال الأصبهاني: وأصل النضخ بالمعجمة- انتهى.
وكأنهما لمن تغرغر عيناه بالدمع فتمتلئان من غير جري، وقال ابن برجان ما معناه إن حر (؟) عدم جريهما لكونهما على مثال جنة خريف ما هاهنا وشتاء به لبعد عهدهما بنزول الماء وسكنا في أعماق الأرض لينعكس بالنبع والفوران صاعدًا مع أن الجنة لا مطر فيها {فبأيِّ آلاء ربكما} أي نعم المربي البليغ الحكمة في التربية {تكذبان} أبنعمة الذوق من جهة ما وراء اللسان أم غيرها مما جعله مثالًا لذلك من الأعين التي تفور ولا تجري والأنابيب المصنوعة للفوران لأنها بحيث تروق ناظرها لصعودها بقوة نبعها وترشيشها من النعم الكبار.
ولما ذكر الري والسبب فيه، ذكر ما ينشأ عنه فقال: {فيهما فاكهة} أي من كل الفاكهة، وخص أشرفها وأكثرها وجدانًا في الخريف والشتاء كما في جنان الدنيا التي جعلت مثالًا لهاتين الجنتين فقال: {ونخل ورمان} فإن كلًا منهما فاكهة وإدام، فلذا خص تشريفًا وتنبيهًا على ما فيهما من التفكه وأولاهما أعم نفعًا وأعجب خلقًا فلذا قدم {فبأيِّ آلاء ربكما} أي نعم المحسن إليكما أيها الثقلان بجليل التربية {تكذبان} أبنعمة الذوق من اليمين أم من غيرها مما جعل مثالًا لهذا من جنان الدنيا وغير ذلك.
ولما كان ما ذكر لا تكمل لذته إلا بالأنيس، وكان قد ورد أنه يكون في بعض ثمار الجنة وحمل أشجارها نساء وولدان كما أن أمثال ذلك في بطن مياه الدنيا {وجعلنا من الماء كل شيء حي} [الأنبياء: 30] قال جامعًا على نحو ما مضى من الإشارة إلى أن الجنتين لكل واحد من أفراد هذا الصنف: {فيهن} أي الجنان الأربع أو الجنان التي خصت للنساء، وجوز ابن برجان أن يكون الضمير للفاكهة والنخل والرمان فإنه يتكون منها نساء وولدان في داخل قشر الرمان ونحوه {خيرات} أي نساء بليغ ما فيهن من الخير، أصله خير مثقلًا لأن (خير) الذي للتفضيل لا يجمع جمع سلامة، ولعله خفف لاتصافهن بالخفة في وجودهن وجميع شأنهن، ولكون هاتين الجنتين دون ما قبلهما {حسان} أي في غاية الجمال خلقًا وخلقًا {فبأيِّ آلاء ربكما} أي نعم الكامل الإحسان إليكما {تكذبان} أبنعمة الذوق من جهة اليسار أمن من غيرها ممن جعله مثالًا لتكوين النساء والولدان والملابس والحلي من ثمار الأشجار والزروع التي من المياه التي بها العيش، ففيها التوليد وغير ذلك مما تظهره الفكرة لأهل العبرة لأن كل ما في الجنة ينشأ عن الكلمة من الرزق كما ينشأ عنه سبحانه في هذه الدار على تسبيب.