فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحكمة، ثم بينهن بقوله: {حور} أي ذوات أعين شديدة سواد السواد وشديدة بياض البياض، وقال ابن جرير: بيض جمع {مقصورات} أي على أزواجهن ومحبوسات، صيانة عن التبذل، فهو كناية عن عظمتهن {في الخيام} التي هي من الدر المجوف الشفاف جزاء لمن قصر نفسه عن.
الله فكف جوارحه عن الزلات، وصان قلبه عن الغفلات {فبأيِّ آلاء ربكما} أي الجليل الإحسان إليكما {تكذبان} أبنعمة الذوق من جهة الفوق أم بغيرها مما جعله مثالًا لهذا في الدنيا، فإنه كما خلقنا من تراب ثم طورنا في أطوار الخلقة بحسب حكمة الأسباب كذلك خلق أولئك من أرض الجنة ورياضها وفواكهها عن كلمة السكان من غير أسباب.
ولما كانت أنفس الأخيار ذوي الهمم العالية الكبار في الالتفات إلى الأبكار قال: {لم يطمثهن} أي يتسلط عليهن نوع سلطة {إنس} وعم الزمان بحذف الجار فقال: {قبلهم} أي انتفى الطمث المذكور في جميع الزمان الكائن قبل طمث أصحاب هذه الجنان لهن، فلو وجد في لحظة من لحظات القبل لما صدق النفي {ولا جان} فهن في غاية الاختصاص كل بما عنده {فبأيِّ} أي فتسبب عن هذا التعدد لمثل هذه النعم العظيمة أنا نقول تعجيبًا ممن يكذب توبيخًا له وتنبيهًا على ما له تعالى من النعم التي تفوت الحصر: بأيِّ {آلاء ربكما} أي النعم الجليلة من المدبر لكما بما له من القدرة التامة والعظمة الباهرة العامة {تكذبان} أبنعمة الذوق من تحت أم بغيرها مما جعله مثالًا لهذا من الأبكار المخدرات، وجميع ما ذكر من النعم العامة الظاهرة في كل حالة في الدنيا والآخرة، وختم بالتقرير أربع وعشرون ثمان منها أول السورة من النعم الدنياوية، وست عشرة جنان، وجعلها على هذا العدد، إشارة إلى تعظيمها بتكثيرها فإنه عدد تام لأنه جامع لأكثر الكسور، ولذا قسم الدرهم وغيره أربعة وعشرون قيراطًا.
ولما تم التقرير بالنعم المحيطة بالجهات الست والحواس الخمس على الوجه الأكمل من درء المفاسد وجلب المصالح كما تقدمت الإشارة إليه بمدكر، بقوله: {فهل من مدكر} [القمر: 17] في القمر، بالحسن فيها إلى الحواس الخمس وبتكرارها، وتكرار {كيف كان عذابي ونذر} [القمر: 18] ستًا إلى الجهات الست من جهة الوراء والخلف، أوترها بنعمة أخرى واحدة إشارة إلى أن السبب في هذا اعتقاد وحدانية الواحد تعالى اعتقادًا أدى الخضوع لأمر مرسل كلما جاء من عنده تعالى فلذلك كانت نعمة لا تنقطع أصلًا، بل كلما تم دور منها ابتدأ دور آخر جديد، وهكذا على وجه لا انقطاع له أبدًا كما أن الواحد الذي هو أصل العدد لا انتهاء له أصلًا، وهذه النعمة الدالة على الراحة الدائمة التي هي المقصودة بالذات على وجه لا يرى أغرب منه ولا أشرف، فقال تعالى مبينًا حال المحسنين ومن دونهم مشركًا لهم في الراحة على ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر: {متكئين} أي لهم ذلك في حال الاتكاء ديدنًا لأنهم لا شغل لهم بوجه إلا التمتع {على رفرف} أي ثياب ناعمة وفرش رقيقة النسج من الديباج لينة ووسائد عظيمة ورياض باهرة وبسط لها أطراف فاضلة، ورفرف السحاب هدبه أي ذيله المتدلي.
ولما كان الأخضر أحسن الألوان وأبهجها قال: {خضر وعبقري} أي متاع كامل من البسط وغيرها هو في كماله وغرابته كأنه من عمل الجن لنسبته إلى بلدهم، قال في القاموس: عبقر موضع كثير الجن، وقرية بناؤها في غاية الحسن، والعبقري الكامل من كل شيء، والسيد والذي ليس فوقه شيء، وقال الرازي: هو الطنافس المخملة، قال ابن جرير: الطنافس الثخان، وقال القشيري: العبقري عند العرب كل ثوب موشى، وقال الخليل: كل جليل نفيس فاخر من الرجال وغيرهم، ومنه قول النبي- صلى الله عليه وسلم- في عمر- رضى الله عنه ـ: «فلم أر عبقريًا من الناس يفري فريه» وقال قطرب: ليس هو من المنسوب بل هو بمزلة كرسي وبختي.
ولما كان المراد به الجنس، دل على كثرته بالجمع مع التعبير بالمفرد إشارة إلى وحدة تكامله بالحسن فقال: {حسان} أي هي في غاية من كمال الصنعة وحسن المنظر لا توصف {فبأيِّ آلاء ربكما} أي النعم العظيمة من المحسن الواحد الذي لا محسن غيره ولا إحسان إلا منه ولا تعد نعمه ولا تحصي ثناء عليه {تكذبان} وبهذه الآية تمت النعم الثمان المختصة بجنة أصحاب اليمين إشارة إلى العمل لأبوابها الثمانية. والله الموفق.
ولما دل ما ذكر في هذه السورة من النعم على إحاطة مبدعها بأوصاف الكمال، ودل بالإشارة بالنعمة الأخيرة على أن نعمه لا نهاية لها لأنه مع أن له الكمال كله متعال عن شائبة نقص، فكانت ترجمة ذلك قوله في ختام نعم الآخرة مناظرة لما تقدم من ختام نعم الدنيا معبرًا هناك بالبقاء لما ذكر قبله، من الفناء، وهذا بما من البركة إشارة إلى أن نعمه لا انقضاء لها: {تبارك} قال ابن برجان: تفاعل من البركة، ولا يكاد يذكره جل ذكره إلا عند أمر معجب- انتهى، ومعناه ثبت ثباتًا لا يسع العقول جمع وصفه لكونه على صيغه المفاعلة المفيدة لبذل الجهد إذا كانت ممن تمكن منازعته، وذلك مع اليمن والبركة والإحسان.
ولما كان تعظيم الاسم أقعد وأبلغ في تعظيم المسمى قال: {اسم ربك} أي المحسن إليك بإنزال هذا القرآن الذي جبلك على متابعته فصرت مظهرًا له وصار خلقًا لك فصار إحسانه إليك فوق الوصف، ولذلك قال واصفًا للرب في قراءة الجمهور: {ذي الجلال} أي العظمة الباهرة فهو المنتقم من الأعداء {والإكرام} أي الإحسان الذي لا يمكن الإحاطة به فهو المتصف بالجمال الأقدس المقتضي لفيض الرحمة على جميع الأولياء، وقراءة ابن عامر {ذو} صفة للاسم، وكذا هو في مصاحف أهل الشام، والوصفان الأخيران من شبه الاحتباك حذف من الأول متعلق الصفة وهو النقمة للأعداء، ومن الثاني أثر الإكرام وهو الرحمة للأولياء، فإثبات الصفة أولًا يدل على حذف ضدها ثانيًا، وإثبات الفعل ثانيًا يدل على حذف ضده أولًا، وقال الرازي في اللوامع: كأنه يريد بالاسم الذي افتتح به السورة وقد انعطف آخر السورة على أولها على وجه أعم، فيشمل الإكرام بتعليم القرآن وغيره والانتقام بإدخال النيران وغيرها- الله سبحانه وتعالى هو الموفق للصواب. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)} لما ذكر الجزاء ذكر بعده مثله وهو جنتان أخريان، وهذا كقوله تعالى: {لّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26] وفي قوله تعالى: {دُونِهِمَا} وجهان أحدهما: دونهما في الشرف، وهو ما اختاره صاحب (الكشاف) وقال قوله: {مُدْهَامَّتَانِ} مع قوله في الأوليين: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} [الرحمن: 48] وقوله في هذه: {عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} مع قوله في الأوليين: {عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ} [الرحمن: 50] لأن النضخ دون الجري، وقوله في الأولين: {مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] مع قوله في هاتين: {فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} [لرحمن: 68] وقوله في الأوليين: {فُرُشٍ بَطَائِنُهَا َا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ} حيث ترك ذكر الظهائر لعلوها ورفعتها وعدم إدراك العقول إياها مع قوله في هاتين: {رَفْرَفٍ خُضْرٍ} [الرحمن: 76] دليل عليه، ولقائل أن يقول: هذا ضعيف لأن عطايا الله في الآخرة متتابعة لا يعطي شيئًا بعد شيء إلا ويظن الظان أنه ذلك أو خير منه.
ويمكن أن يجاب عنه تقريرًا لما اختاره الزمخشري أن الجنتين اللتين دون الأولين لذريتهم اللذين ألحقهم الله بهم ولأتباعهم، ولكنه إنما جعلهما لهم إنعامًا عليهم، أي هاتان الأخريان لكم أسكنوا فيهما من تريدون الثاني: أن المراد دونهما في المكان كأنهم في جنتين ويطلعوا من فوق على جنتين أخريين دونهما، ويدل عليه قوله تعالى: {لَهُمْ غُرَفٌ مّن فَوْقِهَا غُرَفٌ} [الزمر: 20] الآية.
والغرف العالية عندها أفنان، والغرف التي دونها أرضها مخضرة، وعلى هذا ففي الآيات لطائف:
الأولى: قال في الأوليين: {ذَوَاتَا أَفْنَانٍ} وقال في هاتين: {مُدْهَامَّتَانِ} أي مخضرتان في غاية الخضرة، وإدهام الشيء أي اسواد لكن لا يستعمل في بعض الأشياء والأرض إذا اخضرت غاية الخضرة تضرب إلى أسود، ويحتمل أن يقال: الأرض الخالية عن الزرع يقال لها: بياض أرض وإذا كانت معمورة يقال لها: سواد أرض كما يقال: سواد البلد، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «عليكم بالسواد الأعظم ومن كثر سواد قوم فهو منهم» والتحقيق فيه أن ابتداء الألوان هو البياض وانتهاءها هو السواد، فإن الأبيض يقبل كل لون والأسود لا يقبل شيئًا من الألوان، ولهذا يطلق الكافر على الأسود ولا يطلق على لون آخر، ولما كانت الخالية عن الزرع متصفة بالبياض واللاخالية بالسواد فهذا يدل على أنهما تحت الأوليين مكانًا، فهم إذا نظروا إلى ما فوقهم، يرون الأفنان تظلهم، وإذا نظروا إلى ما تحتهم يرون الأرض مخضرة، وقوله تعالى: {فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} أي فائرتان ماؤهما متحرك إلى جهة فوق، وأما العينان المتقدمتان فتجريان إلى صوب المؤمنين فكلاهما حركتهما إلى جهة مكان أهل الإيمان، وأما قول صاحب (الكشاف): النضخ دون الجري فغير لازم لجواز أن يكون الجري يسيرًا والنضخ قويًا كثيرًا، بل المراد أن النضخ فيه الحركة إلى جهة العلو، والعينان في مكان المؤمنين، فحركة الماء تكون إلى جهتهم، فالعينان الأوليان في مكانهم فتكون حركة مائهما إلى صوب المؤمنين جريًا.
{فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69)}.
فهو كقوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] وذلك لأن الفاكهة أرضية نحوه البطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات وشجرية نحو النخل وغيره من الشجريات فقال: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] بأنواع الخضر التي منها الفواكه الأرضية وفيهما أيضًا الفواكه الشجرية وذكر منها نوعين وهما الرمان والرطب لأنهما متقابلان فأحدهما حلو والآخر غير حلو وكذلك أحدهما حار والآخر بارد وأحدهما فاكهة وغذاء، والآخر فاكهة، وأحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة، وأحدهما أشجاره في غاية الطول والآخر أشجاره بالضد وأحدهما ما يؤكل منه بارز ومالا يؤكل كامن، والآخر بالعكس فهما كالضدين والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما، كما قال: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] وقدمنا ذلك.
{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)} أي في باطنهن الخير وفي ظاهرهن الحسن والخيرات جمع خيرة وقد بينا أن في قوله تعالى: {قاصرات الطرف} [الرحمن: 56] إلى أن قال: {كَأَنَّهُنَّ} [الرحمن: 58] إشارة إلى كونهن حسانًا.
{حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72)}.
إشارة إلى عظمتهن فإنهن ما قصرن حجرًا عليهن، وإنما ذلك إشارة إلى ضرب الخيام لهن وإدلاء الستر عليهن، والخيمة مبيت الرجل كالبيت من الخشب، حتى إن العرب تسمي البيت من الشعر خيمة لأنه معد للإقامة، إذا ثبت هذا فنقول: قوله: {مقصورات في الخيام} إشارة إلى معنى في غاية اللطف، وهو أن المؤمن في الجنة لا يحتاج إلى التحرك لشيء وإنما الأشياء تتحرك إليه فالمأكول والمشروب يصل إليه من غير حركة منه، ويطاف عليهم بما يشتهونه فالحور يكن في بيوت، وعند الانتقال إلى المؤمنين في وقت إرادتهم تسير بهن للارتحال إلى المؤمنين خيام وللمؤمنين قصور تنزل الحور من الخيام إلى القصور، وقوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ وَلاَ جَانٌّ} قد سبق تفسيره.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما الحكمة في تأخير ذكر اتكائهم عن ذكر نسائهم في هذا الموضع مع أنه تعالى قدم ذكر اتكائهم على ذكر نسائهم في الجنتين المتقدمتين حيث قال: {مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ} [الرحمن: 54] ثم قال: {قاصرات الطرف} [الرحمن: 56] وقال ههنا: {فِيهِنَّ خيرات حِسَانٌ} [الرحمن: 70] ثم قال: {مُتَّكِئِينَ}؟ والجواب عنه من وجهين أحدهما: أن أهل الجنة ليس عليهم تعب وحركة فهم منعمون دائمًا لكن الناس في الدنيا على أقسام منهم من يجتمع مع أهله اجتماع مستفيض وعند قضاء وطره يستعمل الاغتسال والانتشار في الأرض للكسب، ومنهم من يكون مترددًا في طلب الكسب وعند تحصيله يرجع إلى أهله ويريح قلبه من التعب قبل قضاء الوطر فيكون التعب لازمًا قبل قضاء الوطر أو بعده فالله تعالى قال في بيان أهل الجنة: متكئين قبل الاجتماع بأهلهم وبعد الاجتماع كذلك، ليعلم أنهم دائم على السكون فلا تعب لهم لا قبل الاجتماع ولا بعد الاجتماع وثانيهما: هو أنا بينا في الوجهين المتقدمين أن الجنتين المتقدمتين لأهل الجنة الذين جاهدوا والمتأخرين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم، فهم فيهما وأهلهم في الخيام منتظرات قدوم أزواجهن، فإذا دخل المؤمن جنته التي هي سكناه يتكىء على الفرش وتنتقل إليه أزواجه الحسان، فكونهن في الجنتين المتقدمتين بعد اتكائهم على الفرش، وأما كونهم في الجنتين المتأخرتين فذلك حاصل في يومنا، واتكاء المؤمن غير حاصل في يومنا، فقدم ذكر كونهن فيهن هنا وأخره هناك.