فصل: قال الثعالبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال لبِيد:
كُهُولٌ وشُبَّان كجِنَّةِ عَبْقَرِ

ثم نسبوا إليه كل شيء يعجبون من حذقه وجودة صنعته وقوّته فقالوا: عَبْقريّ وهو واحد وجمع.
وفي الحديث: «إنه كان يسجد على عبقريّ» وهو هذه البسط التي فيها الأصباغ والنقوش حتى قالوا: ظُلْم عبقريّ وهذا عبقريُّ قومٍ للرجل القويّ.
وفي الحديث: «فلم أر عبقريًّا يَفْرِي فَرِيَّه» ثم خاطبهم الله بما تعارفوه فقال: {وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ} وقرأه بعضهم {عَبَاقِريٌّ} وهو خطأ لأن المنسوب لا يجمع على نسبته.
وقال قُطْرُب: ليس بمنسوب وهو مثل كُرْسيّ وكَراسِيّ وبُخْتيّ وبَخَاتيّ.
وروى أبو بكر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ {مُتَّكِئِينَ على رَفَارِفَ خُضرٍ وَعَبَاقِرَ حِسَانٍ} ذكره الثعلبي.
وضمّ الضاد من {خضر} قليل.
قوله تعالى: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} {تَبَارَكَ} تفاعل من البركة وقد تقدّم.
{ذِي الجلال} أي العظمة.
وقد تقدّم {والإكرام}.
وقرأ عامر {ذُو الْجَلاَلِ} بالواو وجعله وصفًا للاسم، وذلك تقوية لكون الاسم هو المسمى.
الباقون {ذِي الجلال} جعلوا {ذِي} صفة ل {رَبِّكَ}.
وكأنه يريد به الاسم الذي افتتح به السورة؛ فقال: {الرَّحْمَنُ} فافتتح بهذا الاسم، فوصف خلق الإنسان والجنّ، وخلق السموات والأرض وصنعه، وأنه {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} ووصف تدبيره فيهم، ثم وصف يوم القيامة وأهوالها، وصفة النار ثم ختمها بصفة الجنان.
ثم قال في آخر السورة: {تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام} أي هذا الاسم الذي افتتح به هذه السورة؛ كأنه يعلمهم أن هذا كله خرج لكم من رحمتي، فمن رحمتي خلقتكم وخلقت لكم السماء والأرض والخلق والخليقة والجنة والنار؛ فهذا كله لكم من اسم الرحمن فمدح اسمه ثم قال: {ذِي الجلال والإكرام} جليل في ذاته، كريم في أفعاله.
ولم يختلف القراء في إجراء النعت على الوجه بالرفع في أوّل السورة، وهو يدل على أن المراد به وجه الله الذي يلقى المؤمنون عندما ينظرون إليه، فيستبشرون بحسن الجزاء، وجميل اللقاء، وحسن العطاء.
والله أعلم. اهـ.

.قال الثعالبي:

وقوله سبحانه: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}.
قال ابْنُ زَيْدٍ وغيره: معناه أَنَّ هاتين دون تَيْنِكَ في المنزلة والقُرْبِ، فالأُولَيَانِ للمقرَّبين، وهاتان لأصْحَابِ اليَمِينِ، وعن ابن عباس: أَنَّ المعنى: أَنَّهُمَا دونهما في القرب إلى المُنَعَّمِينَ، وأَنَّهُما أفضلُ من الأُولَيَيْنِ، قال: وأكثر الناس على التأويل الأول.
واختار الترمذيُّ الحكيمُ التأويلَ الثاني، وأطنب في الاحتجاج له في (نوادر الأصول) له، وخَرَّجَ البخاريُّ هنا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا...» الحديث، وفيه: «إنَّ في الجَنَّةِ خَيْمَةً مِنْ لُؤْلُؤَةٍ مُجَوَّفَةٍ، عَرْضُهَا سِتُّونَ مِيلًا، في كُلِّ زَاوِيَةٍ مِنْهَا أَهْل مَا يَرَوْنَ الآخَرِينَ، يَطُوفُ عَلَيْهِمُ الْمُؤْمِنُ» انتهى، و{مُدْهَامَّتَانِ} معناه: قد علا لَوْنَهُمَا دُهْمَةٌ وَسَوَادٌ في النَّظْرَةِ والخُضْرَة، قال البخاريُّ: {مُدْهَامَّتَانِ}: سودَاوَانِ من الرِّيِّ، انتهى، والنَّضَّاخَةُ: الفَوَّارَةُ التي يَهِيجُ ماؤُها، وكَرَّرَ النخلَ والرُّمَّانَ، وهما من أفضل الفاكهة؛ تشريفًا لهما، وقالت أُمُّ سَلَمَةَ: «قلتُ: يا رسول اللَّه، أَخْبِرْنِي عَنْ قول اللَّهِ تعالى: {خيرات حِسَانٌ} قال: خَيْرَاتُ الأَخْلاَقِ، حِسَانُ الْوُجُوهِ» وقرئ شاذًّا: (خَيِّرَاتٌ) بِشَدِّ الياء المكسورة.
وفي (صحيح البخاريِّ) من حديث أنس عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لَرَوْحَة في سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ غَدْوَةٌ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَقَابُ قَوْسِ أَحَدِكُمْ في الْجَنَّةِ أَوْ مَوْضِعُ قَيْدِ سَوْطِهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا، وَلَوْ أَنَّ امرأة مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ اطلعت إلَى أَهْلِ الأَرْضِ لأَضَاءَتْ مَا بَيْنَهُمَا وَلَمَلأَتْهُ رِيحًا، وَلَنَصِيفُهَا على رَأْسِهَا يعني الخِمَارَ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا» وقوله سبحانه: {مقصورات} أي: محجوبَاتٌ مَصُونَاتٌ في الخيام، وخيامُ الجَنَّةِ بُيُوتُ اللؤلؤ، قال عمر بن الخَطَّاب رضي اللَّهُ عنه: هي دُرٌّ مُجَوَّفٌ، ورواه ابن مَسْعَودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم. قال الداوديُّ: وعن ابن عباس: والخيمة لؤلؤة مجوَّفة فَرْسَخٌ في فَرْسَخٍ، لها أربعة آلاف مِصْرَاعٍ، انتهى.
و{الرَّفْرَفُ}: ما تدلى من الأَسِرَّةِ من عالي الثياب والبُسُطِ، وقاله ابن عَبَّاس وغيره، وما يتدلى حول الخِبَاءِ مِنَ الْخِرْقَةِ الهَفَّافَةِ يُسَمَّى رَفْرَفًا، وكذلك يُسَمِّيه الناسُ اليومَ، وقيل غَيْرُ هذا، وما ذكرناه أصْوَبُ، والعَبْقَرِيُّ: بُسُطٌ حِسَانٌ، فيها صُوَرٌ وغَيْرُ ذلك، تُصْنَعُ بعَبْقَر، وهو موضعٌ يُعْمَلُ فيه الوشْيُ والدِّيبَاجُ ونحوه، قال ابن عباس: العَبْقَرِيُّ: الزَّرَابِيُّ، وقال ابن زيد: هي الطَّنَافِس، قال الخليل والأصمعيُّ: العَرَبُ إذا استحسنَتْ شيئًا واستجادَتْهُ قالتْ: عَبْقَرِيٌّ، قال: ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في عُمَرَ: «فَلَمْ أَرَ عَبْقَرِيًّا مِنَ النَّاسِ يَفْرِي فَرِيَّهُ». وقوله سبحانه: {تبارك اسم رَبِّكَ ذِى الجلال والإكرام}: هذا الموضعُ مِمَّا أُرِيدَ فيه بالاسم مُسَمَّاهُ، والدعاءُ بهاتَيْنِ الكلمتَيْنِ حَسَنٌ مَرْجُوُّ الإجابةِ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أَلِظُّوا بـ: يَاذَا الْجَلاَلِ وَالإكْرَامِ».. اهـ.

.قال الألوسي:

{وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ}.
مبتدأ وخبر أي ومن دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر جنتان أخريان، قال ابن زيد والأكثرون الأوليان للسابقين وهاتان لأصحاب اليمين.
وقد أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم: «في قوله تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46] وقوله سبحانه: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} قال: جنتان من ذهب للمقربين وجنتان من ورق لأصحاب اليمين» وقال الحسن: الأوليان للسابقين والأخريان للتابعين، وروي موقوفًا وصححه الحاكم عن أبي موسى، وزعم بعضهم أن الأوليين للخائفين والأخريين لذرياتهم الذين ألحقوا بهم ولم أجد له مستندًا من الآثار، وحكي في (البحر) عن ابن عباس أنه قال: {وَمِن دُونِهِمَا} في القرب للمنعمين والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين، وادعى أن الصفات الآتية أمدح من الصفات السابقة ووافقه من وافقه، وسيأتي تمام الكلام في ذلك إن شاء الله تعالى.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ}.
وقوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} صفة لجنتان وسط بينها الاعتراض لما تقدم من التنبيه على أن تكذيب كل من الموصوف والصفة حقيق بالإنكار والتوبيخ أو خبر مبتدأ محذوف أي هما مدهامتان من الدهمة وهي في الأصل على ما قال الراغب سواد الليل ويعبر عن سواد الفرس وقد يعبر بها عن الخضرة الكاملة اللون كما يعبر عنها بالخضرة إذا لم تكن كاملة وذلك لتقاربهما في اللون، ويقال: إدهام ادهيمامًا فهو مدهام على وزن مفعال إذا اسود أو اشتدت خضرته.
وفسرها هنا ابن عباس ومجاهد وابن جبير وعكرمة وعطاء بن أبي رباح وجماعة بخضراوان، بل أخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه قال: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} فقال عليه الصلاة والسلام: خضراوان» والمراد أنهما شديدتا الخضرة والخضرة إذا اشتدت ضربت إلى السواد وذلك من الري من الماء كما روي عن ابن عباس وابن الزبير وأبي صالح قيل: إن في وصف هاتين الجنتين بما ذكر إشعارًا بأن الغالب عليهما النبات والرياحين المنبسطة على وجه الأرض كما أن في وصف السابقتين بذواتا أفنان إشعارًا بأن الغالب عليهما الأشجار فإن الأشجار توصف بأنها ذوات أفنان والنبات يوصف بالخضرة الشديدة فالاقتصار في كل منهما على أحد الأمرين مشعر بما ذكر وبني على هذا كون هاتين الجنتين دون الأوليين في المنزلة والقدر كيف لا والجنة الكثيرة الظلال والثمار أعلى وأغلى من الجنة القليلة الظلال والثمار، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين الجنتين مع اختصاص الوصف بالخضرة بالنبات وكذا كونه أغلب من وصف الأشجار به فكثيرًا ما تسمع الناس يقولون إذا مدحوا بستانًا أشجاره خضر يانعة وهو أظهر في مدحه بأنه ذو ثمار من ذي أفنان، وهو يشعر أيضًا بكثرة مائه والاعتناء بشأنه وبعده عن التصوح والهلاك.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ} فوارتان بالماء على ما هو الظاهر، وفي (البحر) النضخ فوران الماء، وفي (الكشاف).
وغيره النضخ أكثر من النضخ بالحاء المهملة لأنه مثل الرش وهو عند من فضل الجنتين الأوليين دون الجري، فالمدح به دون المدح به، وعليه قول البراء بن عازب فيما أخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم العينان اللتان تجريان خير من النضاحتين، ومن ذهب إلى تفضيل هاتين يقول في الفوران جري مع زيادة حسن فإن الماء إذا فار وارتفع وقع متناثر القطرات كحبات اللؤلؤ المتناثرة كما يشاهد في الفوارات المعروفة، أو يقول بما أخرجه ابن أبي شيبة وابن أبي حاتم عن أنس {نَضَّاخَتَانِ} بالمسك والعنبر تنضخان على دور الجنة كما ينضخ المطر على دور أهل الدنيا، أو بما أخرجه ابن أبي شيبة وعبد بن حميد عن مجاهد {نَضَّاخَتَانِ} بالخير، ولفظ ابن أبي شيبة بكل خير.
{فَبِأَىّ ءالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ فِيهِمَا فاكهة وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عطف الأخيرين على الفاكهة عطف جبريل وميكال عليهما السلام على الملائكة بيانًا لفضلهما، وقيل: إنهما في الدنيا لما لم يخلصا للتفكه فإن النخل ثمرة فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء عدًا جنسًا آخر فعطفا على الفاكهة وإن كان كل ما في الجنة للتفكه لأنه تلذذ خالص، ومنه قال الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: إذا حلف لا يأكل فاكهة فأكل رمانًا أو رطبًا لم يحنث، وخالفه صاحباه ثم إن نخل الجنة ورمانها وراء ما نعرفه.
أخرج ابن المبارك وابن أبي شيبة وهناد وابن أبي الدنيا وابن المنذر والحاكم وصححه وآخرون عن ابن عباس نخل الجنة جذوعها زمرد أخضر وكرانيفها ذهب أحمر وسعفها كسوة أهل الجنة منها مقطعاتهم وحللهم وثمرها أمثال القلال أشد بياضًا من اللبن وأحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم وحكمه حكم المرفوع.
وفي حديث أبي سعيد الخدري مرفوعًا أصوله فضة وجذوعه فضة وسعفه حلل وحمله الرطب إلخ.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن عساكر عن أبي سعيد مرفوعًا قال عليه الصلاة والسلام: «نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كمثل البعير المقتب» وهذا المدح بحسب الظاهر دون المدح في قوله تعالى في الجنتين السابقتين: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} [الرحمن: 52] ومن ذهب إلى تفضيلهما يقول إن التنوين في فاكهة للتعميم بقرينة المقام نظير ما قيل في قوله تعالى: {عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا أَحْضَرَتْ} [التكوير: 14] فيكون في قوة فيها كل {فاكهة} ويزيد ما في (النظم الجليل) على ما ذكر بتضمنه الإشارة إلى مدح بعض أنواعها، وقال الإمام الرازي: إن {مَا} هنا كقوله تعالى: {فِيهِمَا مِن كُلّ فاكهة زَوْجَانِ} وذلك لأن الفاكهة أنواع أرضية وشجرية كالبطيخ وغيره من الأرضيات المزروعات والنخل وغيرها من الشجريات فقال تعالى: {مُدْهَامَّتَانِ} [الرحمن: 64] لأنواع الخضر التي فيها الفواكه الأرضية، وفيها أيضًا الفواكه الشجرية وذكر سبحانه منها نوعين الرطب والرمان لأنهما متقابلان أحدهما حلو والآخر فيه حامض، وأحدهما حار والآخر بارد، وأحدهما فاكهة وعذاء والآخر فاكهة، واحدهما من فواكه البلاد الحارة والآخر من فواكه البلاد الباردة، وأحدهما أشجاره تكون في غاية الطول والآخر ليس كذلك، وأحدهما ما يؤكل منه بارز وما لا يؤكل كامن والآخر بالعكس فهما كالضدين، والإشارة إلى الطرفين تتناول الإشارة إلى ما بينهما كما في قوله تعالى: {رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين} [الرحمن: 17] انتهى، ولعل الأول أولى.