فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وإنه لفرق بين هؤلاء وأولئك، وإن كن جميعا على صورة من الحسن والجمال لم تقع العين على مثلها..
ففي قوله تعالى في حور الجنتين العاليتين {قاصِراتُ الطَّرْفِ} إشارة إلى ما في هؤلاء الحوريات من خفر، وحياء، وعفة، وأن ذلك في أصل خلقهن.. وفي قوله تعالى في حور الجنتين الأخريين: {حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ}- إشارة إلى أن هؤلاء الحوريات قد قصرتهن الخيام وحجبتهن عن العيون، وحجبت العيون عنهن.. وهذا لا يمنع من أن يكون لهن ما لأخواتهن من الخفر والحياء..
ولكن شتان بين خفر وحياء مطلقين، وخفر وحياء مقصورين، مقيدين.. ذاك قد امتحن وجرب، فظل ثابتا، لم تنل منه التجربة والامتحان، وهذا لم يمتحن ولم يجرب بعد!.
وقوله تعالى: {حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ} هو بدل مبيّن لقوله تعالى: {خَيْراتٌ حِسانٌ} فالخيرات الحسان، هن أولئك الحور المقصورات في الخيام..
والحور: جمع حوراء، وهى ما طاف بمقلتيها طائف من السواد الطبيعي، أشبه بالكحل، يزيد العيون حسنا، ويلقى عليها فتنة وسحرا..
يقول جرير:
إن العيون التي في طرفها حور ** قتلننا ثم لم يحيين قتلانا

يصرعن ذا اللب حتى لا حراك به ** وهن أضعف خلق اللّه إنسانا!

قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}.
مضى تفسير هذه الآية فيما سبق..
قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسانٍ فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ}..
هو مقابل لقوله تعالى في وصف حال أهل الجنتين العاليتين: {مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ}..
الرفرف: المسند، ووصف بلفظ الجمع {خضر}- إشارة إلى أن لكل من أهل الجنة مسندا خاصا يتكىء عليه.. والمساند جميعها ذات لون واحد.. فهى مفردة في صفوفها، جمع في لونها..
والعبقرىّ: الجيد من البسط: الخارق للعادة في دقة صنعه..
والعبقري: نسبة إلى {عبقر}- وهو واد كانت العرب تعتقد في جاهليتها أنه موطن الجن، وإلى الجن تنسب الأعمال الخارقة التي تتجاوز حدود الطاقة البشرية، ومنه سمى {العبقري} وهو الذي يجىء في أفعاله بالخارق والمعجز لغيره.
وهنا فرق آخر يظهر في متّكأ أصحاب كلّ من الجنتين العاليتين، والجنتين الواقعتين تحتهما..
فعلى حين يتكىء أصحاب الجنتين الأوليين على فرش بطائنها من ديباج، وحشوها من حرير، وعلى حين أن هذا الاتكاء لا يباعد بينهم وبين ثمر الجنة الذي يكون بين أيديهم في أي وضع يكونون عليه، كما يقول سبحانه: {مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ}- يكون متكأ أصحاب الجنتين الأخريين على رفارف أي مساند خضر، لم تعرف المادة المشكلة منها.. أهى حرير أم غير حرير، وإن عرف أن هذه المساند مبثوثة على بسط حسان، كما لم يعرف إن كان هذا الاتكاء يباعد بين المتكئين وبين ثمر الجنة، فلا تناله أيديهم إلا إذا غيروا من وضعهم، واعتدلوا في جلستهم.. أم أنهم ينالونه من قريب؟.
ونعود مرة أخرى فنقول، إن هذه التفرقة بين حال أصحاب الجنة، هي أمر لازم، يقضى به عدل اللّه، فكما فرق هذا العدل بين المحسنين والمسيئين، فأنزل هؤلاء الجنة، وأنزل أولئك النار- كذلك فرق هذا العدل بين المحسنين أنفسهم، فأخذ كلّ منهم منزلته حسب إحسانه.. وبهذا يعمل المحسنون على أن يزدادوا إحسانا. حتى لا يقصّر بهم سعيهم، ويسبقهم السابقون إلى الدرجات العلا.. وهذا ما يشير إليه قوله تعالى: {وَلِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [132: الأنعام].
قوله تعالى: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ}.
وبهذه الآية الكريمة، تختم السورة الكريمة، حيث يلتقى ختامها مع بدئها هذا اللقاء المبارك الميمون الذي يزاوج بين رحمة الرحمن، وكرم الكريم.. فلقد بدئت السورة بالاسم الجليل {الرحمن}.
وختمت بالتبريك لهذا الاسم العظيم، الذي يتجلى على عباده بجلاله، وعظمته وكرمه!.
فالاسم المشار إليه في قوله تعالى: {تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ} هو هذا الاسم الكريم {الرحمن} الذي بدئت به السورة، والذي عرضت فيه آياتها آلاء اللّه ونعمه التي أفاضها على عباده، وكان من حق كل نعمة منها أن يلقاها الثقلان بالحمد والشكر، وإن كان حمدهما وشكرهما لا يقوم بحق نعمة منها..
ولهذا كان اللّه سبحانه وتعالى هو الذي بارك نفسه، وحمد ذاته، ليجبر تقصير العباد، وليؤدى عنهم هذا الدّين الذي عجزوا عن أدائه، حتى لا يقطع عنهم أمداد هذه النعم، ولا يأخذهم بعجزهم وتقصيرهم عن أداء حق شكرها وحمدها.. فسبحانه، سبحانه، من رب رحمن، رحيم، كريم.. يوالى النعم على عباده، ثم يقوم عنهم بأداء الشكر عليها، والحمد لها..
يقول الإمام النسفي: كررت هذه الآية- أي {فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ} إحدى وثلاثين مرة، ذكر ثمانية منها عقب آيات فيها تعداد عجائب خلق اللّه وبدائع صنعه، ومبدأ الخلق ومعادهم، ثم سبعة منها عقب آيات فيها ذكر النار وشدائدها، على عدد أبواب جهنم، وبعد هذه السبعة، ثمانية في وصف الجنتين وأهلهما على عدد أبواب الجنة، وثمانية أخرى بعدها للجنتين اللتين دونهما، فمن اعتقد الثمانية الأولى (أي المذكورات في أول السورة) وعمل بموجبها فتحت له أبواب الجنة، وأغلقت عنه أبواب جهنم، نعوذ باللّه منها.. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62)}.
عطف على قوله: {جنتان} [الرحمن: 46]، أي ومن دون تينك الجنتين جنتان، أي لمن خاف مقام ربه.
ومعنى {من دونهما} يحتمل أن (دون) بمعنى (غير)، أي ولمن خاف مقام ربه جنتان وجنتان أخريان غيرهما، كقوله تعالى: {للذين أحسنوا الحسنى وزيادة} [يونس: 26].
ووُصف ما في هاتين الجنتين بما يقارب ما وصف به ما في الجنتين الأوليين وصفًا سُلك فيه مسلك الإِطناب أيضًا لبيان حسنهما ترغيبًا في السعي لنيلهما بتقوى الله تعالى فذلك موجب تكرير بعض الأوصاف أو ما يقرب من التكرير بالمترادفات.
ويكون لكل الجنات الأربع حُور مقصورات لا ينتقلن من قصورهن، ويجوز أن تكون (دون) بمعنى أقل، أي لنزول المرتبة، أي ولمن خاف مقام ربه جنتان أقلّ من الأولين فيقتضي ذلك أن هاتين الجنتين لطائفة أخرى ممن خافوا مقام ربهم هم أقل من الأولين في درجة مخافة الله تعالى.
ولعل هاتين الجنتين لأصحاب اليمين الذين ورد ذكرهم في سورة الواقعة والجنتين المذكورتين قبلهما في قوله: {جنتان ذواتا أفنان} [الرحمن: 46، 48] إلى آخر الوصف جنتا السابقين الوارد ذكرهم قوله في سورة الواقعة (10) {والسابقون السابقون} الآيات.
و{مدهامتان} وصف مشتق من الدُّهمة بضم الدال وهي لون السواد.
ووصف الجنتين بالسواد مبالغة في شدة خضرة أشجارهما حتى تكونا بالتفاف أشجارها وقوة خضرتها كالسوداوين لأن الشجر إذا كان ريّان اشتدت خضرة أوراقه حتى تقرب من السواد، وقد أخذ هذا المعنى أبو تمام وركَّب عليه فقال:
يا صاحبيَّ تقصَّيَا نَظَريكُما ** تَريا وجوهَ الأرض كيف تَصوَّر

تريا نهارًا مشمِسًا قد شابَهُ ** زَهْرُ الرُّبى فكأنما هو مقمر

و{نضاختان}: فوّارتان بالماء، والنضخ بخاء معجمة في آخره أقوى من النضح بالحاء المهملة الذي هو الرَّش.
وقد وصف العينان هنا بغير ما وصف به العينان في الجنتين المذكورتين، فقِيل: هما صنفان مختلفان في أوصاف الحسن يُشير اختلافهما إلى أن هاتين الجنتين دون الأولَيْن في المحاسن ولذلك جاء هنا {فيهما فاكهة ونخل ورمان}، وجاء فيما تقدم {فيهما من كل فاكهة زوجان} [الرحمن: 52].
وقيل: الوصفان سواء، وعليه فالمخالفة بين الصنفين من الأوصاف تفنّن.
وعطف {ونخل ورمان} على {فاكهة} من باب عطف الجزئي على الكلّي تنويهًا ببعض أفراد الجنتين كما قال تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} في سورة البقرة (98).
وجاءت جمل {فبأي آلاء ربكما تكذبان} معترضات بين {جنتان} وصفاتها اعتراضًا للازدياد من تكرير التقرير والتوبيخ لمن حرموا من تلك الجنات.
{فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71)}.
ضمير {فيهن} عائد إلى الجنات الأربع الجنتين الأوليين والجنتين اللتين من دونهما فيجوز أن يكون لصاحب الجنتين الأُوَلَيْن جنتان أخريان فصارت له أربع جنات.
ويجوز أن يكون توزيعًا على من خافوا ربهم كما تقدم.
و{وخيرات} صفة لمحذوف يناسب صيغة الوصف، أي نساء خَيْرات، وخيرات مخفف من خيرات بتشديد الياء مؤنث خيّر وهو المختص بأن صفته الخير ضد الشر.
وخفف في الآية طلبًا لخفة اللفظ مع السلامة من اللبس بما أتبع به من وصف {حسان} الذي هو جمع حسناء كما خفف هين ولين في قول الشاعر:
هَيْنُون لَيْنُون

ومعنى {خيرات} أنهن فاضلات النفس كرائم الأخلاق.
ومعنى حِسان: أنهم حسان الخَلْق، أي صفات الذوات.
و{حور} بدل من {خيرات}.
والحُور: جمع حَوراء وهي ذات الحَوَر بفتح الواو، وهو وصف مركب من مجموع شدة بياض أبيض العين وشدة سواد أسودها وهو من محاسن النساء، وتقدم عند قوله تعالى: {وزوجناهم بحور عين} في سورة الدخان (54).
ووصف نساء الجنتين الأوليين بقاصرات الطرف.
ووصف نساء الجنات الأربع بأنهن {حور مقصورات} في الخيام، فعلم أن الصفات الثابتة لنساء الجنتين واحدة.
والمقصورات: اللاَّءِ قُصِرت على أزواجهن لا يعدون الأنس مع أزواجهن، وهو من صفات الترف في نساء الدنيا فهنّ اللاء لا يحتجن إلى مغادرة بيوتهن لخدمة أو وِرد أو اقتطاف ثمار، أي هن مخدومات مكرمات كما قال أبو قيس بن الأسلت:
ويكرمها جاراتها فيزرْنَها ** وتَعْتَلَّ عن إتيانهن فتُعذر

والخيام: جمع خَيمة وهي البيت، وأكثر ما تقال على البيت من أدم أو شعر تقام على العَمَد وقد تطلق على بيت البناء.
واعترض بجملة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} بين البدل والمبدل منه وبين الصفتين لقصد التكرير في كل مكان يقتضيه.
وتقدم القول في {لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان} آنفًا (56).
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75)}.
تكرير في آخر الأوصاف لزيادة التقرير والتوبيخ.
{مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76)}.
و{متكئين}: حال من {ولمن خاف مقام ربه} كررت بدون عطف لأنها في مقام تعداد النعم وهو مقام يقتضي التكرير استئنافًا.
والرفرف: ضرب من البسط، وهو اسم جمع رَفرفة، وهي ما يبسط على الفراش ليُنام عليه، وهي تنسج على شبه الرياض ويغلب عليها اللون الأخضر، ولذلك شبه ذو الرمة الرياض بالبسط العبقرية في قوله: