فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



حتّى كأنَّ رياض القُف ألبسَها ** مِن وَشْي عَبقَرَ تجْليل وتنجيد

فوصفها في الآية بأنها {خضر} وصف كاشف لاستحضار اللون الأخضر لأنه يسرّ الناظر.
وكانت الثياب الخضر عزيزة وهي لباس الملوك والكبراء، قال النابغة:
يصونون أجسادًا قديمًا نعيمُها ** بخالصة الأرْدَان خُضْرِ المناكب

وكانت الثياب المصبوغة بالألوان الثابتة التي لا يزيلها الغسل نادرة لقلة الأصباغ الثابتة ولا تكاد تعدو الأخضر والأحمر ويسمّى الأرجواني.
وأما المتداول من إصباغ الثياب عند العرب فهو ما صُبغ بالورس والزعفران فيكون أصفر، وما عدا ذلك فإنما لونه لون ما ينسج منه من صوف الغنم أبيض أو أسود أو من وبر أو من كتان أبيض أو كان من شَعَر المعز الأسود.
و{حسان}: جمع حسناء وهو صفة ل {رفرف} إذ هو اسم جمع.
وعبقري: وصف لما كان فائقًا في صنفه عزيز الوجود وهو نسبة إلى عبقر بفتح فسكون ففتح اسم بلاد الجنّ في معتقد العرب فَنَسَبوا إليه كل ما تجاوز العادة في الإِتقان والحسن، حتى كأنه ليس من الأصناف المعروفة في أرض البشر، قال زهير:
بِخَيْل عليها جِنة عبقرية ** جديرون يومًا أن ينَالوا ويسْتَعْلُوا

فشاع ذلك فصار العبقري وصفًا للفائق في صنفه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما حكاه من رؤيا القليب الذي استسقَى منه «ثم أخذها (أي الذَنوبَ) عُمر فاستحالت غَربًا فلم أَرَ عَبقَريًّا يَفري فَرِيَّة».
وإلى هذا أشار المعري بقوله:
وقد كان أرباب الفصاحة كلما ** رَأوا حَسَنًا عَدُّوه من صنعَة الجن

فضربه القرآن مثلًا لما هو مألوف عند العرب في إطلاقه.
{فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77)}.
هذه الجملة آخر الجمل المكررة وبها انتهى الكلام المسوق للاستدلال على تفرد الله بالإِنعام والتصرف.
{تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)}.
إيذان بانتهاء الكلام وفذلكة لما بنيت عليه السورة من التذكير بعظمة الله تعالى ونعمائه في الدنيا والآخرة.
والكلام: إنشاء ثناء على الله تعالى مبالغ فيه بصيغة التفعل التي إذا كان فعلها غير صادر من اثنين فالمقصود منها المبالغة.
والمعنى: وصفه تعالى بكمال البركة، والبركة: الخير العظيم والنفع، وقد تطلق البركة على علو الشأن، وقد تقدم ذلك في أول سورة الفرقان.
والاسم ما دل على ذات سواء كان علَمًا مثل لفظ (الله) أو كان صفة مثل الصفات العُلى وهي الأسماء الحسنى، فأيّ اسم قدرت من أسماء الله فهو دال على ذات الله تعالى.
وأسند {تبارك} إلى {اسم} وهو ما يُعرف به المسمى دون أن يقول: تبارك ربك، كما قال: {تبارك الذي نزل الفرقان} [الفرقان: 1] وكما قال: {فتبارك الله أحسن الخالقين} [المؤمنون: 14] لقصد المبالغة في وصفه تعالى بصفة البركة على طريقة الكناية لأنها أبلغ من التصريح كما هو مقرر في علم المعاني، وأطبق عليه البلغاء لأنه إذا كان اسمه قد تبارك فإن ذاته تباركت لا محالة لأن الاسم دال على المسمى، وهذا على طريقة قوله تعالى: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] فإنه إذا كان التنزيه متعلقًا باسمه فتعلق التنزيه بذاته أَولى ومنه قوله تعالى: {وثيابك فطهر} [المدثر: 4] على التأويل الشَّامل، وقول عنترة:
فشككت بالرمح الأصمّ ثيابه ** ليسَ الكريم على القنا بمحرم

أراد: فشككتْهُ بالرمح.
وأما قوله: {فسبح باسم ربك العظيم} [الواقعة: 96] فهو يحتمل أن يكون من قبيل {فسبح بحمد ربك} [النصر: 3] على أن المراد أن يقول كلامًا فيه تنزيه الله فيكون من قبيل قوله: {بسم الله الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 1] ويحتمل زيادة الباء فيكون مساويًا لقوله: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1].
وهذه الكناية من دقائق الكلام كقولهم: لا يتعلق الشك بأطرافه وقول...:
يبيت بنجاةٍ من اللؤم بيتُها ** إذا ما بيوت بالملامة حُلّت

ونظير هذا في التنزيه أن القرآن يَقرأ ألفاظه من ليس بمتوضىء ولا يمسك المصحف إلا المتوضىءُ عند جمهور الفقهاء.
فذكر {اسم} في قوله: {تبارك اسم ربك} مراعىً فيه أن ما عُدّد من شؤون الله تعالى ونعمه وإفضاله لا تحيط به العبارة، فعبّر عنه بهذه المبالغة إذ هي أقصى ما تسمح به اللغة في التعبير، ليعلم الناس أنهم محقوقون لله تعالى بشكرٍ يوازي عظم نعمه عليهم.
وفي استحضار الجلالة بعنوان (رب) مضافًا إلى ضمير المخاطب وهو النبي صلى الله عليه وسلم إشارة إلى ما في معنى الرب من السيادة المشوبة بالرأفة والتنمية، وإلى ما في الإضافة من التنويه بشأن المضاف إليه وإلى كون النبي صلى الله عليه وسلم هو الواسطة في حصول تلك الخيرات للذين خافوا مقام ربهم بما بلغهم النبي صلى الله عليه وسلم من الهدى.
وقرأ الجمهور {ذي الجلال} بالياء مجرورًا صفة ل {ربك} وهو كذلك مرسوم في غير المصحف الشامي.
وقرأه ابن عامر {ذو الجلال} صفة ل {اسم} كما في قوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} [الرحمن: 27].
وكذلك هو مرسوم في غير مصحف أهل الشام.
والمعنى واحد على الاعتبارين.
ولكن إجماع القراء على رفع {ذو الجلال} الواقع موقع {ويبقى وجه ربك} واختلاف الرواية في جرّ {ذي الجلال} هنا يشعر بأن لفظ {وجه} أقوى دلالة على الذات من لفظ {اسم} لما علمت من جواز أن يكون المعنى جريان البركة على التلفظ بأسماء الله بخلاف قوله: {ويبقى وجه ربك} فذلك من حكمة إنزال القرآن على سبعة أحرف.
والجلال: العظمة، وهو جامع لصفات الكمال اللائقة به تعالى.
والإكرام: إسداء النعمة والخير، فهو إذن حقيق بالثناء والشكر. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60)}.
{هل جزاء الإحسان} في العمل، {إلا الإحسان} في الثواب؟ وقيل: هل جزاء التوحيد إلا الجنة؟ وقرأ ابن أبي إسحاق: {إلا الحسان} يعني: بالحسان الحور العين.
{ومن دونهما}: أي من دون تينك الجنتين في المنزلة والقدر، {جنتان} لأصحاب اليمين، والأوليان هما للسابقين، قاله ابن زيد والأكثرون.
وقال الحسن: الأوليان للسابقين، والأخريان للتابعين.
وقال ابن عباس: {ومن دونهما} في القرب للمنعمين، والمؤخرتا الذكر أفضل من الأوليين.
يدل على ذلك أنه وصف عيني هاتين بالنضخ، وتينك بالجري فقط؛ وهاتين بالدهمة من شدة النعمة، وتينك بالأفنان، وكل جنة ذات أفنان.
ورجح الزمخشري هذا القول فقال: للمقربين جنتان من دونهم من أصحاب اليمين ادهامتا من شدة الخضرة، ورجح غيره القول الأول بذكر جري العينين والنضخ دون الجري، وبقوله فيهما: {من كل فاكهة}، وفي المتأخرتين: {فيهما فاكهة}، وبالاتكاء على ما بطائنه من ديباج وهو الفرش، وفي المتأخرتين الاتكاء على الرفرف، وهو كسر الخباء، والفرش المعدة للاتكاء أفضل، والعبقري: الوشي، والديباج أعلى منه، والمشبه بالياقوت والمرجان أفضل في الوصف من خيرات حسان، والظاهر النضخ بالماء، وقال ابن جبير: بالمسك والعنبر والكافور في دور أهل الجنة، كما ينضخ رش المطر.
وعنه أيضًا بأنواع الفواكه والماء.
{ونخل ورمان} عطف فاكهة، فاقتضى العطف أن لا يندرجا في الفاكهة، قاله بعضهم.
وقال يونس بن حبيب وغيره: كررهما وهما من أفضل الفاكهة تشريفًا لهما وإشارة بهما، كما قال تعالى: {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وقيل: لأن النخل ثمره فاكهة وطعام، والرمان فاكهة ودواء، فلم يخلصا للتفكه.
{فيهن خيرات}، جمع خيرة: وصف بني على فعلة من الخير، كما بنوا من الشر فقالوا: شرة.
وقيل: مخفف من خيرة، وبه قرأ بكر بن حبيب وأبو عثمان النهدي وابن مقسم، أي بشدّ الياء.
وروي عن أبي عمرو بفتح الياء، كإنه جمع خايرة، جمع على فعلة، وفسر الرسول-صلى الله عليه وسلم- لأم سلمة ذلك فقال: «خيرات الأخلاق حسان الوجوه» {حور مقصورات}: أي قصرن في أماكنهن، والنساء تمدح بذلك، إذ ملازمتهن البيوت تدل على صيانتهن، كما قال قيس بن الأسلت:
وتكسل عن جاراتها فيزرنها ** وتغفل عن أبياتهن فتعذر

قال الحسن: لسن بطوافات في الطرق، وخيام الجنة: بيوت اللؤلؤ.
وقال عمر بن الخطاب: هي در مجوف، ورواه عبد الله عن النبي-صلى الله عليه وسلم-.
{لم يطمثهن إنس قبلهم}: أي قبل أصحاب الجنتين، ودل عليهم ذكر الجنتين.
{متكئين}، قال الزمخشري: نصب على الاختصاص.
{على رفرف}، قال ابن عباس وغيره: فضول المجلس والبسط.
وقال ابن جبير: رياض الجنة من رف البيت تنعم وحسن.
وقال ابن عيينة: الزرابي، وقال الحسن وابن كيسان: المرافق، وقرأ الفراء وابن قتيبة: {المجالس} {وعبقري}، قال الحسن: بسط حسان فيها صور وغير ذلك يصنع بعبقر.
وقال ابن عباس: الزرابي، وقال مجاهد: الديباج الغليظ.
وقال ابن زيد: الطنافس، قال الفراء: الثخان منها.
وقرأ الجمهور: {على رفرف}، ووصف بالجمع لأنه اسم جنس، الواحد منها رفرفة، واسم الجنس يجوز فيه أن يفرد نعته وأن يجمع لقوله: {والنخل باسقات} وحسن جمعه هنا مقابلته لحسان الذي هو فاصلة.
وقال صاحب اللوامح، وقرأ عثمان بن عفان، ونصر بن عاصم، والجحدري، ومالك بن دينار، وابن محيصن، وزهير العرقبي وغيره: {رفارف} جمع لا ينصرف، خضر بسكون الضاد، {وعباقري} بكسر القاف وفتح الياء مشددة؛ وعنهم أيضًا: ضم الضاد؛ وعنهم أيضًا: فتح القاف.
قال: فأما منع الصرف من عباقري، وهي الثياب المنسوبة إلى عبقر، وهو موضع تجلب منه الثياب على قديم الأزمان، فإن لم يكن بمجاورتها، وإلا فلا يكون يمنع التصرف من ياءي النسب وجه إلا في ضرورة الشعر. انتهى.
وقال ابن خالويه: على رفارف خضر، وعباقري النبي-صلى الله عليه وسلم- والجحدري وابن محيصن.
وقد روي عمن ذكرنا على رفارف خضر وعباقري بالصرف، وكذلك روي عن مالك بن دينار.
وقرأ أبو محمد المروزي، وكان نحويًا: {على رفارف خضار}، يعني: على وزن فعال.
وقال صاحب الكامل: رفارف جمع، عن ابن مصرف وابن مقسم وابن محيصن، واختاره شبل وأبو حيوة والجحدري والزعفراني، وهو الاختيار لقوله: {خضر}، و{عباقري} بالجمع وبكسر القاف من غير تنوين، ابن مقسم وابن محيصن، وروي عنهما التنوين.
وقال ابن عطية، وقرأ زهير العرقبي: {رفارف} بالجمع والصرف، وعنه: {عباقري} بفتح القاف والياء، على أن اسم الموضع عباقر بفتح القاف، والصحيح في اسم الموضع عبقر. انتهى.
وقال الزمخشري، وروى أبو حاتم: عباقري بفتح القاف ومنع الصرف، وهذا لا وجه لصحته. انتهى.