فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الفخر:

اعلم أنه تعالى لما بالغ في الزجر عن الربا، وكان قد بالغ في الآيات المتقدمة في الأمر بالصدقات، ذكر هاهنا ما يجري مجرى الدعاء إلى ترك الصدقات وفعل الربا، وكشف عن فساده، وذلك لأن الداعي إلى فعل الربا تحصيل المزيد في الخيرات، والصارف عن الصدقات الاحتراز عن نقصان الخير فبين تعالى أن الربا وإن كان زيادة في الحال، إلا أنه نقصان في الحقيقة، وأن الصدقة وإن كانت نقصانًا في الصورة، إلا أنها زيادة في المعنى، ولما كان الأمر كذلك كان اللائق بالعاقل أن لا يلتفت إلى ما يقضي به الطبع والحس من الدواعي والصوارف، بل يعول على ما ندبه الشرع إليه من الدواعي والصوارف فهذا وجه النظم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

المحق نقصان الشيء حالا بعد حال، ومنه المحاق في الهلال يقال: محقه الله فانمحق وامتحق، ويقال: هجير ماحق إذا نقص في كل شيء بحرارته. اهـ.
وقال الفخر:
اعلم أن محق الربا وإرباء الصدقات يحتمل أن يكون في الدنيا، وأن يكون في الآخرة، أما في الدنيا فنقول: محق الربا في الدنيا من وجوه:
أحدها: أن الغالب في المرابي وإن كثر ماله أنه تؤول عاقبته إلى الفقر، وتزول البركة عن ماله، قال صلى الله عليه وسلم: «الربا وإن كثر فإلى قُلّ».
وثانيها: إن لم ينقص ماله فإن عاقبته الذم، والنقص، وسقوط العدالة، وزوال الأمانة، وحصول اسم الفسق والقسوة والغلظة.
وثالثها: أن الفقراء الذين يشاهدون أنه أخذ أموالهم بسبب الربا يلعنونه ويبغضونه ويدعون عليه، وذلك يكون سببًا لزوال الخير والبركة عنه في نفسه وماله.
ورابعها: أنه متى اشتهر بين الخلق أنه إنما جمع ماله من الربا توجهت إليه الأطماع، وقصده كل ظالم ومارق وطماع، ويقولون: إن ذلك المال ليس له في الحقيقة فلا يترك في يده، وأما إن الربا سبب للمحق في الآخرة فلوجوه:
الأول: قال ابن عباس رضي الله عنهما: معنى هذا المحق أن الله تعالى لا يقبل منه صدقة ولا جهادًا، ولا حجًا، ولا صلة رحم.
وثانيها: إن مال الدنيا لا يبقى عند الموت، ويبقى التبعة والعقوبة، وذلك هو الخسار الأكبر.
وثالثها: أنه ثبت في الحديث أن الأغنياء يدخلون الجنة بعد الفقراء بخمسمائة عام، فإذا كان الغني من الوجه الحلال كذلك، فما ظنك بالغني من الوجه الحرام المقطوع بحرمته كيف يكون، فذلك هو المحق والنقصان.
وأما إرباء الصدقات فيحتمل أن يكون المراد في الدنيا، وأن يكون المراد في الآخرة.
أما في الدنيا فمن وجوه:
أحدها: أن من كان لله كان الله له، فإذا كان الإنسان مع فقره وحاجته يحسن إلى عبيد الله، فالله تعالى لا يتركه ضائعًا في الدنيا، وفي الحديث الذي رويناه فيما تقدم أن الملك ينادي كل يوم «اللّهم يسر لكل منفق خلفًا ولممسك تلفًا».
وثانيها: أنه يزداد كل يوم في جاهه وذكره الجميل، وميل القلوب إليه وسكون الناس إليه وذلك أفضل من المال مع أضداد هذه الأحوال.
وثالثها: أن الفقراء يعينونه بالدعوات الصالحة.
ورابعها: الأطماع تنقطع عنه فإنه متى اشتهر أنه متشمر لإصلاح مهمات الفقراء والضعفاء، فكل أحد يحترز عن منازعته، وكل ظالم، وكل طماع لا يجوز أخذ شيء من ماله، اللّهم إلا نادرًا، فهذا هو المراد بإرباء الصدقات في الدنيا.
وأما إرباؤها في الآخرة فقد روى أبو هريرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقبل الصدقات ولا يقبل منها إلا الطيب، ويأخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى أن اللقمة تصير مثل أحد» وتصديق ذلك بين في كتاب الله: {أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات} [التوبة: 104] {يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِى الصدقات} [البقرة: 276].
قال القفال رحمه الله تعالى: ونظير قوله: {يَمْحَقُ الله الربا} المثل الذي ضربه فيما تقدم بصفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدًا، ونظير قوله: {وَيُرْبِى الصدقات} المثل الذي ضربه الله بحبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَيُرْبِي الصدقات} أي يُنَمِّيها في الدنيا بالبركة ويُكثر ثوابَها بالتضعيف في الآخرة.
وفي صحيح مسلم: «إن صدقة أحدِكم لتقع في يد الله فَيَربِّيها له كما يُرَبِّي أحدُكم فَلُوَّه أو فصيلَه حتى يجيء يوم القيامة وإن اللّقمة لعلى قدر أحُد». اهـ.

.قال ابن عطية:

وقد جعل الله هذين الفعلين بعكس ما يظنه الحريص الجشع من بني آدم، يظن الربا يغنيه وهو في الحقيقة ممحق، ويظن الصدقة تفقره وهي نماء في الدنيا والآخرة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

ولما جعل المحق بالربا وجُعل الإرباء بالصدقات كانت المقابلة مؤذنة بحذف مقابلين آخرين، والمعنى: يمحق الله الربا ويعاقب عليه، ويربي الصدقات ويبارك لصاحبها، على طريقة الاحتباك. اهـ.

.قال القاسمي:

قال القاشاني عليه الرحمة:
{يمْحَق الله الربا} وإن كان زيادة في الظاهر {ويربي الصدقات} وإن كان نقصانًا في الشاهد، لأنّ الزيادة والنقصان إنما يكونان باعتبار العاقبة والنفع في الدارين. والمال الحاصل من الربا لا بركة له، لأنه حصل من مخالفة الحق فتكون عاقبته وخيمة وصاحبه يرتكب سائر المعاصي إذ كلّ طعام يولد في أكله دواعي وأفعالًا من جنسه، فإن كان حرامًا يدعوه إلى أفعال محرمة، وإن كان مكروهًا فإلى أفعال مكروهة، وإن كان مباحًا فإلى مباحة، وإن كان من طعام الفضل فإلى مندوبات، وكان في أفعاله متبرّعًا متفضلًا، وإن كان بقدر الواجب من الحقوق فأفعاله تكون واجبة ضرورية، وإن كان من الفضول والحظوظ فأفعاله تكون كذلك، فعليه إثم الربا وآثار أفعاله المحرّمة المتولدة من أكله على ما ورد في الحديث: «الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول»، فتزداد عقوباته وآثامه أبدًا، ويتلف الله ماله في الدنيا فلا ينتفع به أعقابه وأولاده فيكون ممن خسر الدنيا والآخرة، وذلك هو المحق الكليّ. وأما المتصدّق، فلكون ماله مزكّى، يبارك الله في تثميره مع حفظ الأصل وآكله لا يكون إلا مطيعًا في أفعاله، ويبقى ماله في أعقابه وأولاده منتفعًا به وذلك هو الزيادة في الحقيقة، ولو لم تكن زيادته إلا ما صرف في طاعة الله لكفى به زيادة، وأيّ زيادة أفضل مما تبقّى عند الله، ولو لم يكن نقصان الربا إلا حصوله من مخالفة الله وارتكاب نهيه لكفى به نقصًا، وأيّ نقصان أفحش مما يكون سبب حجاب صاحبه وعذابه ونقصان حظه عند الله. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} فاعلم أن الكفار فعال من الكفر، ومعناه من كان ذلك منه عادة، والعرب تسمي المقيم على الشيء بهذا، فتقول: فلان فعال للخير أمار به، والأثيم فعيل بمعنى فاعل، وهو الآثم، وهو أيضًا مبالغة في الاستمرار على اكتساب الآثام والتمادي فيه، وذلك لا يليق إلا بمن ينكر تحريم الربا فيكون جاحدًا، وفيه وجه آخر وهو أن يكون الكفار راجعًا إلى المستحيل، والأثيم يكون راجعًا إلى من يفعله مع اعتقاد التحريم، فتكون الآية جامعة للفريقين. اهـ.

.قال ابن عطية:

وقوله تعالى: {والله لا يحب كل كفار أثيم} يقتضي أن الزجر في هذه الآيات للكفار المستحلين للربا القائلين على جهة التكذيب للشرع {إنما البيع مثل الربا} ووصف الكفار ب {أثيم}، إما مبالغة من حيث اختلف اللفظان، وإما ليذهب الاشتراك الذي في كفار، إذ قد يقع على الزارع الذي يستر الحب في الأرض، قاله ابن فورك قال ومعنى قوله: {والله لا يحب} أي لا يحب الكفار الأثيم.
قال القاضي أبو محمد: محسنًا صالحًا بل يريده مسيئًا فاجرًا، ويحتمل أن يريد والله لا يحب توفيق الكفار الأثيم.
وهذه تأويلات مستكرهة، أما الأول فأفرط في تعدية الفعل وحمله من المعنى ما لا يحتمله لفظه، وأما الثاني فغير صحيح المعنى، بل الله تعالى يحب التوفيق على العموم ويحببه، والمحب في الشاهد يكون منه ميل إلى المحبوب ولطف به، وحرص على حفظه، وتظهر دلائل ذلك، والله تعالى يريد وجود الكافر على ما هو عليه، وليس له عنده مزية الحب بأفعال تظهر عليه نحو ما ذكرناه في الشاهد، وتلك المزية موجودة للمؤمن. اهـ.

.قال أبو حيان:

وقال ابن فورك: ذكر الأثيم ليزول الاشتراك الذي في: كفار، إذ يقع على الزارع الذي يستر الأرض. انتهى.
وهذا فيه بعد، إذ إطلاق القرآن: الكافر، والكافرون، والكفار، إنما هو على من كفر بالله، وأما إطلاقه على الزارع فبقرينة لفظية، كقوله: {كمثل غيث أعجب الكفار نباته}. اهـ.

.قال الألوسي:

{والله لاَ يُحِبُّ} لا يرتضي {كُلَّ كَفَّارٍ} متمسك بالكفر مقيم عليه معتاد له {أَثِيمٍ} منهمك في ارتكابه والآية لعموم السلب لا لسلب العموم إذ لا فرق بين واحد وواحد، واختيار صيغة المبالغة للتنبيه على فظاعة آكل الربا ومستحله، وقد ورد في شأن الربا وحده ما ورد فكيف حاله مع الاستحلال؟! أعاذنا الله تعالى من ذلك. فقد أخرج الطبراني والبيهقي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «درهم ربا أشد على الله تعالى من ست وثلاثين زنية» وقال: «من نبت لحمه من سحت فالنار أولى به» وأخرج ابن ماجه وغيره عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الربا سبعون بابًا أدناها مثل أن يقع الرجل على أمه وإن أربى الربا استطالة المرء في عرض أخيه» وأخرج جميل بن دراج عن الإمامية عن أبي عبد الله الحسين رضي الله تعالى عنه قال: «درهم ربا أعظم عند الله تعالى من سبعين زنية كلها بذات محرم في بيت الله الحرام». وأخرج عبد الرزاق وغيره عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: «لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الربا خمسة آكله وموكله وشاهديه وكاتبه». اهـ.

.قال ابن كثير:

وقوله: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} أي: لا يحب كفور القلب أثيم القول والفعل، ولابد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال، ولا يكتفي بما شرع له من التكسب المباح، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل، بأنواع المكاسب الخبيثة، فهو جحود لما عليه من النعمة، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل. اهـ.