فصل: البلاغة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البلاغة:

1- في قوله: {لا بارد ولا كريم} فن الاحتراس وقد تقدم تعريفه، وهنا لمّا قال وظل من يحموم أوهم أن الظل ربما جلب لهم شيئا من الراحة بعد التعب فنفي عنه صفتي الظل يريد أنه ظل ولكن لا كسائر الظلال التي تنشر البرد والروح وتجلب النفع لمن يأوي إليه ويتفيأ تحته ليمحق ما في مدلول الظل من الاسترواح إليه فقوله: {لا بارد ولا كريم} صفتان للظل لا لقوله: {من يحموم}، وهنا يرد اعتراض بأن الفاء تفيد الترتيب مع التعقيب، ونقول نصّ الرضي على أنه غير واجب مع أنه هنا يفضي إلى عدم توازن الفاصلتين وجعلهما نعتين ليحموم لا يلائم البلاغة القرآنية كما أن فيه فن التعريض وهو أن الذين يستأهلون الظل الذي فيه برد وإكرام غير هؤلاء فيكون أشجى لحلوقهم وأدعى لتحسرهم، ولهذه النكت جميعها علل استحقاقهم هذه العقوبة بقوله: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} قال الرازي: والحكمة في ذكره سبب عذابهم ولم يذكر في أصحاب اليمين سبب ثوابهم فلم يقل أنهم كانوا قبل ذلك شاكرين مذعنين وذلك للتنبيه على أن الثواب منه تعالى فضل والعقاب منه عدل والفضل سواء ذكر سببه أم لم يذكر لا يوهم بالمتفضل نقصا ولا ظلما وأما العدل فإنه إن لم يذكر سبب العقاب يظن أنه ظالم ويدل على ذلك أنه تعالى لم يقل في حق أصحاب اليمين جزاء بما كانوا يعملون كما قال في السابقين لأن أصحاب اليمين نجوا بالفضل العظيم لا بالعمل بخلاف من كثرت حسناته يحسن إطلاق الجزاء بحقه. وهذا كلام جميل جدا فتدبره ولا تنس المقابلة الخفيّة الكامنة فيما بين سطور هذا الكلام العجيب فهؤلاء الذين أمسّوا بهذه المثابة كانوا في الدنيا يعيشون غارقين في الترف، متقلبين في أعطافه فإذا بهم وقد لفّهم السموم واليحموم يتذكرون ما كانوا فيه ويقابلون بينه وبين حالتهم الراهنة والتجسيد والتخييل حاضران مهيآن أمامهم، تتقرأهما أيديهم بلمس على حدّ قول البحتري.
2- وفي الآية {هذا نزلهم يوم الدين} فن التهكم وقد مرّ أيضا، فقد سمّى الجحيم وما فيه من صنوف العذاب وضروب الأهوال نزلا تهكما بهم لأن النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له كما في قوله تعالى: {فبشّرهم بعذاب أليم} وكقول أبي الشعراء الضبّي:
وكنّا إذا الجبار بالجيش ضافنا ** جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

أي إذا نزل بنا الجبار مع جيشه نزول الضيف، وفيه تهكم به حيث جاء محاربا فشبهه بمن جاء للمعروف طالبا ورشح ذلك التشبيه بجعل الرماح والسيوف المرهفة المسنونة نزلا له وهو الطعام المعدّ للضيف.

.[سورة الواقعة: الآيات 57- 74]:

{نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ (62) أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}.

.اللغة:

{تُمْنُونَ} أمنى يمني ومنى يمني: قذف المني في الرحم وهو النطفة، وقرأ ابن السماك {تمنون} بفتح التاء والأصل من المني وهو التقدير، قال الشاعر:
لا تأمنّ وإن أمسيت في حرم ** حتى تلاقي ما يمني لك الماني

ومنه المنية لأنها مقدّرة تأتي على مقدار وفي المختار: وقد منى من باب رمى وأمنى أيضا.
{قَدَّرْنا} بالتشديد والتخفيف قال:
ومفرهة عنس قدرت لساقها ** فخرت كما تتايع الريح بالقفل

والمعنى قدرت ضربي لساقها فضربتها فخرت، ومثله في المعنى:
وإن تعتذر بالمحلّ من ذي ضروعها ** على الضيف يجرح في عراقيبها نصلي

{حُطامًا} الحطام: الهشيم الذي لا ينتفع به في مطعم ولا غذاء وأصل الحطم الكسر، والحطم السوّاق بعنف يحطم بعضها على بعض، قال:
قد لفّها الليل بسواق حطم ** ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزار على ظهر وضم {تَفَكَّهُونَ} التفكّه أصله تناول ضروب الفواكه للأكل والفكاهة المزاح ومنه حديث زيد: كان من أفكه الناس مع أهله، ورجل فكه طيب النفس، وقد استعير هنا للتنقل في الحديث، وقيل معناه تندمون، وحقيقته تلقون الفكاهة عن أنفسكم ولا تلقى الفكاهة إلا من الحزن فهو من باب تحرّج وتأثم، وقيل تفكهون: تعجبون وقيل تتلاومون وقيل تتفجعون وكله من باب التفسير باللازم.
{لَمُغْرَمُونَ} جمع مغرم، والمغرم هو الذي ذهب ماله بغير عوض وأصل الباب اللزوم والغرام العذاب اللازم قال الأعشى:
إن يعاقب يكن غراما وإن يع ** ط جزيلا فإنه لا يبالي

{تُورُونَ} الإيراء إظهار النار بالقدح يقال أورى يوري ووريت بك زنادي أي أضاء بك أمري ويقال: قدح فأورى إذا ظهرت النار فإذا لم يور يقال قدح فأكبى، وفي المصباح: ورى الزند يري وريا من باب وعى وفي لغة وري يري بكسرهما وأورى بالألف وذلك إذا أخرج ناره. وفي المختار: وأوراه غيره أخرج ناره. وفي معاجم اللغة: تستخرجون النار من الزناد وهو جمع زند والزند العود الذي يقدح به النار وهو الأعلى والزندة السفلى فيها ثقب وهي الأنثى فإذا اجتمعتا قيل زندان والجمع زناد والعرب تقدح بعودين تحك أحدهما على الآخر.
{الْمُزْنِ} السحاب جمع مزنة وفي القاموس: المزن بالضم السحاب أو أبيضه أو ذو الماء، القطعة مزنة.
{أُجاجًا} في المختار: ماء أجاج مرّ شديد الملوحة، وقد أجّ الماء يؤج أجوجا بالضم.
{لِلْمُقْوِينَ} للمسافرين أي جعلناها ينتفع بها المسافرون وخصّوا بالذكر لأن منفعتهم بها أكثر من المقيمين، وقال قطرب: المقوي من الأضداد يقال للفقير مقو لخلوّه من المال ويقال للغني مقو لقوته على ما يريده. وقيل المقوي النازل بالقواء من الأرض ليس بها أحد وأقوت الدار خلت من أهلها، قال النابغة:
أقوى وأقفر من نعم وغيّرها ** هوج الرياح بهابي الترب موار

وقال عنترة:
حييت من طلل تقادم عهده ** أقوى وأقفر بعد أم الهيثم

.الإعراب:

{نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْلا تُصَدِّقُونَ} {نحن} مبتدأ وجملة {خلقناكم} خبر والفاء حرف عطف ولولا حرف تحضيض و{تصدقون} فعل مضارع مرفوع والواو فاعله.
{أَفَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ} الهمزة للاستفهام الإنكاري والفاء عاطفة ورأيتم فعل ماض وفاعله ومعناه أخبروني و{ما} اسم موصول بمعنى الذي مفعول رأيتم الأول وجملة {تمنون} صلة.
{أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ} الجملة الاستفهامية في موضع المفعول الثاني لرأيتم وأنتم مبتدأ وجملة {تخلقونه} خبر ويجوز إعراب أنتم فاعلا لفعل مقدّر أي أتخلقونه أنتم فلما حذف الفعل لدلالة ما بعده عليه انفصل الضمير وهو من باب الاشتغال ولعله من جهة القواعد أمكن لأجل أداة الاستفهام و{أم} حرف عطف وهي منقطعة لأن بعدها جملة والمنقطعة تقدّر ببل وهمزة الاستفهام فيكون الكلام مشتملا على استفهامين الأول أأنتم تخلقونه وجوابه لا والثاني مأخوذ من أم أي بل نحن الخالقون وجوابه نعم، ويجوز أن تكون أم متصلة فهي معادلة ويؤيد هذا الوجه أن الكلام يئول إلى أي الأمرين واقع والجملة بعدها في تأويل المفرد، و{نحن} مبتدأ و{الخالقون} خبر.
{نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} {نحن} مبتدأ وجملة {قدرنا} خبر و{قدرنا} فعل وفاعل والظرف متعلق بقدرنا و{الموت} مفعول به أي أوجبناه وكتبناه عليكم والواو عاطفة أو اعتراضية و{ما} نافية حجازية و{نحن} اسمها والباء حرف جر زائد ومسبوقين مجرور لفظا منصوب محلا لأنه خبر ما.
{عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ} {على} حرف جر و{أن نبدل} في تأويل مصدر مجرور بعلى والجار والمجرور متعلقان بمسبوقين أي ولم يسبقنا أحد على تبديلنا أمثالكم ويجوز تعليقهما بقدّرنا بينكم أي قدّرنا بينكم الموت على أن نبدل أي يموت أناس ويخلفهم أناس آخرون فتكون جملة {وما نحن بمسبوقين} اعتراضية، {وننشئكم} عطف على {نبدل} و{في ما} متعلقان بننشئكم وجملة {لا تعلمون} صلة أي ننشئكم في صور لا تعلمونها من الحيوانات الممتهنة المرتطمة بالأقذار كالقردة والخنازير.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ} الواو استئنافية واللام جواب للقسم المحذوف وقد حرف تحقيق و{علمتم} فعل وفاعل و{النشأة} مفعول به والأولى نعت، {فلولا}: الفاء عاطفة ولولا حرف تحضيض و{تذكرون} فعل مضارع وفاعل.
{أَفَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ} تقدم إعراب نظيرها فجدد به عهدا.
{لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} {لو} شرطية و{نشاء} فعل مضارع وفاعله مستتر تقديره نحن واللام واقعة في جواب لو وجعلناه فعل وفاعل ومفعول به و{حطاما} مفعول جعل الثاني والجملة لا محل لها من الإعراب لأنها جواب شرط غير جازم وظلتم فعل ماض ناقص وأصله ظللتم بكسر اللام حذفت العين تخفيفا والتاء اسمها وجملة {تفكهون} خبرها و{تفكهون} فعل مضارع حذفت منه إحدى تاءيه.
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} إن واسمها واللام المزحلقة ومغرمون خبرها وجملة إن واسمها وخبرها مقول قول محذوف في محل نصب على الحال تقديره فظللتم تفكهون قائلين أو تقولون إنّا لمغرمون أي لملزمون غرامة ما أنفقنا أو مهلكون لهلاك رزقنا.
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} {بل} حرف إضراب وعطف و{نحن} مبتدأ و{محرومون} خبر والجملة معطوفة على سابقتها.
{أَفَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ} تقدم إعراب نظيرها و{الذي} صفة للماء وجملة {تشربون} صلة والعائد محذوف.
{لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا فَلَوْلا تَشْكُرُونَ} تقدم إعرابها، وسيأتي سر حذف اللام في هذه الآية وذكرها في الآية الأولى في باب البلاغة.
{أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ} تقدم إعراب نظيرها.
{نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَمَتاعًا لِلْمُقْوِينَ} {نحن} مبتدأ وجملة {جعلناها} خبر و{تذكرة} مفعول به ثان {ومتاعا} عطف على {تذكرة} و{للمقوين} متعلقان بمتاعا أو صفة له.
{فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} الفاء الفصيحة أي إن عرفت هذه العوارف والآلاء الباهرة فسبّح، وسبّح فعل أمر وفاعله أنت وباسم متعلق بسبّح أو بمحذوف حال أي متبركا وقيل اسم مقحم والعظيم صفة لربك.