فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثالثة:
العامل في {إِذَا} ماذا؟ نقول: فيه ثلاث أوجه أحدها: فعل متقدم يجعل إذا مفعولًا به لا ظرفًا وهو اذكر، كأنه قال: اذكر القيامة ثانيها: العامل فيها ليس لوقعتها كاذبة كما تقول: يوم الجمعة ليس لي شغل ثالثها: يخفض قوم ويرفع قوم، وقد دل عليه {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ}، وقيل: العامل فيها قوله: {فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة} [الواقعة: 8] أي في يوم وقوع الواقعة.
المسألة الرابعة:
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} إشارة إلى أنها تقع دفعة واحدة فالوقعة للمرة الواحدة، وقوله: {كَاذِبَةٌ} يحتمل وجوهًا أحدها: كاذبة صفة لمحذوف أقيمت مقامه تقديره ليس لها نفس تكذب ثانيها: الهاء للمبالغة كما تقول في الواقعة وقد تقدم بيانه ثالثها: هي مصدر كالعاقبة فإن قلنا بالوجه الأول فاللام تحتمل وجهين أحدهما: أن تكون للتعليل أي لا تكذب نفس في ذلك اليوم لشدة وقعتها كما يقال: لا كاذب عند الملك لضبطه الأمور فيكون نفيًا عامًا بمعنى أن كل أحد يصدقه فيما يقول وقال: وقبله نفوس كواذب في أمور كثيرة ولا كاذب فيقول: لا قيامة لشدة وقعتها وظهور الأمر وكما يقال: لا يحتمل الأمر الإنكار لظهوره لكل أحد فيكون نفيًا خاصًا بمعنى لا يكذب أحد فيقول: لا قيامة وقبله نفوس قائلة به كاذبة فيه ثانيهما: أن تكون للتعدية وذلك كما يقال: ليس لزيد ضارب، وحينئذ تقديره إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها امرؤ يوجد لها كاذب إن أخبر عنها فهي خافضة رافعة تخفض قومًا وترفع قومًا وعلى هذا لا تكون عاملًا في {إِذَا} وهو بمعنى ليس لها كاذب يقول: هي أمر سهل يطاق يقال لمن يقدم على أمر عظيم ظانًا أنه يطيقه سل نفسك أي سهلت الأمر عليك وليس بسهل، وإن قلنا بالوجه الثاني وهو المبالغة ففيه وجهان أحدهما: ليس لها كاذب عظيم بمعنى أن من يكذب ويقدم على الكذب العظيم لا يمكنه أن يكذب لهول ذلك اليوم وثانيهما: أن أحدًا لو كذب وقال في ذلك اليوم لا قيامة ولا واقعة لكان كاذبًا عظيمًا ولا كاذب لهذه العظمة في ذلك اليوم والأول أدل على هول اليوم، وعلى الوجه الثالث يعود ما ذكرنا إلى أنه لا كاذب في ذلك اليوم بل كل أحد يصدقه.
المسألة الخامسة:
{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} تقديره هي خافضة رافعة وقد سبق ذكره في التفسير الجملي وفيه وجوه أخرى أحدها: خافضة رافعة صفتان للنفس الكاذبة أي ليس لوقعتها من يكذب ولا من يغير الكلام فتخفض أمرًا وترفع آخر فهي خافضة أو يكون هو زيادة لبيان صدق الخلق في ذلك اليوم وعدم إمكان كذبهم والكاذب يغير الكلام، ثم إذا أراد نفي الكذب عن نفسه يقول ما عرفت مما كان كلمة واحدة وربما يقول ما عرفت حرفًا واحدًا، وهذا لأن الكاذب قد يكذب في حقيقة الأمر وربما يكذب في صفة من صفاته والصفة قد يكون ملتفتًا إليها وقد لا يكون ملتفتًا إليها التفاتًا معتبرًا وقد لا يكون ملتفتًا إليها أصلًا مثال الأول: قول القائل: ما جاء زيد ويكون قد جاء ومثال الثاني: ما جاء يوم الجمعة ومثال الثالث: ما جاء بكرة يوم الجمعة ويكون قد جاء بكرة يوم الجمعة وما جاء أول بكرة يوم الجمعة والثاني دون الأول والرابع دون الكل، فإذا قال القائل: ما أعرف كلمة كاذبة نفى عنه الكذب في الإخبار وفي صفته والذي يقول: ما عرفت حرفًا واحدًا نفى أمرًا وراءه، والذي يقول: ما عرفت أعرافة واحدة يكون فوق ذلك فقوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي من يغير تغييرًا ولو كان يسيرًا.
{إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6)}.
أي كانت الأرض كثيبًا مرتفعًا والجبال مهيلًا منبسطًا، وقوله تعالى: {فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا} كقوله تعالى في وصف الجبال: {كالعهن المنفوش} [القارعة: 5] وقد تقدم بيان فائدة ذكر المصدر وهي أنه يفيد أن الفعل كان قولا معتبرًا ولم يكن شيئًا لا يلتفت إليه، ويقال فيه: إنه ليس بشيء فإذا قال القائل: ضربته ضربًا معتبرًا لا يقول القائل فيه: ليس بضرب محتقرأ له كما يقال: هذا ليس بشيء، والعامل في: {إِذَا رُجَّتِ} يحتمل وجوهًا أحدها: أن يكون إذا رجت بدلًا عن إذا وقعت فيكون العامل فيها ما ذكرنا من قبل ثانيها: أن يكون العامل في: {إِذَا وَقَعَتِ} [الواقعة: 1] هو قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا} [الواقعة: 2] والعامل في: {إِذَا رُجَّتِ} هو قوله: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} [الواقعة: 3] تقديره تخفض الواقعة وترفع وقت رج الأرض وبس الجبال والفاء للترتيب الزماني لأن الأرض مالم تتحرك والجبال مالم تنبس لا تكون هباء منبثًا، والبس التقليب، والهباء هو الهواء المختلط بأجزاء أرضية تظهر في خيال الشمس إذا وقع شعاعها في كوة، وقال: الذين يقولون: إن بين الحروف والمعاني مناسبة إن الهواء إذا خالطه أجزاء ثقيلة أرضية ثقل من لفظه حرف فأبدلت الواو الخفيفة بالباء التي لا ينطق بها إلا بإطباق الشفتين بقوة ما لو في الباء ثقل ما.
{وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7)}.
أي في ذلك اليوم أنتم أزواج ثلاثة أصناف وفسرها بعدها بقوله: {فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة}. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} أي قامت القيامة، والمراد النفخة الأخيرة.
وسميت واقعة لأنها تقع عن قرب.
وقيل: لكثرة ما يقع فيها من الشدائد.
وفيه إضمار، أي اذكروا إذا وقعت الواقعة.
وقال الجرجاني: (إذا) صلة؛ أي وقعت الواقعة؛ كقوله: {اقتربت الساعة} [القمر: 1] و{أتى أَمْرُ الله} [النحل: 1] وهو كما يقال: قد جاء الصوم أي دنا واقترب.
وعلى الأوّل (إذا) للوقت، والجواب قوله: {فأصحاب الميمنة مَآ أصحاب الميمنة}.
{لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} الكاذبة مصدر بمعنى الكذب، والعرب قد تضع الفاعل والمفعول موضع المصدر؛ كقوله تعالى: {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً} [الغاشية: 11] أي لغو، والمعنى لا يسمع لها كذب؛ قاله الكسائي.
ومنه قول العامة: عائذًا بالله أي معاذ الله، وقم قائمًا أي قم قيامًا.
ولبعض نساء العرب ترقِّصُ ابنها:
قُمْ قائمًا قُمْ قَائمَا ** أصبت عبدًا نائمَا

وقيل: الكاذبة صفة والموصوف محذوف، أي ليس لوقعتها حال كاذبة؛ أو نفس كاذبة؛ أي كل من يخبر عن وقعتها صادق.
وقال الزجاج: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي لا يردها شيء.
ونحوه قول الحسن وقتادة.
وقال الثوريّ: ليس لوقعتها أحد يكذّب بها.
وقال الكسائيّ أيضًا: ليس لها تكذيب؛ أي ينبغي ألا يكذّب بها أحد.
وقيل: إن قيامها جِدٌّ لا هزْلَ فيه.
قوله تعالى: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} قال عِكرمة ومقاتل والسُّدِّي: خفضت الصوت فأسمعتْ من دنا ورفعتْ من نأى؛ يعني أسمعت القريب والبعيد.
وقال السُّدِّي: خفضت المتكبرّين ورفعت المستضعفين.
وقال قتادة: خفضت أقوامًا في عذاب الله، ورفعت أقوامًا إلى طاعة الله.
وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: خفضت أعداء الله في النار، ورفعت أولياء الله في الجنة.
وقال محمد بن كعب: خفضت أقوامًا كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقوامًا كانوا في الدنيا مخفوضين.
وقال ابن عطاء: خفضت أقوامًا بالعدل، ورفعت آخرين بالفضل.
والخفض والرفع يستعملان عند العرب في المكان والمكانة، والعز والمهانة.
ونسب سبحانه الخفض والرفع للقيامة توسُّعًا ومجازًا على عادة العرب في إضافتها الفعل إلى المحل والزمان وغيرهما مما لم يكن منه الفعل؛ يقولون: ليلٌ نائمٌ ونهار صائم.
وفي التنزيل: {بَلْ مَكْرُ الليل والنهار} [سبأ: 33] والخافض والرافع على الحقيقة إنما هو الله وحده؛ فرفع أولياءه في أعلى الدرجات، وخفض أعداءه في أسفل الدركات.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} بالنصب.
الباقون بالرفع على إضمار مبتدأ، ومن نصب فعلى الحال.
وهو عند الفراء على إضمار فعل؛ والمعنى: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة} {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} وقعت: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ}.
والقيامة لا شك في وقوعها، وأنها ترفع أقوامًا وتضع آخرين على ما بيّناه.
قوله تعالى: {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجًّا} أي زُلزلت وحُركت عن مجاهد وغيره؛ يقال: رَجّه يَرُجّه رجًّا أي حركه وزلزله.
وناقة رجّاءُ أي عظيمة السَّنَام.
وفي الحديث: «مَنْ ركب البحرَ حين يَرْتَجُّ فلا ذِمَّةَ له» يعني إذا اضطربت أمواجه.
قال الكلبيّ: وذلك أن الله تعالى إذا أوحى إليها اضطربت فَرَقًا من الله تعالى.
قال المفسرون: تَرْتجُّ كما يَرتج الصبيّ في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء عليها من الجبال وغيرها.
وعن ابن عباس الرَّجَّة الحركة الشديدة يسمع لها صوت.
وموضع (إذا) نصب على البدل من {إِذَا وَقَعَتِ}.
ويجوز أن ينتصب بـ: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي تخفض وترفع وقت رجِّ الأرض وبسِّ الجبال؛ لأن عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع، ويرتفع ما هو منخفض.
وقيل: أي وقعت الواقعة إذا رجّت الأرض؛ قاله الزجاج والجرجاني.
وقيل: أي اذكر {إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجًّا} مصدر وهو دليل على تكرار الزلزلة.
قوله تعالى: {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} أي فتتت؛ عن ابن عباس.
مجاهد: كما يُبَسُّ الدقيق أي يُلَتّ.
والبسيسة السَّوِيق أو الدقيق يُلَتُّ بالسَّمن أو بالزيت ثم يؤكل ولا يطبخ وقد يتخذ زادًا.
قال الراجز:
لا تَخْبِزَا خُبْزًا وبُسَّا بَسًّا ** ولا تُطِيلاَ بُمُنَاخٍ حَبْسَا

وذكر أبو عبيدة: أنه لصٌّ من غَطَفان أراد أن يخبز فخاف أن يُعجَل عن ذلك فأكله عجينًا.
والمعنى أنها خُلِطت فصارت كالدقيق الملتوت بشيء من الماء.
أي تصير الجبال ترابًا فيختلط البعض بالبعض.
وقال الحسن: وبُسَّت قلعت من أصلها فذهبت؛ نظيره: {يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} وقال عطية: بُسطت كالرمل والتراب.
وقيل: البسُّ السّوق أي سيقت الجبال.
قال أبو زيد: البسّ السّوق؛ وقد بسستُ الإبل أبُسُّها بالضم بسًّا.
وقال أبو عبيد: بسست الإبل وأبسست لغتان إذا زجرتها وقلت لها بَسْ بَسْ.
وفي الحديث: «يخرج قوم من المدينة إلى اليمن والشام والعراق يَبُسُّون والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» ومنه الحديث الآخر: «جاءكم أهل اليمن يَبُسُّون عِيالهم» والعرب تقول: جِيءْ به من حَسِّك وبَسِّك.
ورواهما أبو زيد بالكسر؛ فمعنى من حَسّك من حيث أحسسته، وبَسّك من حيث بلغه مسيرك.
وقال مجاهد: سالت سيلًا.
عكرمة: هُدَّت هدًّا.
محمد بن كعب: سُيِّرت سيرًا؛ ومنه قول الأغلب العجْليّ:
وقال الحسن: قطعت قطعًا.
والمعنى متقارب.