فصل: تفسير الآيات (8- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فراعوا في تأنيثها معنى الحادث أو الكائنة أو الساعة، وهو تأنيث كثير في اللغة جار على ألسنة العرب لا يكونون راعوا فيه إلا معنى الحادثة أو الساعة أو نحو ذلك، وقريب منه قولهم: دارت عليه الدائرة، قال تعالى: {يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة} [المائدة: 52] وقال: {عليهم دائرةُ السَّوْء} [التوبة: 98].
والمراد بالواقعة هنا القيامة فجعل هذا الوصف علمًا لها بالغلبة في اصطلاح القرآن قال تعالى: {فيومئذٍ وقعت الواقعة} [الحاقة: 15] كما سميت الصاخّة والطامّة والآزفة، أي الساعة الواقعة.
وبهذا الاعتبار صار في قوله: {إذا وقعت الواقعة} محسن التجنيس.
و {الواقعة}: الموصوفةُ بالوقوع، وهو الحدوث.
و {كاذبة} يجوز أن يكون اسم فاعل من كذب المجرد، جرى على التأنيث للدلالة على أنه وصف لمحذوف مؤنث اللفظ.
وتقديره هنا نفس، أي تنتفي كل نفس كاذبة، فيجوز أن يكون من كَذَب اللازم إذا قال خلاف ما في نفس الأمر وذلك أن منكري القيامة يقولون: لا تقع القيامة فيكذبون في ذلك فإذا وقعت آمنت النفوس كلها بوقوعها فلم تبق نفس تكذب، أي في شأنها أو في الإِخبار عنها.
وذلك التقدير كله مما يدل عليه المقام.
ويجوز أن يكون من كذَب المتعدي مثل الذي في قولهم كذبتْ فلانًا نفسه، أي حدثتْه نفسه، أيْ رَأيه بحديث كذب وذلك أن اعتقاد المنكر للبعث اعتقاد سوَّله له عقله القاصر فكأنَّ نفسه حدثته حديثا كذَبته به، ويقولون: كذبتْ فلانًا نفسه في الخطب العظيم، إذا أقْدم عليه فأخفق كأنَّ نفسه لما شجعته على اقتحامه قد قالت له: إنك تطيقه فتعرَّضْ له ولا تبال به فإنك مُذَلِّلُه فإذا تبين له عجزه فكأنَّ نفسه أخبرته بما لا يكون فقد كذبته، كما يقال: كذبته عينه إذا تخيّل مرئيًا ولم يكن.
والمعنى: إذا وقعت القيامة تحقق منكروها ذلك فأقلعوا عن اعتقادهم أنها لا تقع وعلموا أنهم ضلّوا في استدلالهم وهذا وعيد بتحذير المنكرين للقيامة من خزي الخيبة وسفاهة الرأي بين أهل الحشر.
وإطلاق وصف الكذب في جميع هذا استعارة بتشبيه السبب للفعل غير المثمر بالمخبر بحديث كذب أو تشبيه التسبب بالقول قال أبو علي الفارسي: الكذب ضرب من القول فكما جاز أن يتسع في القول في غير نطق نحو قول أبي النجم:
قد قالت الأنساع للبطن الحق...
جاز في الكذب أن يجعل في غير نطق نحو:
بأَنْ كذَبَ القرأطف والقروف...
واللام في {لوقعتها} لام التوقيت نحو {أقم الصلاة لدلوك الشمس} [الإسراء: 78] وقوله تعالى: {فطلقوهن لعدتهن} [الطلاق: 1].
وقولهم: كتبتُه لكذا من شهر كذا، وهي بمعنى (عند) وأصلها لام الاختصاص شاع استعمالها في اختصاص الموقَّت بوقته كقوله تعالى: {ولما جاء موسى لميقاتنا} [الأعراف: 143].
وهو توسع في معنى الاختصاص بحيث تنوسي أصل المعنى.
وفي الحديث سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أي الأعمال أفضل فقال: الصلاة لوقتها».
وهذا الاستعمال غير الاستعمال الذي في قوله تعالى: {ليس لهم طعام إلا من ضريع} [الغاشية: 6].
خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3).
خبراننِ لمبتدأ محذوف ضمير {الواقعة} [الواقعة: 1]، أي هي خافضة رافعة، أي يحصل عندها خفض أقواممٍ كانوا مرتفعين ورَفْع أقوام كانوا منخفضين وذلك بخفض الجبابرة والمفسدين الذين كانوا في الدنيا في رفعة وسيادة، وبرفع الصالحين الذين كانوا في الدنيا لا يعبأون بأكثرهم، وهي أيضًا خافضة جهات كانت مرتفعة كالجبال والصوامع، رافعة ما كان منخفضًا بسبب الانقلاب بالرجّات الأرضية.
وإسناد الخفض والرفع إلى الواقعة مجاز عقلي إذ هي وقت ظهور ذلك.
وفي قوله: {خافضة رافعة} محسن الطباق مع الإِغراب بثبوت الضدّين لشيء واحد.
{إذا رجت الأرض} بدل من جملة {إذ وقعت الواقعة} [الواقعة: 1] وهو بدل اشتمال.
والرّج: الاضطراب والتحرك الشديد، فمعنى: {رجت} رَجّهَا رَاجٌّ، وهو ما يطرأ فيها من الزلازل والخسف ونحو ذلك.
وتأكيده بالمصدر للدلالة على تحققه وليتأتى التنوين المشعر بالتعظيم والتهويل.
والبَسُّ يطلق بمعنى التفتت وهو تفرّق الأجزاء المجموعة، ومنه البسيسة من أسماء السويق أي فتِّتَتْ الجبال ونسفت فيكون كقوله تعالى: {ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفًا فيذَرها قاعًا صفصفًا} [طه: 105، 106].
ويطلق البسّ أيضًا على السّوق للماشية، يقال: بَسّ الغنم، إذا ساقها.
وفي الحديث: «فيأتي قوم يَبِسُّون بأموالهم وأهليهم والمدينة خير لهم لو كانوا يعلمون» فهو في معنى قوله تعالى: {ويوم نسيّر الجبال} [الكهف: 47]، وقوله: {وسيرت الجبال} [النبأ: 20] وتأكيده بقوله: {بسًا} كالتأكيد في قوله: {رجًا} لإِفادة التعظيم بالتنوين.
وتفريع {فكانت هباءً منبثًا} على {بُسّت الجبال} لائق بمعنيي البسّ لأن الجبال إذا سيّرت فإنما تُسيّر تسييرًا يفتتها ويفرقها، أي تسييرَ بَعْثَرَة وارتطام.
والهباء: ما يلوح في خيوط شعاع الشمس من دقيق الغبار، وتقدم عند قوله تعالى: {فجعلناه هباء منثورًا} في سورة الفرقان (23).
والمنْبَثُّ: اسم فاعل انبثَّ، مطاوع بثَّه، إذا فرّقه.
واختير هذا المطاوع لمناسبته مع قوله: {وبست الجبال} في أن المبني للنائب معناه كالمطاوعة، وقوله: {فكانت هباءً منبثًا} تشبيه بليغ، أي فكانت كالهباء المنبث.
والخطاب في: {وكنتم أزواجًا ثلاثة} للناس كلهم، وهذا تخلص للمقصود من السورة وهو الموعظة.
والأزواج: الأصناف.
والزوج يطلق على الصنف والنوع كقوله تعالى: {فيهما من كل فاكهة زوجان} [الرحمن: 52] ووجه ذلك أن الصنف إذا ذكر يذكر معه نظيره غالبًا فيكون زوجًا. اهـ.

.تفسير الآيات (8- 16):

قوله تعالى: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما قسمهم إلى ثلاثة أقسام وفرع تقسيمهم، ذكر أحوالهم وابتدأ ذلك بالإعلام بأنه ليس الخبر كالخبر كما أنه ليس العين كالأثر فقال: {فأصحاب الميمنة} أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها، ثم فخم أمرهم بالتعجيب من حالهم بقوله منبهًا على أنهم أهل لأن يسأل عنهم فيما يفهمه اليمين من الخير والبركة فكيف إذا عبر عنها بصيغة مبالغة فقال: {ما} وهو مبتدأ ثان {أصحاب الميمنة} أي جهة اليمين وموضعها وأعمالها، والجملة خبر عن الأولى، والرابط تكرار المبتدأ بلفظه، قال أبو حيان رحمه الله تعالى: وأكثر ما يكون ذلك في موضع التهويل والتعظيم.
وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير: لما تقدم الإعذار في السورتين المتقدمتين والتقرير على عظيم البراهين، وأعلم في آخر سورة القمر أن كل واقع في العالم فبقضائه سبحانه وقدره {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49] {وكل شيء فعلوه في الزبر} [القمر: 52] وأعلمهم سبحانه في الواقعة بانقسامهم الأخروي فافتتح ذكر الساعة {إذا وقعت الواقعة} إلى قوله: {وكنتم أزواجًا ثلاثة} فتجردت هذه السورة للتعريف بأحوالهم الأخروية، وصدرت بذلك كما جرد في هذه السورة قبل التعريف بحالهم في هذه الدار، وما انجر في السور الثلاث جاريًا على غير هذا الأسلوب فبحكم استدعاء الترغيب والترهيب لطفًا بالعباد ورحمة ومطالعها مبنية على ما ذكرته تصريحًا لا تلويحًا، وعلى الاستيفاء لا بالإشارة والإيماء، ولهذا قال تعالى في آخر القصص الأخراوية في هذه السورة: {هذا نزلهم يوم الدين} فأخبر أن هذا حالهم يوم الجزاء وقد قدم حالهم الدنياوي في السورتين قبل وتأكيد التعريف المتقدم فيما بعد، وذلك قوله: {فأما إن كان من المقربين} إلى خاتمتها- انتهى.
ولما ذكر الناجين بقسميهم، أتبعهم أضدادهم فقال: {وأصحاب المشأمة} أي جهة الشؤم وموضعها وأعمالها، ثم عظم ذنبهم فقال: {ما أصحاب المشأمة} أي لأنهم أهل لأن يسأل عما أصابهم من الشؤم والشر والسوء بعظيم قدرته التي ساقتهم إلى ما وصلوا إليه من الجزاء الذي لا يفعله بنفسه عاقل بل ولا بهيمة مع ما ركب فيهم من العقول الصحيحة والأفكار العظيمة وصان الأولين عن خذلان هؤلاء فأوصلهم إلى النعيم المقيم.
ولما ذكر القسمين، وكان كل منهما قسمين، ذكر أعلى أهل القسم الأول ترغيبًا في أحسن حالهم ولم يقسم أهل المشأمة ترهيبًا من سوء مآلهم فقال: {والسابقون} أي إلى أعمال الطاعة أصحاب الجنتين الأوليين في الرحمان وهم أصحاب القلب {السابقون} أي هم الذين يستحقون الوصف بالسبق لا غيرهم لأنه منزلة أعلى من منزلتهم فلذلك سبقوا إلى منزلتهم وهي جنتهم وهم قسمان كما يأتي عن الرازي، وعن المهدوي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم».
ولما بين علو شأنهم ونسب السبق إليهم، ترجمه نازعًا للفعل منهم بقوله: {أولئك} أي العالو الرتبة جدًا من الذين هم أصحاب الميمنة {المقربون} أي الذين اصطفاهم الله تعالى للسبق فأرادهم لقربه أو أنعم عليهم بقربه ولولا فعله في تقريبهم لم يكونوا سابقين، قال الرازي في اللوامع: المقربون تخلصوا من نفوسهم فأعمالهم كلها لله دينًا ودنيا من حق الله وحق الناس، وكلاهما عندهم حق الله، والدنيا عندهم آخرتهم لأنهم يراقبون ما يبدو لهم من ملكوته فيتلقونه بالرضا والانقياد، وهم صنفان فصنف قلوبهم في جلاله وعظمته هائمة قد ملكتهم هيبتهم فالحق يستعملهم، وصنف آخر قد أرخى من عنانه، فالأمر عليه أسهل لأنه قد جاور بقلبه هذه الحطة ومحله أعلى فهو أمين الله في أرضه، فيكون الأمر عليه أسهل لأنه قد جاوز- انتهى.
ثم بين تقريبه لهم بقوله: {في جنات النعيم} أي الذي لا نعيم غيره لأنه لا كدر فيه بوجه ولا منغص، والصنف الآخر منهم المتقربون والمتشاققون من أصحاب المشأمة، أولئك المغضوب عليهم المبعودون، ومن دونهم الضالون البعيدون وهم أصحاب الشمال.
ولما ذكر السابقين فصلهم فقال: {ثلة} أي جماعة كثيرة حسنة، وقال البغوي: والثلة جماعة غير محصورة العدد، {من الأولين} وهم الأنبياء الماضون عليهم الصلاة والسلام، ومن آمن بهم من غير واسطة رضي الله عنه م {وقليل من الآخرين} وهم من آمن بمحمد- عليه الصلاة والسلام- كذلك بغير واسطة رضي الله عنه م، فقد كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مائة ألف ونيفًا وعشرين ألفًا، وكان من خرج مع موسى عليه السلام من مصر وهم من آمن به من الرجال المقاتلين ممن هو فوق العشرين ودون الثمانين وهم ستمائة ألف فما ظنك بمن عداهم من الشيوخ ومن دون العشرين من التابعين والصبيان ومن النساء، فكيف بمن عداه من سائر النبيين عليهم الصلاة والسلام.
المجددين من بني إسرائيل وغيرهم، وقيل (الثلة والقليل كلاهما من هذه الأمة)، رواه الطبراني وابن عدي عن ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ، وفيه أبان بن أبي عياش وهو متروك ورواه إسحاق بن راهويه مسدد بن مسرهد وأبو داود الطيالسي وإبراهيم الحربي والطبراني من رواية علي بن زيد وهو ضعيف عن عقبة بن صهبان عن أبي بكرة رضي الله عنه مرفوعًا وموقوفًا، والموقوف أولى بالصواب، وتطبيقه على هذه الأمة سواء كان مرفوعًا أو موقوفًا صحيح لا غبار عليه، فتكون الصحابة رضي الله عنه م كلهم من هذه الثلة وكذا من تبعهم بإحسان إلى رأس القرن الثالث وهم لا يحصيهم إلا الله تعالى، ومن المعلوم أنه تناقص الأمر بعد ذلك إلى أن صار السابق في الناس أقل من القليل لرجوع الإسلام إلى الحال الذي بدأ عليها من الغربة «بدأ الإسلام غريبًا وسيكون غريبًا فطوبى للغرباء» ويجوز أن يقدر أيضًا: وثلة- أي جماعة كثيرة هلكى- من الأولين، وهم المعاندون من الأمم الماضين، وقليل من الآخرين- وهم المعاندون من هذه الأمة.