فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثانية:
{أولئك المقربون} يقتضي الحصر فينبغي أن لا يكون غيرهم مقربًا، وقد قال في حق الملائكة إنهم مقربون، نقول: {أُوْلَئِكَ المقربون} من الأزواج الثلاثة، فإن قيل: {فأصحاب الميمنة} ليسوا من المقربين، نقول: للتقريب درجات {والسابقون} في غاية القرب، ولا حد هناك، ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يقال: المراد السابقون مقربون من الجنات حال كون أصحاب اليمين متوجهين إلى طريق الجنة لأنه بمقدار ما يحاسب المؤمن حسابًا يسيرًا ويؤتى كتابه بيمينه يكون السابقون قد قربوا من المنزل أو قربهم إلى الله في الجنة وأصحاب اليمين بعد متوجهون إلى ما وصل إليه المقربون، ثم إن السير والارتفاع لا ينقطع فإن السير في الله لا انقطاع له، والارتفاع لا نهاية له، فكلما تقرب أصحاب اليمين من درجة السابق، يكون قد انتقل هو إلى موضع أعلى منه، فأولئك هم المقربون في جنات النعيم، في أعلى عليين حال وصول أصحاب اليمين إلى الحور العين.
المسألة الثالثة:
بعد بيان أقسام الأزواج لم يعد إلى بيان حالهم على ترتيب ذكرهم، بل بين حال السابقين مع أنه أخرهم، وأخر ذكر أصحاب الشمال مع أنه قدمهم أولًا في الذكر على السابقين، نقول: قد بينا أن عند ذكر الواقعة قدم من ينفعه ذكر الأهوال، وأخر من لا يختلف حاله بالخوف والرجاء، وأما عند البيان فذكر السابق لفضيلته وفضيلة حاله.
{فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
عرف النعيم باللام هاهنا وقال في آخر السورة: {فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ} [الواقعة: 89] بدون اللام، والمذكور في آخر السورة هو واحد من السابقين فله جنة من هذه الجنات وهذه معرفة بالإضافة إلى المعرفة، وتلك غير معرفة فما الفرق بينهما؟ فنقول: الفرق لفظي ومعنوي فاللفظي هو أن السابقين معرفون باللام المستغرقة لجنسهم، فجعل موضع المعرفين معرفًا، وأما هناك فهو غير معرف، لأن قوله: {إِن كَانَ مِنَ المقربين} [الواقعة: 88] أي إن كان فردًا منهم فجعل موضعه غير معرف مع جواز أن يكون الشخص معرفًا وموضعه غير معرف، كما قال تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جنات وَعُيُونٍ} [الذاريات: 15] و{إِنَّ المتقين فِي جنات وَنَهَرٍ} [القمر: 54] وبالعكس أيضًا، وأما المعنوي: فنقول: عند ذكر الجمع جمع الجنات في سائر المواضع فقال تعالى: {إِنَّ المتقين فِي جنات} وقال تعالى: {أولئك المقربون فِي جنات} [الواقعة: 11، 12] لكن السابقون نوع من المتقين، وفي المتقين غير السابقون أيضًا، ثم إن السابقين لهم منازل ليس فوقها منازل، فهي صارت معروفة لكونها في غاية العلو أو لأنها لا أحد فوقها، وأما باقي المتقين فلكل واحد مرتبة وفوقها مرتبة فهم في جنات متناسبة في المنزلة لا يجمعها صقع واحد لاختلاف منازلهم، وجنات السابقين على حد واحد في على عليين يعرفها كل أحد، وأما الواحد منهم فإن منزلته بين المنازل، ولا يعرف كل أحد أنه لفلان السابق فلم يعرفها، وأما منازلهم فيعرفها كل أحد، ويعلم أنها للسابقين، ولم يعرف الذي للمتقين على وجه كذا.
المسألة الثانية:
إضافة الجنة إلى النعيم من أي الأنواع؟ نقول: إضافة المكان إلى ما يقع في المكان يقال: دار الضيافة، ودار الدعوة، ودار العدل، فكذلك جنة النعيم، وفائدتها أن الجنة في الدنيا قد تكون للنعيم، وقد تكون للاشتغال والتعيش بأثمان ثمارها، بخلاف الجنة في الآخرة فإنها للنعيم لا غير.
المسألة الثالثة:
في {جنات النعيم}، يحتمل أن يكون خبرًا بعد خبر، ويحتمل أن يكون خبرًا واحدًا، أما الأول فتقديره: أولئك المقربون كائنون في جنات، كقوله: {ذُو العرش المجيد فَعَّالٌ لّمَا يُرِيدُ} [البروج: 16]، وأما الثاني فتقديرهم المقربون في الجنات من الله كما يقال: هو المختار عند الملك في هذه البلدة، وعلى الوجه الأول فائدته بيان تنعيم جسمهم، وكرامة نفسهم فهم مقربون عند الله فهم في غاية اللذة وفي جنات، فجسمهم في غاية النعيم، بخلاف المقربين عند الملوك، فإنهم يلتذون بالقرب لكن لا يكون لجسمهم راحة، بل يكونون في تعب من الوقوف وقضاء الأشغال، ولهذا قال: {فِي جنات النعيم} ولم يقتصر على جنات، وعلى الوجه الثاني فائدته التمييز عن الملائكة، فإن المقربين في يومنا هذا في السموات هم الملائكة والسابقون المقربون في الجنة فيكون المقربون في غيرها هم الملائكة وفيه لطيفة: وهي أن قرب الملائكة قرب الخواص عند الملك الذين هم للأشغال، فهم ليسوا في نعيم، وإن كانوا في لذة عظيمة ولا يزالون مشفقين قائمين بباب الله يرد عليهم الأمر ولا يرتفع عنهم التكليف، والسابقون لهم قرب عند الله، كما يكون لجلساء الملوك، فهم لا يكون بيدهم شغل ولا يرد عليهم أمر، فيلتذون بالقرب، ويتنعمون بالراحة.
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}.
وهذا خبر بعد خبر، وفيه مسائل.
المسألة الأولى:
قد ذكرت أن قوله: {والسابقون السابقون} [الواقعة: 10] جملة، وإنما كان الخبر عين المبتدأ لظهور حالهم أو لخفاء أمرهم على غيرهم، فكيف جاء خبر بعده؟ نقول: ذلك المقصود قد أفاد ذكر خبر آخر لمقصود آخر، كما أن واحدًا يقول: زيد لا يخفى عليك حاله إشارة إلى كونه من المشهورين ثم يشرع في حال يخفى على السامع مع أنه قال: لا يخفى، لأن ذلك كالبيان كونه ليس من الغرباء كذلك هاهنا قال: {والسابقون السابقون} لبيان عظمتهم ثم ذكر حال عددهم.
المسألة الثانية:
{الأولين} من هم؟ نقول: المشهور أنهم من كان قبل نبينا صلى الله عليه وسلم وإنما قال: {ثُلَّةٌ} والثلة الجماعة العظيمة، لأن من قبل نبينا من الرسل والأنبياء من كان من كبار أصحابهم إذا جمعوا يكونون أكثر بكثير من السابقين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، وعلى هذا قيل: إن الصحابة لما نزلت هذه الآية صعب عليهم قلتهم، فنزل بعده: {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين} [الواقعة: 13]، {وَثُلَّةٌ مّنَ الآخرين} [الواقعة: 40] هذا في غاية الضعف من وجوه أحدها: أن عدد أمة محمد صلى الله عليه وسلم إذا كان في ذلك الزمان بل إلى آخر الزمان، بالنسبة إلى من مضى في غاية القلة فماذا كان عليهم من إنعام الله على خلق كثير من الأولين وما هذا إلا خلف غير جائز وثانيها: أن هذا كالنسخ في الأخبار وأنه في غاية البعد ثالثها: ما ورد بعدها لا يرفع هذا لأن الثلة من الأولين هنا في السابقين من الأولين وهذا ظاهر لأن أمة محمد صلى الله عليه وسلم كثروا ورحمهم الله تعالى فعفا عنهم أمورًا لم تعف عن غيرهم، وجعل للنبي صلى الله عليه وسلم الشفاعة فكثر عدد الناجين وهم أصحاب اليمين، وأما من لم يأثم ولم يرتكب الكبيرة من أمة محمد صلى الله عليه وسلم فهم في غاية القلة وهم السابقون ورابعها: هذا توهم وكان ينبغي أن يفرحوا بهذه الآية لأنه تعالى لما قال: {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين} دخل فيهم الأول من الرسل والأنبياء، ولا نبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم، فإذا جعل قليلًا من أمته مع الرسل والأنبياء والأولياء الذين كانوا في درجة واحدة، يكون ذلك إنعامًا في حقهم ولعله إشارة إلى قوله عليه الصلاة والسلام: «علماء أمتي كأنبياء بني إسرائيل» الوجه الثاني: المراد منه: {السابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100] فإن أكثرهم لهم الدرجة العليا، لقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ} [الحديد: 10] الآية.
{وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين} الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم، وعلى هذا فقوله: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثلاثة} [الواقعة: 7] يكون خطابًا مع الموجودين وقت التنزيل، ولا يكون فيه بيان الأولين الذين كانوا قبل نبينا عليه السلام، وهذا ظاهر فإن الخطاب لا يتعلق إلا بالموجودين من حيث اللفظ، ويدخل فيه غيرهم بالدليل الوجه الثالث: {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين} الذين آمنوا وعملوا الصالحات بأنفسهم {وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين} الذين قال الله تعالى فيهم: {واتبعتهم ذرياتهم} [الطور: 21] فالمؤمنون وذرياتهم إن كانوا من أصحاب اليمين فهم في الكثرة سواء، لأن كل صبي مات وأحد أبويه مؤمن فهو من أصحاب اليمين، وأما إن كانوا من المؤمنين السابقين، فقلما يدرك ولدهم درجة السابقين وكثيرًا ما يكون ولد المؤمن أحسن حالًا من الأب لتقصير في أبيه ومعصية لم توجد في الابن الصغير وعلى هذا فقوله: {الآخرين} المراد منه الآخرون التابعون من الصغار.
{عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16)}.
والموضونة هي المنسوجة القوية اللحمة والسدى، ومنه يقال للدرع المنسوجة: موضونة والوضين هو الحبل العريض الذي يكون منه الحزم لقوة سداه ولحمته، والسرر التي تكون للملوك يكون لها قوائم من شيء صلب ويكون مجلسهم عليها معمولًا بحرير وغير ذلك لأنه أنعم من الخشب وما يشبهه في الصلابة وهذه السرر قوائمها من الجواهر النفيسة، وأرضها من الذهب الممدود، وقوله تعالى: {مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} للتأكيد، والمعنى أنهم كائنون على سرر متكئين عليها متقابلين، ففائدة التأكيد هو أن لا يظن أنهم كائنون على سرر متكئين على غيرها كما يكون حال من يكون على كرسي صغير لا يسعه للاتكاء فيوضع تحته شيء آخر للاتكاء عليه، فلما قال: على سرر متكئين عليها دل هذا على أن استقرارهم واتكاءهم جميعًا على سرر، وقوله تعالى: {متقابلين} فيه وجهان أحدهما: أن أحدًا لا يستدبر أحدًا وثانيهما: أن أحدًا من السابقين لا يرى غيره فوقه، وهذا أقرب لأن قوله: {متقابلين} على الوجه الأول يحتاج إلى أن يقال: متقابلين معناه أن كل أحد يقابل أحدًا في زمان واحد، ولا يفهم هذا إلا فيما لا يكون فيه اختلاف جهات، وعلى هذا فيكون معنى الكلام أنهم أرواح ليس لهم أدبار وظهور، فيكون المراد من السابقين هم الذين أجسامهم أرواح نورانية جميع جهاتهم وجه كالنور الذي يقابل كل شيء ولا يستدبر أحدًا، والوجه الأول أقرب إلى أوصاف المكانيات. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَأَصْحَابُ الميمنة}.
فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار؛ قاله السُّديّ.
والمشأمة الميسرة وكذلك الشأمة.
يقال: قعد فلان شأمة.
ويقال: يا فلان شائم بأصحابك؛ أي خذ بهم شأمة أي ذات الشمال.
والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الشمال الأشأم.
وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليُمْن، ولمَا جاء عن الشّمال الشؤم.
وقال ابن عباس والسُّديّ: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذّرية من صُلْبه فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي.
وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أُخِذوا من شقّ آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أُخِذوا من شق آدم الأيسر.
وقال عطاء ومحمد بن كعب: أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله.
وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات.
وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم بالأعمال السيئة القبيحة.
وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذرّ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «فلما عَلَونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أَسْوِدة وعن يساره أَسْوِدة قال فإذا نظر قِبل يمينه ضحك وإذا نظر قِبل شماله بكى قال فقال مرحبًا بالنبيّ الصالح والابن الصالح قال قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الأسوِدة التي عن يمينه وعن شماله نَسَم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسوِدة التي عن شماله أهل النار» وذكر الحديث.
وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدّم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر.