فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك؛ أي اجعلني من المتقدّمين ولا تجعلنا من المتأخرين.
والتكرير في {مَآ أَصْحَابُ الميمنة}.
و {مَآ أَصْحَابُ المشأمة} للتفخيم والتعجيب؛ كقوله: {الحاقة مَا الحآقة} [الحاقة: 1] و{القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1] كما يقال: زيد ما زيد! وفي حديث أمّ زَرْع رضي الله عنها: مالِكٌ ومَا مَالِكٌ! والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ولأصحاب المشأمة من العقاب.
وقيل: {أَصْحَابُ} رفع بالابتداء والخبر {مَآ أَصْحَابُ الميمنة} كأنه قال: {فَأَصْحَابُ الميمنة} ما هم؛ المعنى: أيُّ شيء هم.
وقيل: يجوز أن تكون (ما) تأكيدًا، والمعنى فالذين يعطون كتابهم بأيمانهم هم أصحاب التقدّم وعلوّ المنزلة.
قوله تعالى: {والسابقون السابقون} روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال:
«السابقون الذين إذا أعطوا الحقّ قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» ذكره المهدوي.
وقال محمد بن كعب القُرَظيّ: إنهم الأنبياء.
الحسن وقتادة: السابقون إلى الإيمان من كل أمة.
ونحوه عن عكرمة.
محمد بن سيرين: هم الذين صَلُّوا إلى القبلتين؛ دليله قوله تعالى: {والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار} [التوبة: 100].
وقال مجاهد وغيره: هم السابقون إلى الجهاد، وأوّل الناس رواحًا إلى الصلاة.
وقال عليّ رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس.
الضحاك: إلى الجهاد.
سعيد بن جُبير: إلى التوبة وأعمال البر؛ قال الله تعالى: {وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [آل عمران: 133] ثم أثنى عليهم فقال: {أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنون: 61].
وقيل: إنهم أربعة؛ منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صلى الله عليه وسلم وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما؛ قاله ابن عباس؛ حكاه الماوردي.
وقال شُمَيْط بن العجلان: الناس ثلاثة؛ فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرّب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال.
وقيل: هم كل من سبق إلى شيء من أشياء الصلاح.
ثم قيل: {السابقون} رفع بالابتداء والثاني توكيد له والخبر {أولئك المقربون}.
وقال الزجاج: {السابقون} رفع بالابتداء والثاني خبره؛ والمعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله {أولئك المقربون} من صفتهم.
وقيل: إذا خرج رجل من السابقين المقربين من منزله في الجنة كان له ضوء يعرفه به من دونه.
قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} أي جماعة من الأمم الماضية.
{وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} أي ممن آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم.
قال الحسن: ثُلَّة ممن قد مضى قبل هذه الأمة، وقليل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعلنا منهم بكرمك.
وسُمُّوا قليلًا بالإضافة إلى من كان قبلهم؛ لأن الأنبياء المتقدّمين كثروا فكثر السابقون إلى الإيمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.
وقيل: لما نزل هذا شَقَّ على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلثَ أهل الجنة بل نصفَ أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني» رواه أبو هريرة، ذكره الماوردي وغيره.
ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود.
وكأنه أراد أنها منسوخة والأشبه أنها محكمة لأنها خبر؛ ولأن ذلك في جماعتين مختلفتين.
قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا؛ فلذلك قال: {وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} وقال في أصحاب اليمين وهم سوى السابقين: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} ولذلك قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة» ثم تلا قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين} قال مجاهد: كلٌّ من هذه الأمة.
وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «الثُّلَّتان جميعًا من أمتي» يعني {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} {وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين}.
وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه.
قال أبو بكر رضي الله عنه: كِلاَ الثُّلَّتين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم، فمنهم من هو في أوّل أمته، ومنهم من هو في آخرها؛ وهو مثل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله} [فاطر: 32].
وقيل: {ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين} أي من أوّل هذه الأمة.
{وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين} يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الأوّلين؛ ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «خيركم قَرْني» ثم سَوَّى في أصحاب اليمين بين الأوّلين والآخرين.
والثُّلَّة من ثَلَلت الشيء أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة؛ قاله الزجاج.
قوله تعالى: {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} [الطور: 20] أي السابقون في الجنة {عَلَى سُرُرٍ}؛ أي مجالسهم على سرر جمع سرير.
{مَّوْضُونَةٍ} قال ابن عباس: منسوجة بالذهب.
وقال عكرمة: مشبكة بالدُّرّ والياقوت.
وعن ابن عباس أيضًا: {مَوْضُونَةٍ} مصفوفة؛ كما قال في موضع آخر: {على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ}.
وعنه أيضًا وعن مجاهد: مَرْمولة بالذهب.
وفي التفاسير: {مَوْضُونَةٍ} أي منسوجة بقضبان الذّهب مشبكة بالدّر والياقوت والزّبرجد.
والوضْن النسج المضاعف والنّضد؛ يقال: وَضَن فلانٌ الحجَرَ والآجُرَّ بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النّسج مثل مصفوفة؛ قال الأعشى:
وَمِن نَسْجِ دَاوُدَ مَوضُونَة ** تُسَاقُ مع الحيِّ عِيرًا فَعِيرَا

وقال أيضًا:
وبَيْضَاء كالنَّهْيِ مَوْضُونَة ** لها قَوْنَسٌ فوقَ جَيْبِ البَدَنْ

والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج؛ ومنه الوَضِين: بِطانٌ من سُيور ينسج فيدخل بعضه في بعض؛ ومنه قوله:
إليكَ تَعْدُو قَلِقًا وَضِينُها

{مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} أي على السرر {مُتَقَابِلِينَ} أي لا يرى بعضهم قَفَا بعض، بل تدور بهم الأسرة، وهذا في المؤمن وزوجته وأهله؛ أي يتكئون متقابلين.
قاله مجاهد وغيره.
وقال الكلبيّ: طول كل سرير ثلثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت. اهـ.

.قال الألوسي:

{فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة وأصحاب المشئمة مَا أصحاب المشئمة}.
تفصيل للأزواج الثلاثة مع الإشارة الاجمالية إلى أحوالهم قبل تفصيلها، والدائر على ألسنتهم أن أصحاب الميمنة مبتدأ، وقوله تعالى: {مَا أصحاب الميمنة} {مَا} فيه استفهامية مبتدأ ثان.
و {أصحاب} خبره، والجملة خبر المبتدأ الأول والرابط الظاهر القائم مقام الضمير، وكذا يقال في قوله تعالى: {وأصحاب المشئمة} الخ، والأصل في الموضعين ما هم؟ أي أيّ شيء هم في حالهم وصفتهم فان {مَا} وإن شاعت في طلب مفهوم الاسم والحقيقة لكنها قد تطلب بها الصفة والحال كما تقول ما زيد؟ فيقال: عالم، أو طبيب فوضع الظاهر موضع الضمير لكونه أدخل في المقصود وهو التفخيم في الأول والتفظيع في الثاني، والمراد تعجيب السامع من شأن الفريقين في الفخامة والفظاعة كأنه قيل: {فأصحاب الميمنة} في غاية حسن الحال {وأصحاب المشئمة} في نهاية سوء الحال، وقيل: جملة {مَا أصحاب} خبر بتقدير القول على ما عرف في الجملة الإنشائية إذا وقعت خبرًا أي مقول في حقهم {مَا أصحاب} إلخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر، و{الميمنة} ناحية اليمين، أو اليمن والبركة، {والمشأمة} ناحية الشمال من اليد الشؤمى وهي الشمال، أو هي من الشؤم مقابل اليمن، ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل، واختلفوا في الفريقين فقيل: أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية، وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذًا من تيمنهم بالميامن وتشؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح، وهو مجاز شائع، وجوز أن يكون كناية، وقيل: الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم، وقيل: الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، وقيل: أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم، فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم، وروى هذا عن الحسن والربيع {والسابقون السابقون} هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن أيرادهم بعنوان السبق مطلقًا معرض عن إحرازهم قصب السبق من جميع الوجوه.
واختلف في تعيينهم فقيل: هم الذين سبقوا إلى الايمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان، وروى هذا عن عكرمة ومقاتل.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون. وحبيب النجار الذي ذكر في يس. وعليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم، وقيل: هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الايمان، وقيل: هم الأنبياء عليهم السلام لأنهم مقدموا أهل الأديان، وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى: {والسابقون الاولون مِنَ المهاجرين والانصار} [التوبة: 100] وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة، وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس.
وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعًا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه.
وأخرج عبد بن حميد: وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال: بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عز وجل، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد، وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر، وقال كعب: هم أهل القرآن، وفي (البحر) في الحديث: «سئل عن السابقين فقال: هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» وقيل: الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل، وأيًا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى {والسابقون} هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله:
أنا أبو النجم وشعري شعري

وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى، وقيل: متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى: {السابقون} إلى رحمته سبحانه، أو {السابقون} إلى الخير {السابقون} إلى الجنة، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد.