فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} حال من الضمير المستقر في الجار والمجرور أعني {على سرر} [الواقعة: 15]، وقوله تعالى: {متقابلين} حال منهم أيضًا ولك أن تعتبر الحالين متداخلين.
والمراد كما قال مجاهد: لا ينظر أحدهم في قفا صاحبه وهو وصف لهم بحسن العشرة وتهذيب الأخلاق ورعاية الآداب وصفاء البواطن. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8)}.
قد علمت عند تفسير قوله تعالى: {إذا وقعت الواقعة} [الواقعة: 1] الوجه في متعلق {إذا} وإذ قد وقع قوله: {وكنتم أزواجًا ثلاثة} [الواقعة: 7] عطفًا على الجمل التي أضيف إليها (إذَا) من قوله: {إذا رجت الأرض رجا} [الواقعة: 4] كان هو محط القصد من التوقيت بـ (إذا) الثانية الواقعة بدلًا من (إذا) الأولى وكلتاهما مضمن معنى الشرط، فكان هذا في معنى الجزاء، فلك أن تجعل الفاء لربط الجزاء مع التفصيل للإجمال، وتكون جملة {فأصحاب الميمنة} جوابًا لـ: (إذا) الثانية آئلًا إلى كونه جوابًا لـ: (إذا) الأولى لأن الثانية مبدلة منها، ولذلك جاز أن يكون هذا هو جواب (إذا) الأولى فتكون الفاء مستعملة في معنييها كما تقدم عند قوله تعالى: {ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة: 2].
وقد أفاد التفصيل أن الأصناف ثلاثة:
صنفٌ منهم أصحاب الميمنة، وهم الذين يجعلون في الجهة اليمنى في الجنة أو في المحشر.
واليمين جهة عناية وكرامة في العرف، واشتقت من اليمْن، أي البركة.
وصنف أصحاب المشأمة، وهي اسم جهة مشتقة من الشؤم، وهو ضد اليمن فهو الضر وعدم النفع وقد سميا في الآية الآتية {أصحابَ اليمين} [الواقعة: 27] و{أصحاب الشمال} [الواقعة: 41]، فجعل الشمال ضدَّ اليمين كما جُعل المشأمة هنا ضد الميمنة إشعارًا بأن حالهم حال شؤم وسوء، وكل ذلك مستعار لما عرف في كلام العرب من إطلاق هذين اللفظين على هذا المعنى الكنائي الذي شاع حتى ساوى الصريح، وأصله جاءٍ من الزجر والعيافة إذ كانوا يتوقعون حصول خير من أغراضهم من مرور الطير أو الوحش من يمين الزاجر إلى يساره ويتوقعون الشر من مروره بعكس ذلك، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى: {قالوا إنكم كنتم تأتوننا عن اليمين} في سورة الصافات (28)، وتقدم شيء منه عند قوله تعالى: {يَطَّيَّروا بموسى ومن معه} في سورة الأعراف (131)، وعند قوله تعالى: {قالوا إنا تَطيرنا بكم} في سورة يس (18).
ولذلك استغني هنا عن الإخبار عن كلا الفريقين بخبر فيه وصف بعض حاليهما بذكر ما هو إجمال لحاليهما مما يشعر به ما أضيف إليه أصحابه من لفظي الميمنة والمشأمة بطريقة الاستفهام المستعمل في التعجيب من حال الفريقين في السعادة والشقاوة، وهو تعجيب ترك على إبهامه هنا لتذهب نفس السامع كل مذهب ممكن من الخير والشر، ف (ما) في الموضعين اسم استفهام.
و(أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة) خبرَانِ عن (مَا) في الموضعين كقوله تعالى: {الحاقة ما الحاقة} [الحاقة: 1، 2] وقوله: {القارعة ما القارعة} [القارعة: 1، 2].
وإظهار لفظي {أصحاب الميمنة} و{أصحاب المشئمة} بعد الاستفهامين دون الإِتيان بضميريْهما. لأن مقام التعجيب والتشهير يقتضي الإظهار بخلاف مقام قوله تعالى: {وما أدراك ماهية} [القارعة: 10].
وقوله: {والسابقون} هذا الصنفُ الثالث في العدّ وهم الصنف الأفضل من الأصناف الثلاثة، ووصفُهم بالسبق يقتضي أنهم سابقون أمثالهم من المحسنين الذين عبر عنهم بأصحاب الميمنة فهم سابقون إلى الخير، فالناس لا يتسابقون إلا لنوال نفيس مرغوب لكل الناس، وأما الشر والضرّ فهم يتكعكون عنه.
وحقيقة السبق: وصول أحد مكانًا قبل وصول أحد آخر.
وهو هنا مستعمل على سبيل الاستعارة، وقد جمع المعنيين قول النابغة:
سَبقتَ الرجال الباهشين إلى العُلا ** كسبق الجواد اصطاد قبل الظوارد

فيجوز أن يكون {السابقون} مستعملًا في المبادرة والإسراع إلى الخير في الدين كما في قوله تعالى: {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار} في سورة براءة (100).
ويجوز أن يكون مستعملًا في المغالبة في تحصيل الخير كقوله تعالى: {أولئك يسارعون في الخيران وهم لها سابقون} في سورة المؤمنين (61).
وقوله: {السابقون} ثانيًا يجوز جعله خبرًا عن {السابقون} الأول كما أُخبر عن أصحاب الميمنة بأنهم {ما أصحاب الميمنة} لأنه يدل على وصفهم بشيء لا يكتنه كنهه بحيث لا يفي به التعبير بعبارة غير تلك الصفة إذ هي أقصى ما يسعه التعبير، فإذا أراد السامع أن يتصور صفاتهم فعليه أن يتدبر حالهم، وهذا على طريقه قوله: {أولئك هم المفلحون} [الأعراف: 157].
ويجوز جعله تأكيدًا للأول فمآل جملة {ما أصحاب الميمنة} ونظيرتها وجملة {والسابقون السابقون} هو التعجيب من حالهم وطريقُه هو الكناية ولكنّ بين الكنايتين فرقًا بأن إحداهما كانت من طريق السؤال عن الوصف، والأخرى من طريق تعذر التعبير بغير ذلك الوصف.
والمعنى: أن حالهم بلغت منتهى الفضل والرفعة بحيث لا يجد المتكلم خبرًا يُخبر به عنهم أدلّ على مرتبتهم مِن اسم {السابقون} فهذا الخبر أبلغ في الدلالة على شرف قدرهم من الإِخبار بـ {ما} الاستفهامية التعجيبية في قوله: {ماأصحاب الميمنة}، وهذا مثل قول أبي الطمحان القفيني:
وإني من القوم الذين هُمُو هُمُو ** إذا مات منهم سيد قام صاحبه

مع ما في اشتقاق لقبهم من (السبق) من الدلالة على بلوغهم أقصى ما يطلبه الطالبون.
وحذف متعلق {السابقون} في الآية لقصد جعل وصف {السابقون} بمنزلة اللقب لهم، وليفيد العموم، أي أنهم سابقون في كل ميدان تتسابق إليه النفوس الزكية كقوله تعالى: {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين: 26]، فهؤلاء هم السابقون إلى الإِيمان بالرسل وهم الذين صحبوا الرسل والأنبياء وتلقوا منهم شرائعهم، وهذا الصنف يوجد في جميع العصور من القدم، ومستمر في الأمم إلى الأمة المحمدية وليس صنفًا قد انقضى وسبقَ الأمةَ المحمدية.
وأُخِّر {السابقون} في الذكر عن أصحاب اليمين لتشويق السامعين إلى معرفة صنفهم بعد أن ذكر الصنفان الآخران من الأصناف الثلاثة ترغيبًا في الاقتداء.
وجملة {أولئك المقربون في جنات النعيم}، مستأنفة استئنافًا بيانيًا لأنها جواب عما يثيره قوله: {والسابقون السابقون} من تساؤل السامع عن أثر التنويه بهم.
وبذلك كان هذا ابتداء تفصيل لجزاء الأصناف الثلاثة على طريقة النشرِ بعد اللف، نشرًا مشوَّشًا تشويشًا اقتضته مناسبة اتصال المعاني بالنسبة إلى كل صنف أقربَ ذِكرًا، ثم مراعاةُ الأهمّ بالنسبة إلى الصنفين الباقيين فكان بعض الكلام آخذًا بحُجز بعض.
والمقرَّب: أبلغ من القريب لدلالة صيغته على الاصطفاء والاجتباء، وذلك قُرب مجازي، أي شُبه بالقرب في ملابسة القريب والاهتمام بشؤونه فإن المطيع بمجاهدته في الطاعة يكون كالمتقرب إلى الله، أي طالب القرب منه فإذا بلغ مرتبة عالية من ذلك قرّبه الله، أي عامله معاملة المقرّب المحبوب، كما جاء: «ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحِبَّه فإذا أحببته كنت سمعَه الذي يسمع به وبصَره الذي يُبصر به ويدَه التي يبطش بها ورجلَه الذي يمشي بها ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه» وكل هذه الأوصاف مجازيه تقريبًا لمعنى التقريب.
ولم يُذكَر متعلِّق {المقربون} لظهور أنه مقرب من الله، أي من عنايته وتفضيله، وكذلك لم يذكر زَمان التقريب ولا مكانُه لقصد تعميم الأزمان والبقاع الاعتبارية في الدنيا والآخرة.
وفي جعل المسند إليه اسم إشارة تنبيه على أنهم أحرياء بما يخبر عنه من أجل الوصف الوارد قبل اسم الإشارة وهو أنهم السابقون على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} في سورة البقرة (5).
وقوله: {في جنات النعيم} خبر ثانٍ عن {أولئك المقربون} أو حال منه.
وإيقاعه بعد وصف {المقربون} مشير إلى أن مضمونه من آثار التقريب المذكور.
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)}.
اعتراض بين جملة {في جنات النعيم} [الواقعة: 12] وجملة على {سرر موضونة} [الواقعة: 15].
و {ثلة} خبر عن مبتدأ محذوف، تقديره: هم ثلة، ومعاد الضمير المقدر {السابقون}، أي السابقون ثلة من الأولين وقليل من الآخرين.
وهذا الاعتراض يقصد منه التنويه بصنف السابقين وتفضيلهم بطريق الكناية عن ذلك بلفظي {ثلة} و{قليل} المشعرَيْن بأنهم قُلٌّ من كثر، فيستلزم ذلك أنهم صنف عزيز نفيس لما عهد في العرف من قلة الأشياء النفيسة وكقول السموأل وقيل غيرِه:
تعيرنا أنّا قليل عديدنا ** فقلت لها إن الكرام قليل

مع بشارة المسلمين بأن حظهم في هذا الصنف كحظ المؤمنين السالفين أصحاب الرسل لأن المسلمين كانوا قد سمعوا في القرآن وفي أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم تنويهًا بثبات المؤمنين السالفين مع الرسل ومجاهدتهم فربما خامر نفوسهم أن تلك صفة لا تُنال بعدهم فبشرهم الله بأن لهم حظًا منها مثل قوله تعالى: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتهم على أعقابكم} إلى قوله: {وكأين من نبي قاتل معه ربّيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين} [آل عمران: 144 146] وغيرها، تلهيبًا للمسلمين وإذكاء لهممهم في الأخذ بما يُلحقهم بأمثال السابقين من الأولين فيستكثروا من تلك الأعمال.
وفي الحديث: «لقَد كان من قبلكم يوضع المِئْشار على أحدهم فينشر إلى عظمه لا يصده ذلك عن دينه».
والثُلَّة: بضم الثاء لا غير: اسم للجماعة من الناس مطلقًا قليلًا كانوا أو كثيرًا، وهذا هو قول الفراء وأهل اللغة والراغب وصاحب (لسان العرب) وصاحب (القاموس) والزمخشري في (الأساس)، وقال الزمخشري في (الكشاف) إن الثلة: الأمة الكثيرة من الناس ومحمله على أنه أراد به تفسير معناها في هذه الآية لا تفسير الكلمة في اللغة.
ولما في هذا الاعتراض من الإِشعار بالعزة قدم على ذكر ما لهم من النعيم للإِشارة إلى عظيم كيفيته المناسبةِ لوصفهم بـ (السابقين) بخلاف ما يأتي في أصحاب اليمين.
ومعنى: {الأولين} قوم متقدمون على غيرهم في الزمان لأن الأول هو الذي تقدم في صفة مَّا كالوجود أو الأحوال على غير الذي هو الآخِر أو الثاني، فالأوّلية أمر نسبي يبيّنه سياق الكلام حيثما وقع.
فالظاهر أن {الأولين} هنا مراد بهم الأمم السابقة قبل الإسلام بناء على ما تقدم من أن الخطاب في قوله: {وكنتم أزواجًا ثلاثة} [الواقعة: 7] خطاب لجميع الناس بعنوان أنهم ناس لأن المنقرضين الذين يتقدمون من أمة أو قبيلة أو أهل نحلة يُدعون بالأوليين كما قال الفرزدق:
ومهلهل الشعراء ذاك الأوّل

وقال تعالى: {أو آباؤنا الأوّلون} [الواقعة: 48] الذين هم يخلفونهم ويكونون موجودين، أو في تقدير الموجودين يُدعون الآخرين.
وقد وُصف أهل الإسلام بالآخرين في حديث فضل الجمعة «نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بَيد أنهم أُوتوا الكتاب مِن قبلنا» الحديث.
وإذ قد وُصف السابقون بما دل على أنهم أهل السبق إلى الخير ووصفت حالهم في القيامة عَقِبَ ذلك فقد عُلم أنهم أفضل الصالحين من أصحاب الأديان الإِلهية ابتداء من عصر آدم إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين جاء فيهم قوله تعالى: {مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء: 69].
فلا جرم أن المراد بـ {الأولين} الأممُ الأولى كلها، وكان معظم تلك الأمم أهل عناد وكفر ولم يكن المؤمنون فيهم إلا قليلًا كما تنبىء به آيات كثيرة من القرآن.