فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ليس كمثله شيء} [الشورى: 11].
والمعنى: هن أمثالُ اللؤلؤ المكنون.
و {اللؤلؤ}: الدرّ، وتقدم تبيينه عند قوله تعالى: {يُحَلَّون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا} في سورة الحج (23).
و(المكنون): المخزون المخبأ لنفاسته، وتقدم في سورة الصافات.
وانتصب {جزاء} على المفعول لأجله لفعل مقدر دل عليه قوله: {المقربون} [الواقعة: 11]، أي أعطيناهم ذلك جزاء، ويجوز أن يكون {جزاء} مصدرًا جاء بدلًا عن فعله، والتقدير: جازيناهم جزاءً.
والجملة على التقديرين اعتراض تفيد إظهار كرامتهم بحيث جعلت أصناف النعيم الذين حُظُوا به جزاء على عمل قدّموه وذلك إتمام لكونهم مقربين.
ثم أكمل وصف النعيم بقوله: {لا يسمعون فيها لغوًا ولا تأثيمًا}، وهي نعمة روحية فإن سلامة النفس من سماع ما لا يُحَب سماعه ومن سماع ما يكره سماعه من الأذى نعمة براحة البال وشغله بسماع المحبوب.
واللغو: الكلام الذي لا يعتدّ به كالهذيان، والكلام الذي لا محصل له.
والتأثيم: اللَّوم والإِنكار، وهو مصدر أَثَّم، إذا نسب غيره إلى الإثم.
وضمير {فيها} عائد إلى {جنات النعيم} [الواقعة: 12].
وأتبع ذكر هذه النعمة بذكر نعمة أخرى من الأنعام بالمسموع الذي يفيد الكرامة لأن الإِكرام لذة رُوحية يُكسب النفس عزة وإدلالًا بقوله: {إلا قيلًا سلامًا سلامًا}.
وهو استثناء من {لغوًا وتأثيمًا} بطريقة تأكيد الشيء بما يشبه ضده المشتهر في البديع باسم تأكيد المدح لما يشبه الذم، وله موقع عظيم من البلاغة كقوله النابغة:
ولا عيب فيهم غيرَ أنّ سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

فالاستثناء متصل إدعاءً وهو المعبر عنه بالاستثناء المنقطع بحسب حاصل المعنى، وعليه فإن انتصاب {قيلًا} على الاستثناء لا على البدلية من {لغوًا}.
و {سلامًا} الأول مقول {قيلًا} أي هذا اللفظ الذي تقديره: سَلمنا سَلامًا، فهو جملة محكية بالقول.
و {سلامًا} الثاني تكرير لـ: {سلامًا} الأول تكريرًا ليس للتأكيد بل لإِفادة التعاقب، أي سلامًا إثر سلام، كقوله تعالى: {كلا إذا دكت الأرض دَكًَّا دَكًا} [الفجر: 21] وقولهم: قرأت النحو بابًا بابًا، أو مشارًا به إلى كثرة المسلِّمين فهو مؤذن مع الكرامة بأنهم معظمون مبجلون، والفرق بين الوجهين أن الأول يفيد التكرير بتكرير الأزمنة، والثاني يفيد التكرار بتكرار المسلِّمين.
وهذا القيل يتلقونه من الملائكة الموكلين بالجنة، قال تعالى: {والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم} [الرعد: 23، 24] ويتلقاه بعضهم من بعض كما قال تعالى: {وتحيتهم فيها سلام} [يونس: 10].
وإنما جيء بلفظ: {سلامًا} منصوبًا دون الرفع مع كون الرفع أدل على المبالغة كما ذكروه في قوله: {قالوا سَلامًا قال سلام} في سورة هود (69) وسورة الذاريات (25) لأنه أريد جعله بدلًا من {قيلًا}. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1)}.
{الواقعة}: اسم من أسماء القيامة كـ: {الصاعقة} [البقرة: 55، النساء: 153] و{الأزفة} [غافر: 18، النجم: 57] و{الطامة} [النازعات: 34] قاله ابن عباس، وهذه كلها أسماء تقتضي تعظيمها وتشنيع أمرها. وقال الضحاك: {الواقعة}: الصيحة وهي النفخة في الصور. وقال بعض المفسرين: {الواقعة}: صخرة بيت المقدس، تقع عند القيامة، فهذه كلها معان لأجل القيامة. و: {كاذبة} يحتمل أن يكون مصدرًا كالعاقبة والعافية وخائنة الأعين. فالمعنى ليس لها تكذيب ولا رد مثنوية، وهذا قول قتادة والحسن ويحتمل أن يكون صفة لمقدر، كأنه قال: {ليس لوقعتها} حال {كاذبة}، ويحتمل الكلام على هذا معنيين: أحدهما {كاذبة}، أي مكذوب فيما أخبر به عنها فسماها {كاذبة} بهذا، كما تقول هذه قصة كاذبة أي مكذوب فيها، والثاني حالة كاذبة أي لا يمضي وقوعها، كما تقول: فلان إذا حمل لم يكذب.
وقوله: {خافضة رافعة} رفع على خبر ابتداء، أي هي {خافضة رافعة}.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي وأبو حيوة: {خافضةً رافعةً} بالنصب على الحال بعد الحال التي هي {لوقعتها كاذبة} ولك أن تتابع الأحوال. كما لك أن تتابع أخبار المبتدأ، والقراءة الأولى أشهر وأبرع معنى، وذلك أن موقع الحال من الكلام موقع ما لم يذكر لاستغني عنه وموقع الجمل التي يجزم بها موقع ما يتهمم به.
واختلف الناس في معنى هذا الخفض والرفع في هذه الآية، فقال قتادة وعثمان بن عبد الله بن سراقة: القيامة تخفض أقوامًا إلى النار، وترفع أقوامًا إلى النار، وترفع أقوامًا إلى الجنة. وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك: الصيحة تخفض قوتها لتسمع الأدنى وترفعها لتسمع الأقصى. وقال جمهور من المتأولين: القيامة بتفطر السماء والأرض والجبال انهدام هذه البنية، ترفع طائفة من الأجرام وتخفض أخرى، فكأنها عبارة عن شدة الهول والاضطراب، والعامل في قوله: {إذا رجت}، {وقعت}، لأن {إذا} هذه بدل من {إذا} الأولى، وقد قالوا: إن {وقعت} هو العامل في الأولى، وذلك لأن معنى الشرط فيها قوي، فهي كـ: (من) و(ما) في الشرط، يعمل فيها ما بعدها من الأفعال، وقد قيل إن {إذا} مضافة إلى {وقعت} فلا يصح أن يعمل فيها، وإنما العامل فيها فعل مقدر. ومعنى: {رجت} زلزلت وحركت بعنف، قاله ابن عباس، ومنه ارتج السهم في الغرض إذا اضطرب بعد وقوعه، والرجة في الناس الأمر المحرك.
واختلف اللغويون في معنى: {بست} فقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة معناه: فتتت، كما تبس البسيسة وهي السويق، ويقال بسست الدقيق إذا ثريته بالماء وبقي مفتتًا، وأنشد الطبري في هذا: الرجز:
لا تخبزا خبزًا وبسّا بسّا

وقال هذا قول لص أعجله الخوف عن العجين، فقال لصاحبه هذا.
وقال بعض اللغويين: {بست} معناه سيرت قالوا والخبز سير الشديد وضرب الأرض بالأيدي، والبس: السير الرفيق، وأنشد البيت: الرجز:
لا تخبزا خبزًا وبسّا بسّا

وجنباها نهشلًا وعبسا

ولا تطيلا بمناخ حبسا

ذكر هذا أبو عثمان اللغوي في كتابه في الأفعال.
و(الهباء): ما يتطاير في الهواء من الأجزاء الدقيقة، ولا يكاد يرى إلا في الشمس إذا دخلت من كوة، قاله ابن عباس ومجاهد. وقال قتادة: الهباء: ما تطاير من يبس النبات. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه الهباء: ما تطاير من حوافر الخيل والدواب. وقال ابن عباس أيضًا، الهباء: ما تطاير من شرر النار، فإذا طفي لم يوجد شيئًا. والمنبث: بتالتاء المثلثة، الشائع في جميع الهواء.
وقرأ النخعي: {منبتًا} بالتاء بنقطتين، أي متقطعًا، ذكر ذلك الثعلبي.
قال القاضي أبو محمد: والقول الأول في هباء أحسن الأقوال.
والخطاب في قوله: {وكنتم} لجميع العالم، لأن الموصوفين من {أصحاب المشأمة} ليسوا في أمة محمد، والأزواج: الأنواع والضروب. قال قتادة: هذه منازل الناس يوم القيامة.
وقوله تعالى: {فأصحاب الميمنة} ابتداء، و: {ما} ابتداء ثان. و: {أصحاب الميمنة} خبرها، والجملة خبر الابتداء الأول، وفي الكلام معنى التعظيم، كما تقول زيد ما زيد، ونظير هذا في القرآن كثير، و{الميمنة}: أظهر ما في اشتقاقها أنها من ناحية اليمين، وقيل من اليمن، وكذلك {المشأمة} إما أن تكون من اليد الشؤمى، وإما أن تكون من الشؤم، وقد فسرت هذه الآية بهذين المعنيين، إذ {أصحاب الميمنة} الميامين على أنفسهم، قاله الحسن والربيع، ويشبه أن اليمن والشؤم إنما اشتقا من اليمنى والشؤمى وذلك على طريقهم في السانح والبارح، وكذلك اليمن والشؤم اشتقا من اليمنى والشؤمى.
وقوله: {والسابقون} ابتداء و: {السابقون} الثاني. قال بعض النحويين: هو نعت للأول، ومذهب سيبويه أنه خبر الابتداء، وهذا كما تقول العرب: الناس الناس، وأنت أنت، وهذا على معنى تفخيم أمر وتعظيمه، ومعنى الصفة هو أن تقول: {والسابقون} إلى الإيمان {السابقون} إلى الجنة والرحمة {أولئك}، ويتجه هذا المعنى على الابتداء والخبر.
وقوله: {أولئك المقربون} ابتداء وخبر، وهو في موضع الخبر على قول من قال: {السابقون} الثاني صفة، و: {المقربون} معناه من الله في جنة عدن. قال جماعة من أهل العلم: وهذه الآية متضمنة أن العالم يوم القيامة على ثلاثة أصناف: مؤمنون، هم على يمين العرش، وهنالك هي الجنة، وكافرون، هم على شؤمى العرش، وهنالك هي النار. والقول في يمين العرش وشماله نحو من الذي هو في سورة الكهف في اليمين والشمال. وقد قيل في {أصحاب الميمنة} واليمين: إنهم من أخذ كتابه بيمينه، وفي {أصحاب المشأمة} والشمال: إنهم من أخذه بشماله، فعلى هذا ليست نسبة اليمين والشمال إلى العرش.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أصحاب اليمين أطفال المؤمنين، وقيل المراد ميمنة آدم ومشأمته المذكورتان في حديث الإسراء في الأسودة.
و: {السابقون} معنه: قد سبقت لهم السعادة، وكانت أعمالهم في الدنيا سبقًا إلى أعمال البر وإلى ترك المعاصي، فهذا عموم في جميع الناس. وخصص المفسرون في هذا أشياء، فقال عثمان بن أبي سودة: هم {السابقون} إلى المساجد. وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا القبلتين. وقال كعب: هم أهل القرآن، وقيل غير هذا مما هو جزء من الأعمال الصالحة، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم وسئل عن السابقين، فقال: «هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه، وإذا سئلوا بذلوه، وحكموا للناس بحكمهم لأنفسهم».
وقرأ طلحة بن مصرف: {في جنة النعيم} على الإفراد. و: {المقربون} عبارة عن أعلى منازل البشر في الآخرة، وقيل لعامر بن عبد قيس في يوم حلبة من سبق فقال: {المقربون}.
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14).
الثلة: الجماعة والفرقة، وهو يقع للقليل والكثير، واللفظ في هذا الموضوع يعطي أن الجملة {من الأولين} أكثر من الجملة {من الآخرين}، وهي التي عبر عنها بالقليل.
واختلف المتأولون في معنى ذلك، فقال قوم حكى قولهم مكي: المراد بذلك الأنبياء، لأنهم كانوا في صدر الدنيا أكثر عددًا، وقال الحسن بن أبي الحسن وغيره: المراد السابقون من الأمم والسابقون من الأمة، وذلك إما أن يقترن أصحاب الأنبياء بجموعهم إلى أصحاب محمد فأولئك أكثر لا محالة، وإما أن يقترن أصحاب الأنبياء ومن سبق في أثناء الأمم إلى السابقين من جميع هذه الأمة فأولئك أكثر. وروي أن الصحابة حزنوا لقلة سابق هذه الأمة على هذا التأويل فنزلت: {ثلة من الأولين وثلة من الآخرين} [الواقعة: 39-40] فرضوا. وروي عن عائشة أنها تأولت أن الفرقتين في أمة كل نبي وهي في الصدر {ثلة} وفي آخر الأمة {قليل}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم فيما روي عنه: «الفرقتان في أمتي فسابق أول الأمة {ثلة} وسابق سائرها إلى يوم القيامة {قليل}».
وقرأ الجمهور: {سرُر} بضم الراء. وقرأ أبو السمال: {سرَر} بفتح الراء.
والموضونة: المنسوجة بتركيب بعض أجزائها على بعض كحلف الدرع، فإن الدرع موضونة، ومنه قول الأعشى: المتقارب:
ومن نسج داود موضونة ** تسير مع الحي عيرًا فعيرا

وكذلك سفيفة الخوص ونحوه {موضونة}، ومنه وضين الناقة وهو حزامها، لأنه موضون، فهو كقتيل وجريح، ومنه قول الشاعر: الرجز:
إليك تعدو قلقًا وضينها ** معترضًا في بطنها جنينها

مخالفًا دين النصارى دينها

قال ابن عباس: هذه السرر الموضونة هي المرمولة بالذهب، وقال عكرمة: هي مشبكة بالدر والياقوت. و: {متكئين} و: {متقابلين} حالان فيهما ضمير مرفوع، وفي مصحف عبد الله بن مسعود: {متكئين عليها ناعمين}. والولدان: صغار الخدم، عبارة عن أنهم صغار الأسنان، ووصفهم بالخلد وإن كان جميع ما في الجنة كذلك إشارة إلى أنهم في حال الولدان {مخلدون} لا تكبر بهم سن. وقال مجاهد: لا يموتون. قال الفراء: {مخلدون} معناه مقرطون بالخلدات، وهي ضرب من الأقراط، والأول أصوب، لأن العرب تقول للذي كبر ولم يشب: إنه لمخلد. والأكواب: ما كان من أواني الشرب لا أذن له ولا خرطوم، قال ابن عباس: هي جرار من فضة. وقال أبو صالح: مستديرة أفواهها. وقال قتادة والضحاك. ليست لها عرى، والإبريق ما له خرطوم، وقال مجاهد وأذن، وهو من أواني الخمر عند العرب، ومنه قول عدي بن زيد: الخفيف: