فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} أي يتمنونَ وقرئ {ولحومِ طيرٍ}.
{وَحُورٌ عِينٌ} بالرفعِ عطفٌ على والدانٌ أو مبتدأٌ محذوفُ الخبرِ أيْ وفيهَا أو لَهُم حورٌ. وقرئ بالجرِّ عطفًا على {جنات النعيمِ}، كأنَّه قيلَ هم في جناتٍ وفاكهةٍ ولحمٍ ومصاحبة حورٍ أو على أكوابٍ لأنَّ معنى يطوفُ عليهم ولدانٌ مخلدونَ بأكوابٍ يُنعَّمونَ بأكوابٍ وبالنصبِ أي ويُؤتونَ حُورًا. {كأمثال اللؤلؤ المكنون} صفة لحور أو حال. {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} مفعول له أي يفعل بهم ذلكَ كلُّه جزاءً بأعمالِهم، أو مصدرٌ مؤكدٌ أي يُجزونَ جزاءً. {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا} أي باطلًا {وَلاَ تَأْثِيمًا} أيْ ولا نسبةً إلى الإثمِ أيْ لا لغوَ فيهَا ولا تأثيمَ ولا سماعَ كقوله:
ولاَ تَرَى الضبَّ بها ينجحِرُ... {إِلاَّ قِيلًا} أي قولا {سلاما سلاما} بدلٌ من قيلًا كقوله تعالى: {لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلاَّ سلاما}، أو صفتُه أو مفعولُه بمَعْنى لا يسمعونَ فيها إلا أنْ يقولوا سلامًا سلامًا والمَعْنى أنهم يُفشونَ السلامَ فيسلمونَ سلامًا بعدَ سلامٍ أو لا يسمعُ كلٌّ من المسلِّمِ والمسلَّمِ عليهِ إلا سلامَ الآخرِ بدءًا أو ردًا. وقرئ {سلامٌ سلامٌ} على الحكايةِ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {إِذَا وَقَعَتِ الواقعة}.
الواقعة اسم للقيامة كالآزفة وغيرها، وسميت واقعة لأنها كائنة لا محالة، أو لقرب وقوعها، أو لكثرة ما يقع فيها من الشدائد، وانتصاب إذا بمضمر، أي: اذكر وقت وقوع الواقعة، أو بالنفي المفهوم من قوله: {لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ} أي: لا يكون عند وقوعها تكذيب، والكاذبة مصدر كالعاقبة أي: ليس لمجيئها وظهورها كذب أصلًا، وقيل: إذا شرطية، وجوابها مقدّر، أي: إذا وقعت كان كيت وكيت، والجواب هذا هو العامل فيها، وقيل: إنها شرطية، والعامل فيها الفعل الذي بعدها، واختار هذا أبو حيان، وقد سبقه إلى هذا مكيّ فقال: والعامل وقعت.
قال المفسرون: والواقعة هنا: هي النفخة الآخرة، ومعنى الآية: أنها إذا وقعت النفخة الآخرة عند البعث لم يكن هناك تكذيب بها أصلًا، أو لا يكون هناك نفس تكذب على الله، وتكذب بما أخبر عنه من أمور الآخرة.
قال الزجاج: ليس لوقعتها كاذبة، أي: لا يردّها شيء، وبه قال الحسن، وقتادة.
وقال الثوري: ليس لوقعتها أحد يكذب بها.
وقال الكسائي: ليس لها تكذيب، أي: لا ينبغي أن يكذب بها أحد.
{خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} قرأ الجمهور برفعهما على إضمار مبتدأ، أي: هي خافضة رافعة.
وقرأ الحسن وعيسى الثقفي بنصبهما على الحال.
قال عكرمة، والسديّ، ومقاتل: خفضت الصوت فأسمعت من دنا، ورفعت الصوت فأسمعت من نأى، أي: أسمعت القريب والبعيد.
وقال قتادة: خفضت أقوامًا في عذاب الله، ورفعت أقوامًا إلى طاعة الله، وقال: محمد بن كعب: خفضت أقوامًا كانوا في الدنيا مرفوعين، ورفعت أقوامًا كانوا في الدنيا مخفوضين، والعرب تستعمل الخفض والرفع في المكان والمكانة، والعزّ والإهانة، ونسبة الخفض والرفع إليها على طريق المجاز، والخافض والرّافع في الحقيقة، هو الله سبحانه.
{إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجًّا} أي: إذا حرّكت حركة شديدة، يقال رجّه يرجّه رجًّا إذا حرّكه، والرّجة: الاضطراب، وارتجّ البحر اضطرب.
قال المفسرون: ترتجّ، كما يرتجّ الصبيّ في المهد حتى ينهدم كل ما عليها، وينكسر كل شيء من الجبال وغيرها.
قال قتادة، ومقاتل، ومجاهد: معنى رجت: زلزلت، والظرف متعلق بقوله: {خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ} أي: تخفض وترفع وقت رجّ الأرض وبس الجبال؛ لأنه عند ذلك يرتفع ما هو منخفض، وينخفض ما هو مرتفع.
وقيل: إنه بدل من الظرف الأوّل ذكره الزجاج، فيكون معنى وقوع الواقعة هو رجّ الأرض، وبس الجبال {وَبُسَّتِ الجبال بَسًّا} البس: الفت، يقال: بس الشيء إذا فته حتى يصير فتاتًا، ويقال بس السويق: إذا لته بالسمن، أو بالزيت.
قال مجاهد، ومقاتل: المعنى أن الجبال فتت فتًا.
وقال السديّ: كسرت كسرًا.
وقال الحسن: قلعت من أصلها.
وقال مجاهد أيضًا: بست كما يبس الدقيق بالسمن، أو بالزيت، والمعنى: أنها خلطت فصارت كالدقيق الملتوت.
وقال أبو زيد: البسّ: السوق، والمعنى على هذا: سيقت الجبال سوقًا، قال أبو عبيد: بسّ الإبل، وأبسها لغتان: إذا زجرها.
وقال عكرمة: المعنى هدّت هدًّا {فَكَانَتْ هَبَاء مُّنبَثًّا} أي: غبارًا متفرّقًا منتشرًا.
قال مجاهد: الهباء: الشعاع الذي يكون في الكوّة كهيئة الغبار، وقيل: هو الرّهج الذي يسطع من حوافر الدّواب، ثم يذهب، وقيل: ما تطاير من النار إذا اضطرمت على سورة الشرر، فإذا وقع لم يكن شيئًا، وقد تقدّم بيانه في الفرقان عند تفسير قوله: {فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا} [الفرقان: 23] قرأ الجمهور {منبثًّا} بالمثلثة.
وقرأ مسروق، والنخعي، وأبو حيوة بالتاء المثناة من فوق أي: منقطعًا، من قولهم بتّه الله، أي: قطعه.
ثم ذكر سبحانه أحوال الناس واختلافهم فقال: {وَكُنتُمْ أَزْوَاجًا ثلاثة} والخطاب لجميع الناس، أو للأمة الحاضرة، والأزواج: الأصناف، والمعنى: وكنتم في ذلك اليوم أصنافًا ثلاثة.
ثم فسّر سبحانه هذه الأصناف فقال: {فأصحاب الميمنة مَا أصحاب الميمنة} أي: أصحاب اليمين، وهم الذين يأخذون كتبهم بأيمانهم، أو الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، {أصحاب الميمنة} مبتدأ، وخبره: {ما أصحاب الميمنة} أي: أي شيء هم في حالهم، وصفتهم، والاستفهام للتعظيم والتفخيم، وتكرير المبتدأ هنا بلفظه مغن عن الضمير الرّابط، كما في قوله: {الحاقة مَا الحاقة} [الحاقة: 1، 2] و{القارعة مَا القارعة} [القارعة: 1، 2] ولا يجوز مثل هذا إلاّ في مواضع التفخيم، والتعظيم والكلام في {أصحاب المشئمة مَا أصحاب المشئمة} كالكلام في أصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة، والمراد: الذي يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، أو يأخذون صحائف أعمالهم بشمالهم، والمراد: تعجيب السامع من حال الفريقين في الفخامة والفظاعة؛ كأنه قيل: فأصحاب الميمنة في نهاية السعادة وحسن الحال، وأصحاب المشأمة في نهاية الشقاوة وسوء الحال.
وقال السديّ: أصحاب الميمنة: هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه، وأصحاب المشأمة: هم الذين كانوا عن شماله.
وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة: هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن، وأصحاب المشأمة هم الذين أخذوا من شقه الأيسر.
وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة: هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة: هم أهل السيئات.
وقال الحسن، والربيع: أصحاب الميمنة هم الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة هم المشائيم على أنفسهم بالأعمال القبيحة.
وقال المبرد: أصحاب الميمنة: أصحاب التقدّم، وأصحاب المشأمة: أصحاب التأخر، والعرب تقول: اجعلني في يمينك، ولا تجعلني في شمالك، أي: اجعلني من المتقدّمين، ولا تجعلني من المتأخرين، ومنه قول ابن الدمينة:
أبنيتي أفي يمنى يديك جعلتني ** فأفرح أم صيرتني في شمالك

ثم ذكر سبحانه الصنف الثالث، فقال: {والسابقون السابقون} والتكرير فيه للتفخيم والتعظيم، كما مرّ في القسمين الأوّلين، كما تقول أنت أنت، وزيد زيد، والسابقون مبتدأ، وخبره السابقون.
وفيه تأويلان أحدهما: أنه بمعنى السابقون هم الذين اشتهرت حالهم بذلك.
والثاني: أن متعلق السابقين مختلف، والتقدير: والسابقون إلى الإيمان السابقون إلى الجنة.
والأوّل أولى لما فيه من الدلالة على التفخيم والتعظيم قال الحسن، وقتادة: هم السابقون إلى الإيمان من كلامه.
وقال محمد بن كعب: إنهم الأنبياء.
وقال ابن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين.
وقال مجاهد: هم الذين سبقوا إلى الجهاد، وبه قال الضحاك.
وقال سعيد بن جبير: هم السابقون إلى التوبة وأعمال البرّ.
وقال الزجاج: المعنى: والسابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله.
قيل: ووجه تأخير هذا الصنف الثالث مع كونه أشرف من الصنفين الأوّلين هو أن يقترن به ما بعده، وهو قوله: {أُوْلَئِكَ المقربون فِي جنات النعيم} فالإشارة هي إليهم، أي: المقرّبون إلى جزيل ثواب الله، وعظيم كرامته، أو الذين قربت درجاتهم، وأعليت مراتبهم عند الله.
وقوله: {فِي جنات النعيم} متعلق بالمقربون، أي: مقرّبون عند الله في جنات النعيم.
ويجوز أن يكون خبرًا ثانيًا لأولئك، وأن يكون حالًا من الضمير في {المقربون} أي كائنين فيها.
قرأ الجمهور: {في جنات} بالجمع، وقرأ طلحة بن مصرف: (في جنة) بالإفراد، وإضافة الجنات إلى النعيم من إضافة المكان إلى ما يكون فيه، كما يقال: دار الضيافة، ودار الدعوة، ودار العدل وارتفاع {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين} على أنه خبر مبتدأ محذوف، أي: هم ثلة، والثلة: الجماعة التي لا يحصر عددها.
قال الزجاج: معنى ثلة معنى فرقة، ومن ثللت الشيء: إذا قطعته، والمراد بالأوّلين: هم الأمم السابقة من لدن آدم إلى نبينا صلى الله عليه وسلم {وَقَلِيلٌ مّنَ الآخرين} أي: من هذه الأمة، وسموا قليلًا بالنسبة إلى من كان قبلهم، وهم كثيرون لكثرة الأنبياء فيهم، وكثرة من أجابهم.
قال الحسن: سابقو من مضى أكثر من سابقينا.
قال الزجاج: الذين عاينوا جميع الأنبياء وصدّقوا بهم أكثر ممن عاين النبيّ صلى الله عليه وسلم، ولا يخالف هذا ما ثبت في الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة، ثم قال: ثلث أهل الجنة، ثم قال: نصف أهل الجنة»، لأن قوله: {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين وَقَلِيلٌ مّنَ الاخرين} إنما هو تفصيل للسابقين فقط، كما سيأتي في ذكر أصحاب اليمين أنهم ثلة من الأولين، وثلة من الآخرين، فلا يمتنع أن يكون في أصحاب اليمين من هذه الأمة من هو أكثر من أصحاب اليمين من غيرهم، فيجتمع من قليل سابقي هذه الأمة، ومن ثلة أصحاب اليمين منها من يكون نصف أهل الجنة، والمقابلة بين الثلتين في أصحاب اليمين لا تستلزم استواءهما لجواز أن يقال: هذه الثلة أكثر من هذه الثلة، كما يقال: هذه الجماعة أكثر من هذه الجماعة، وهذه الفرقة أكثر من هذه الفرقة، وهذه القطعة أكثر من هذه القطعة.
وبهذا تعرف أنه لم يصب من قال: إن هذه الآية منسوخة بالحديث المذكور.
ثم ذكر سبحانه حالة أخرى للسابقين المقربين، فقال: {على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ} قرأ الجمهور {سرر} بضم السين والراء الأولى، وقرأ أبو السماك، وزيد بن عليّ بفتح الراء، وهي لغة كما تقدّم، والموضونة: المنسوجة، والوضن: النسج المضاعف.
قال الواحدي: قال المفسرون: منسوجة بقضبان الذهب، وقيل: مشبكة بالدرّ، والياقوت، والزبرجد، وقيل: إن الموضونة المصفوفة.
وقال مجاهد: الموضونة: المرمولة بالذهب، وانتصاب {مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا} على الحال، وكذا انتصاب {متقابلين} والمعنى: مستقرّين على سرر متكئين عليها متقابلين لا ينظر بعضهم قفا بعض {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ ولدان مُّخَلَّدُونَ} الجملة في محل نصب على الحال من المقربين، أو مستأنفة لبيان بعض ما أعدّ الله لهم من النعيم، والمعنى: يدور حولهم للخدمة غلمان لا يهرمون، ولا يتغيرون، بل شكلهم شكل الولدان دائمًا.