فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33)}.
لما ذكر الأشجار التي يطلب منها ورقها ذكر بعدها الأشجار التي يقصد ثمرها، وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
ما الحكمة في تقديم الأشجار المورقة على غير المورقة؟ نقول: هي ظاهرة، وهو أنه قدم الورق على الشجر على طريقة الارتقاء من نعمة إلى ذكر نعمة فوقها، والفواكه أتم نعمة.
المسألة الثانية:
ما الحكمة في ذكر الأشجار المورقة بأنفسها، وذكر أشجار الفواكه بثمارها؟ نقول: هي أيضًا ظاهرة، فإن الأوراق حسنها عند كونها على الشجر، وأما الثمار فهي في أنفسها مطلوبة سواء كانت عليها أو مقطوعة، ولهذا صارت الفواكه لها أسماء بها تعرف أشجارها، فيقال: شجر التين وورقه.
المسألة الثالثة:
ما الحكمة في وصف الفاكهة بالكثرة، لا بالطيب واللذة؟ نقول: قد بينا في سورة الرحمن أن الفاكهة فاعلة كالراضية في قوله: {فِى عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ} [الحاقة: 21] أي ذات فكهة، وهي لا تكون بالطبيعة إلا بالطيب واللذة، وأما الكثرة، فبينا أن الله تعالى حيث ذكر الفاكهة ذكر ما يدل على الكثرة، لأنها ليست لدفع الحاجة حتى تكون بقدر الحاجة، بل هي للتنعم، فوصفها بالكثرة والتنوع.
المسألة الرابعة:
{لاَّ مَقْطُوعَةٍ} أي ليست كفواكه الدنيا، فإنها تنقطع في أكثر الأوقات والأزمان، وفي كثير من المواضع والأماكن {وَلاَ مَمْنُوعَةٍ} أي لا تمنع من الناس لطلب الأعواض والأثمان، والممنوع من الناس لطلب الأعواض والأثمان ظاهر في الحس، لأن الفاكهة في الدنيا تمنع عن البعض فهي ممنوعة، وفي الآخرة ليست ممنوعة.
وأما القطع فيقال في الدنيا: إنها انقطعت فهي منقطعة لا مقطوعة، فقوله تعالى: {لاَّ مَقْطُوعَةٍ} في غاية الحسن، لأن فيه إشارة إلى دليل عدم القطع، كما أن في: {لا مَمْنُوعَةٍ} دليلًا على عدم المنع، وبيانه هو أن الفاكهة في الدنيا لا تمنع إلا لطلب العوض، وحاجة صاحبها إلى ثمنها لدفع حاجة به، وفي الآخرة مالكها الله تعالى ولا حاجة له، فلزم أن لا تمنع الفاكهة من أحد كالذي له فاكهة كثيرة، ولا يأكل ولا يبيع، ولا يحتاج إليها بوجه من الوجوه لا شك في أن يفرقها ولا يمنعها من أحد.
وأما الانقطاع فنقول الذي يقال في الدنيا: الفاكهة انقطعت، ولا يقال عند وجودها: امتنعت، بل يقال: منعت، وذلك لإن الإنسان لا يتكلم إلا بما يفهمه الصغير والكبير، ولكن كل أحد إذا نظر إلى الفاكهة زمان وجودها يرى أحدًا يحوزها ويحفظها ولا يراها ينفسها تمتنع فيقول: إنها ممنوعة، وأما عند انقطاعها وفقدها لا يرى أحدًا قطعها حسًا وأعدمها فيظنها منقطعة بنفسها لعدم إحساسه بالقاطع ووجود إحساسه بالمانع، فقال تعالى: لو نظرتم في الدنيا حق النظر علمتم أن كل زمان نظرًا إلى كونه ليلًا ونهارًا ممكن فيه الفاكهة فهي بنفسها لا تنقطع، وإنما لا توجد عند المحقق لقطع الله إياها وتخصيصها بزمان دون زمان، وعند غير المحقق لبرد الزمان وحره، وكونه محتاجًا إلى الظهور والنمو والزهر ولذلك تجري العادة بأزمنة فهي يقطعها الزمان في نظر غير المحقق فإذا كانت الجنة ظلها ممدودًا لا شمس هناك ولا زمهرير استوت الأزمنة والله تعالى يقطعها فلا تكون مقطوعة بسبب حقيقي ولا ظاهر، فالمقطوع يتفكر الإنسان فيه ويعلم أنه مقطوع لا منقطع من غير قاطع، وفي الجنة لا قاطع فلا تصير مقطوعة.
المسألة الخامسة:
قدم نفي كونها مقطوعة لما أن القطع للموجود والمنع بعد الوجود لأنها توجد أولًا ثم تمنع فإن لم تكن موجودة لا تكون ممنوعة محفوظة فقال: لا تقطع فتوجد أبدًا ثم إن ذلك الموجود لا يمنع من أحد وهو ظاهر غير أنا نحب أن لا نترك شيئًا مما يخطر بالبال ويكون صحيحًا.
{وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34)}.
وقد ذكرنا معنى الفرش ونذكر وجهًا آخر فيها إن شاء الله تعالى، وأما المرفوعة ففيها ثلاثة أوجه أحدها: مرفوعة القدر يقال: ثوب رفيع أي عزيز مرتفع القدر والثمن ويدل عليه قوله تعالى: {عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا} [الرحمن: 54] وثانيها: مرفوعة بعضها فوق بعض ثالثها: مرفوعة فوق السرير.
{إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35)} وفي الإنشاء مسائل:
المسألة الأولى:
الضمير في: {أنشأناهن} عائد إلى من؟ فيه ثلاثة أوجه أحدها: إلى {حُورٌ عِينٌ} [الواقعة: 22] وهو بعيد لبعدهن ووقوعهن في قصة أخرى ثانيها: أن المراد من الفرش النساء والضمير عائد إليهن لقوله تعالى: {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} [البقرة: 187]، ويقال للجارية صارت فراشًا وإذا صارت فراشًا رفع قدرها بالنسبة إلى جارية لم تصر فراشًا، وهو أقرب من الأول لكن يبعد ظاهرًا لأن وصفها بالمرفوعة ينبىء عن خلاف ذلك وثالثها: أنه عائد إلى معلوم دل عليه فرش لأنه قد علم في الدنيا وفي مواضع من ذكر الآخرة، أن في الفرش حظايا تقديره وفي فرش مرفوعة حظايا منشآت وهو مثل ما ذكر في قوله تعالى: {قاصرات الطرف} [الرحمن: 56] و{مقصورات} [الرحمن: 72] فهو تعالى أقام الصفة مقام الموصوف ولم يذكر نساء الآخرة بلفظ حقيقي أصلًا وإنما عرفهن بأوصافهن ولباسهن إشارة إلى صونهن وتخدرهن، وقوله تعالى: {إِنَّا أنشأناهن} يحتمل أن يكون المراد الحور فيكون المراد الإنشاء الذي هو الابتداء، ويحتمل أن يكون المراد بنات آدم فيكون الإنشاء بمعنى إحياء الإعادة، وقوله تعالى: {أبكارًا} يدل على الثاني لأن الإنشاء لو كان بمعنى الابتداء لعلم من كونهن أبكارًا من غير حاجة إلى بيان ولما كان المراد إحياء بنات آدم قال: {أبكارًا} أي نجعلهن أبكارًا وإن متن ثيبات، فإن قيل: فما الفائدة على الوجه الأول؟ نقول: الجواب من وجهين الأول: أن الوصف بعدها لا يكون من غيرها إذا كن أزواجهم بين الفائدة لأن البكر في الدنيا لا تكون عارفة بلذة الزوج فلا ترضى بأن تتزوج من رجل لا تعرفه وتختار التزويج بأقرانها ومعارفها لكن أهل الجنة إذا لم يكن من جنس أبناء آدم وتكون الواحدة منهن بكرًا لم تر زوجًا ثم تزوجت بغير جنسها فربما يتوهم منها سوء عشرة فقال: {أبكارًا} فلا يوجد فيهن ما يوجد في أبكار الدنيا الثاني: المراد أبكارًا بكارة تخالف بكارة الدنيا، فإن البكارة لا تعود إلا على بعد.
وقوله تعالى: {أَتْرَابًا} يحتمل وجوهًا أحدها: مستويات في السن فلا تفضل إحداهن على الأخرى بصغر ولا كبر كلهن خلقن في زمان واحد، ولا يلحقهن عجز ولا زمانة ولا تغير لون، وعلى هذا إن كن من بنات آدم فاللفظ فيهن حقيقة، وإن كن من غيرهن فمعناه ما كبرن سمين به لأن كلًا منهن تمس وقت مس الأخرى لكن نسي الأصل، وجعل عبارة عن ذلك كاللذة للمتساويين من العقلاء، فأطلق على حور الجنة أترابًا ثانيها: أترابًا متماثلات في النظر إليهن كالأتراب سواء وجدن في زمان أو في أزمنة، والظاهر أنه في أزمنة لأن المؤمن إذا عمل عملًا صالحًا خلق له منهن ما شاء الله ثالثها: أترابًا لأصحاب اليمين، أي على سنهم، وفيه إشارة إلى الاتفاق، لأن أحد الزوجين إذا كان أكبر من الآخر فالشاب يعيره.
المسألة الثانية:
إن قيل ما الفائدة في قوله: {فجعلناهن}؟ نقول: فائدته ظاهرة تتبين بالنظر إلى اللام في: {لأصحاب اليمين} فنقول: إن كانت اللام متعلقة بأترابًا يكون معناه: {أنشأناهن} وهذا لا يجوز وإن كانت متعلقة بأنشأناهن يكون معناه أنشأناهن لأصحاب اليمين والإنشاء حال كونهن أبكارًا وأترابًا فلا يتعلق الإنشاء بالأبكار بحيث يكون كونهن أبكارًا بالإنشاء لأن الفعل لا يؤثر في الحال تأثيرًا واجبًا فنقول: صرفه للإنشاء لا يدل على أن الإنشاء كان بفعل فيكون الإنعام عليهم بمجرد إنشائهن لأصحاب اليمين: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا} ليكون ترتيب المسبب على السبب فاقتضى ذلك كونهن أبكارًا، وأما إن كان الإنشاء أولًا من غير مباشرة للأزواج ما كان يقتضي جعلهن أبكارًا فالفاء لترتيب المقتضى على المقتضى.
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}.
وقد ذكرنا ما فيه لكن هنا لطيفة: وهي أنه تعالى قال في السابقين: {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين} [الواقعة: 13] قبل ذكر السرر والفاكهة والحور وذكر في أصحاب اليمين: {ثُلَّةٌ مّنَ الأولين} بعد ذكر هذه النعم، نقول: السابقون لا يلتفتون إلى الحور العين والمأكول والمشروب ونعم الجنة تتشرف بهم، وأصحاب اليمين يلتفتون إليها فقدم ذكرها عليهم ثم قال: هذا لكم وأما السابقون فذكرهم أولًا ثم ذكر مكانهم، فكأنه قال لأهل الجنة هؤلاء واردون عليكم.
والذي يتمم هذه اللطيفة أنه تعالى لم يقدم ثلة السابقين إلا لكونهم مقربين حسًا فقال: {المقربون فِي جنات} [الواقعة: 11، 12] ثم قال: {ثُلَّةٌ} ثم ذكر النعم لكونها فوق الدنيا إلا المودة في القربى من الله فإنها فوق كل شيء، وإلى هذا أشار بقوله تعالى: {قُل لاَّ أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلاَّ المودة فِي القربى} [الشورى: 23] أي في المؤمنين ووعد المرسلين بالزلفى في قوله: {وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى} [ص: 25] وأما قوله: {فِي جنات النعيم} [الواقعة: 12] فقد ذكرنا أنه لتمييز مقربي المؤمنين من مقربي الملائكة، فإنهم مقربون في الجنة وهم مقربون في أماكنهم لقضاء الأشغال التي للناس وغيرهم بقدرة الله وقد بان من هذا أن المراد من أصحاب اليمين هم الناجون الذين أذنبوا وأسرفوا وعفا الله عنهم بسبب أدنى حسنة لا الذين غلبت حسناتهم وكثرت وسنذكر الدليل عليه في قوله تعالى: {فسلام لَّكَ مِنْ أصحاب اليمين} [الواقعة: 91]. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27)}.
السدر: شجر معروف، وهو الذي يقال له شجر أم غيلان، وهو من العضاه، له شوك، وفي الجنة شجر على خلقته، له ثمر كقلال هجر، طيب الطعم والريح، وصفه تعالى بأنه {مخضود}، أي مقطوع الشوك، لا أذى فيه، وقال أمية بن أبي الصلت:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ** فيها الكواعب سدرها مخضود

وعبر بعض المفسرين عن {مخضود} بأنه الموقر حملًا، وقال بعضهم: هو قطع الشوك، وهو الصواب، أما إن وقره هو كرمه، وروي عن الضحاك أن بعض الصحابة أعجبهم سدروج فقالوا: ليتنا في الآخرة في مثل هذا، فنزلت الآية.
قال القاضي أبو محمد: ولأهل تحرير النظر هنا إشارة في أن هذا الخضد بإزاء أعمالهم التي سلموا منها، إذ أهل اليمين توابون لهم سلام وليسوا بسابقين. والطلح كذلك من العضاة شجر عظام كثير الشوك وشبهه في الجنة على صفات مباينة لحال الدنيا. و: {منضود} معناه مركب ثمره بعضه على بعض من أرضه إلى أعلاه.
وقرأ علي بن أبي طالب رضي الله عنه وجعفر بن محمد وغيره: {طلع منضود}، فقيل لعلي إنما هو: {طلح}. فقال: ما للطلح وللجنة؟ فقيل له أنصلحها في المصحف فقال: إن المصحف اليوم لا يهاج ولا يغير. وقال علي بن أبي طالب وابن عباس: الطلح: الموز، وقاله مجاهد وعطاء. وقال الحسن: ليس بالموز، ولكنه شجر ظله بارد رطب. والظل الممدود، معناه: الذي لا تنسخه شمس، وتفسير ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر في ظلها مائة سنة لا يقطعها، واقرؤوا إن شئتم: {وظل ممدود}» إلى غير هذا من الأحاديث في هذا المعنى. وقال مجاهد: هذا الظل هو من طلحها وسدرها.
وقوله تعالى: {وماء مسكوب} أي جار في غير أخاديد، قاله سفيان وغيره، وقيل المعنى: يناسب. لا تعب فيه بسانية ولا رشاء.
وقوله تعالى: {لا مقطوعة} أي بزوال الإبان، كحال فاكهة الدنيا، {ولا ممنوعة} ببعد التناول ولا بشوك يؤذي في شجراتها ولا بوجه من الوجوه التي تمتنع بها فاكهة الدنيا.