فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأخرج عبد بن حميد عن الشعبي أن المراد به الكبائر وكأنه جعل المعنى وكانوا يصرون على كل حنث عظيم وفي رواية أخرى عنه أنه اليمين الغموس وظاهره الاطلاق، وقال التاج السبكي في طبقاته: سألت الشيخ يعني والده تقي الدين ما الحنث العظيم؟ فقال: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: {وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أيمانهم لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ} [النحل: 38] وهو تفسير حسن لأن الحنث وإن فسر بالذنب مطلقًا أو العظيم فالمشهور استعماله في عدم البر في القسم، وتعقب بأنه يأباه قوله تعالى: {وَكَانُواْ يِقولونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما} إلى آخره للزوم التكرار، وأجيب بأن المراد بالأول وصفهم بالثبات على القسم الكاذب وبالثاني وصفهم بالاستمرار على الإنكار والرمز إلى استدلال ظاهر الفساد مع أنه لا محذور في تكرار ما يدل على الإنكار وهو توطئة وتمهيد لبيان فساده، والمراد بقولهم: كنا ترابًا وعظامًا كان بعض أجزائنا من اللحم والجلد ونحوهما ترابًا وبعضها عظامًا نخرة، وتقديم التراب لأنه أبعد عن الحياة التي يقتضيها ما هم بصدد إنكاره من البعث، وإذا متمحضة للظرفية والعامل فيها ما يدل عليه قوله تعالى: {أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ} لا مبعوثون نفسه لتعدد ما يمنع من عمل ما بعده فيما قبله وهو نبعث وهو المرجع للإنكار وتقييده بالوقت المذكور ليس لتخصيص إنكاره به فإنهم منكرون للإحياء بعد الموت وإن كان البدن على حاله لتقوية الإنكار للبعث بتوجيهه إليه في حالة منافية له بالكلية وهذا كالاستدلال على ما يزعمونه، وتكرير الهمزة لتأكيد النكير وتحلية الجملة بأن لتأكيد الإنكار لا لإنكار التأكيد، وقوله سبحانه: {أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48)} عطف على محل إن واسمها.
أو على الضمير المستتر في مبعوثون وحسن للفصل بالهمزة إن كانت حرفًا واحدًا كما قال الزمخشري ولا يضر عمل ما قبل هذه الهمزة في المعطوف بعدها لأنها مكررة للتأكيد وقد زحلقت عن مكانها، وقولهم: الحرف إذا كرر للتأكيد فلابد أن يعاد معه ما اتصل به أولًا أو ضمير لا يسلم إطراده لورود:
ولا لما بهم أبدًا دواء

وأمثاله، وجوز أن يكون {ءابَاؤُنَا} مبتدأ وخبره محذوف دل عليه ما قبل أي مبعوثون، والجملة عطف على الجملة السابقة وهو تكلف يغني عنه العطف المذكور المعنى أيبعث أيضًا آباؤنا على زيادة الاستبعاد يعنون أنهم أقدم فبعثهم أبعد وأبطل، وقرأ قالون وابن عامر {أَوَ ءابَاؤُنَا} بإسكان الواو وعلى هذه القراءة لا يعطف على الضمير إذ لا فاصل. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)}.
إفضاء إلى الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة، وهم أصحاب المشاقّة.
والقول في جملة: {ما أصحاب الشمال} وموقع جملة {في سموم} بعدها كالقول في جملة {وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين في سدر مخضود} [الواقعة: 27، 28].
والسموم: الريح الشديد الحرارة الذي لا بلل معه وكأنه مأخوذ من السُّمّ، وهو ما يهلك إذ لاقى البدن.
والحميم: الماء الشديد الحرارة.
واليحموم: الدخان الأسود على وزن يفعول مشتق من الحُمَم بوزن صُرَد اسم للفحم.
والحُممة: الفحمة، فجاءت زنة يفعول فيه اسمًا ملحوظًا فيه هذا الاشتقاق وليس ينقاس.
وحرف {مِن} بيانية إذ الظل هنا أريد به نفس اليحموم، أي الدخان الأسود.
ووصف {ظل} بأنه {من يحموم} للإِشعار بأنه ظل دخان لَهب جهنم، والدخان الكثيف له ظل لأنه بكثافته يحجب ضوء الشمس، وإنما ذكر من الدخان ظله لمقابلته بالظل الممدود المُعدّ لأصحاب اليمين في قوله: {وظل ممدود} [الواقعة: 30]، أي لا ظل لأصحاب الشمال سِوى ظِل اليحموم.
وهذا من قبيل التهكم.
ولتحقيق معنى التهكم وصف هذا الظل بما يفيد نفي البرد عنه ونفي الكرم، فبرد الظلّ ما يحصل في مكانه من دفع حرارة الشمس، وكرمُ الظلّ ما فيه من الصفات الحسنة في الظلال مثل سلامته من هبوب السموم عليه، وسلامة الموضع الذي يظله من الحشرات والأوساخ، وسلامة أرضه من الحجارة ونحو ذلك إذ الكريم من كل نوع هو الجامع لأكثر محاسن نوعه، كما تقدم في قوله تعالى: {إني ألقي إليّ كتاب كريم} في سورة سليمان (29)، فوُصف ظلّ اليحموم بوصف خاص وهو انتفاء البرودة عنه واتبع بوصف عام وهو انتفاء كرامة الظلال عنه، ففي الصفة بنفي محاسن الظلال تذكير للسامعين بما حُرم منه أصحاب الشمال عسى أن يحذروا أسباب الوقوع في الحرمان، ولإفادة هذا التذكير عدل عن وصف الظلّ بالحرارة والمضرّة إلى وصفه بنفي البرد ونفي الكرم.
إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45).
تعليل لما يلقاه أصحاب الشمال من العذاب، فيتعيّن أن ما تضمنه هذا التعليل كان من أحوال كفرهم وأنه مما له أثر في إلحاق العذاب بهم بقرينة عطف {وكانوا يصرون على الحنث} {وكانوا يقولون} إلخ عليه.
فأمّا إصرارهم على الحنث وإنكارهم البعث فلا يخفى تسببه في العذاب لأن الله توعدهم عليه فلم يقلعوا عنه، وإنما يبقى النظر في قوله: {إنهم كانوا قبل ذلك مترفين} فإن الترف في العيش ليس جريمة في ذاته وكم من مؤمن عاش في ترف، وليس كل كافر مُترفًا في عيشه، فلا يكون الترف سببًا مستقلًا في تسبب الجزاء الذي عوملوا به.
فتأويل هذا التعليل: إما بأن يكون الإتراف سببًا باعتبار ضميمة ما ذُكر بعده إليه بأن كان إصرارهم على الحنث وتكذيبهم بالبعث جريمتين عظمتين لأنهما محفوفتان بكفر نعمة الترف التي خولهم الله إياها على نحو قوله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون} [الواقعة: 82] فيكون الإِتراف جُزءَ سبب وليس سببًا مستقلًا، وفي هذا من معنى قوله تعالى: {وذَرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلًا} [المزمل: 11].
وإما بأن يراد أن الترف في العيش عَلّق قلوبهم بالدنيا واطمأنوا بها فكان ذلك مُمليًا على خواطرهم إنكار الحياة الآخرة، فيكون المراد الترف الذي هذا الإِنكار عارض له وشديد الملازمة له، فوزانه وزان قوله تعالى: {والذين كفروا يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوى لهم} [محمد: 12].
وفسر {مترفين} بمعنى متكبرين عن قبول الحقّ.
والمترف: اسم مفعول من أترفه، أي جعله ذا ترفة بضم التاء وسكون الراء، أي نعمة واسعة، وبناؤه للمجهول لعدم الإحاطة بالفاعل الحقيقي للإتراف كشأن الأفعال التي التزم فيها الإسناد المجازي العقلي الذي ليس لمثله حقيقة عقلية، ولا يقدّر بنحو: أترفه الله، لأن العرب لم يكونوا يقدّرون ذلك فهذا من باب: قال قائل، وسأل سائل.
وإنما جعل أهل الشمال مترَفين لأنهم لا يخلو واحد منهم عن ترف ولو في بعض أحواله وأزمانه من نعم الأكل والشرب والنساء والخمر، وكل ذلك جدير بالشكر لواهبه، وهم قد لابسوا ذلك بالإشراك في جميع أحوالهم، أو لأنهم لما قصروا انظارهم على التفكير في العيشة العاجلة صرفهم ذلك عن النظر والاستدلال على صحة ما يدعوهم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا وجه جعل الترف في الدنيا من أسباب جزائهم الجزاء المذكور.
والإِشارة في قوله: {قبل ذلك} إلى {سموم وحميم وظل من يحموم} [الواقعة: 42، 43] بتأويلها بالمذكور، أي كانوا قبل اليوم وهو ما كانوا عليه في الحياة الدنيا.
والحِنث: الذنب والمعصية وما يتخرج منه، ومنه قولهم: حنث في يمينه، أي أهمل ما حلف عليه فجر لنفسه حرجًا.
ويجوز أن يكون الحنث حنث اليمين فإنهم كانوا يقسمون على أن لا بَعثَ، قال تعالى: {وأقسَموا بالله جَهدَ أيمانهم لا يبعثُ الله من يموت} [النحل: 38]، فذلك من الحنث العظيم، وقال تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليومنن بها} [الأنعام: 109] وقد جاءتهم آية إعجاز القرآن فلم يؤمنوا به.
والعظيم: القوي في نوعه، أي الذنب الشديد والحنث العظيم هو الإِشراك بالله.
وفي حديث ابن مسعود أنه قال: «قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تدعو لله ندًا وهو خلقك» وقال تعالى: {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان: 13].
ومعنى {يصرون}: يثبتون عليه لا يقبلون زحزحة عنه، أي لا يضعون للدعوة إلى النظر في بطلان عقيدة الشرك.
وصيغة المضارع في {يصرون} و{يقولون} تفيد تكرر الإصرار والقول منهم.
وذكر فعل {كانوا} لإِفادة أن ذلك ديدنهم.
والمراد من قوله: {وكانوا يقولون أئذا متنا وكنا ترابًا} إلخ أنهم كانوا يعتقدون استحالة البعث بعد تلك الحالة.
ويناظرون في ذلك بأن القول ذلك يستلزم أنهم يعتقدون استحالة البعث.
والاستفهام إنكاري كناية عن الإحالة والاستبعاد، وتقدم نظير: {أإذا متنا وكنا ترابًا} إلخ في سورة الصافات.
وقرأ الجمهور {أإذا متنا} بإثبات الاستفهام الأول والثاني، أي إذا متنا أإنا.
وقرأه نافع والكسائي وأبو جعفر بالاستفهام في {أإذا متنا} والإِخبار في {إنّا لمبعوثون}.
وقرأ الجمهور: {أو آباؤنا}، بفتح الواو على أنها واو عطف عطفت استفهامًا على استفهام، وقدمت همزة الاستفهام على حرف العطف لصدارة الاستفهام، وأعيد الاستفهام توكيدًا للاستبعاد.
والمراد بالقول في قوله: {وكانوا يقولون} إلخ انهم يعتقدون استجابة مدلول ذلك الاستفهام. اهـ.

.تفسير الآيات (49- 57):

قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56) نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كانوا في غاية الجلافة، رد إنكارهم بإثبات ما نفوه، وزادهم الإخبار بإهانتهم ثم دل على صحة ذلك بالدليل العقلي لمن يفهمه، فقال مخاطبًا لأعلى الخلق وأوقفهم به لأن هذا المقام لا يذوقه حق ذوقه إلا هو كما أنه لا يقوم بتقريره لهم والرفق بهم إلا هو: {قل} أي لهم ولكل من كان مثلهم، وأكد لإنكارهم: {إن الأولين} الذين جعلتم الاستبعاد فيهم أوليًا، ونص على الاستغراق بقوله: {والآخرين} ودل على سهولة بعثهم وأنه في غاية الثبات، منبهًا على أن نقلهم بالموت والبلى تحصيل لا تفويت: {لمجموعون} بصيغة اسم المفعول، في المكان الذي يكون فيه الحساب.
ولما كان جمعهم بالتدريج، عبر بالغاية فقال: {إلى ميقات} أي زمان ومكان {يوم معلوم} أي معين عند الله، ومن شأنه أن يعلم بما عنده من الأمارات، والميقات: ما وقت به الشيء من زمان أو مكان أي حد.
ولما كان زمان البعث متراخيًا عن نزول القرآن، عبر بأداته وأكد لأجل إنكارهم فقال: {ثم} أي بعد البعث بعد الجمع المدرج {إنكم} وأيد ما فهمه من أصحاب الشمال هم القسم الأدنى من أصحاب المشأمة فقال: {أيها الضالون} أي الذين غلبت عليه الغباوة فيهم لا يفهمون، ثم أتبع ذلك ما أوجب الحكم عليهم بالضلال فقال: {المكذبون} أي تكذيبًا ناشئًا عن الضلال والتقيد بما لا يكذب به إلا عريق في التكذيب بالصدق {لآكلون من شجر} منبته النار.
ولما كان الشجر معدن الثمار الشهية كالسدر والطلح، بينه بقوله: {من زقوم} أي شيء هو في غاية الكراهة والبشاعة في المنظر ونتن الرائحة والأذى، قال أبو عبد الله القزاز في ديوانه الجامع وعبد الحق في واعيه: الزقم: شوب اللبن والإفراط فيه، يقال: بات يزقم اللبن زقمًا، ومن هذا الزقوم الذي ذكره الله تبارك وتعالى، وقالا: قال أبو حنيفة: الزقوم شجرة غبراء صغيرة الورق لا شوك لها زفرة لها كعابر في رؤوسها ولها ورد تجرشه النحل، ونورها أبيض ورأس ورقها قبيح جدًا، وهي مرعى، ومنابتها السهل، وقال في القاموس: في الدفر بالدال المهملة، الدفر- بالتحريك: وقوع الدود في الطعام والذل والنتن، ويسكن، وقال في المعجمة: الذفر- محركة: شدة ذكاء الريح كالذفرة أو يخص برائحة الإبط المنتن، والنتن وماء الفحل، والذفراء من الكتائب: السهكة من الحديد، والكعبرة بضمتين عين وراء مهملتين: عقدة أنبوب الزرع، وعن السهيلي أن أبا حنيفة ذكر في النبات أن شجرة باليمن يقال لها الزقوم لا ورق لها، وفروعها أشبه شيء برؤوس الحيات، وقال البيضاوي: شجرة صغيرة الورق دفرة مرة تكون بتهامة، وفي القاموس: والزقمة: الطاعون وقال في النه: فعول من الزقم: اللقم الشديد والشرب المفرط، وقال ابن القطاع: زقم زقمًا: بلع، وقد علم من مجموع هذا الكلام تفسيره بالطاعون تارة والشرب المفرط أخرى، ومن الاشتراط والشجرة المنتنة والبشعة المنظر أنه شيء كريه يضطر آكله إلى التملؤ منه بنهمة وهمة عظيمة، ومن المعلوم أن الحامل له على هذا مع هذه الكراهة لا يكون إلا في أعلى طبقات الكراهة، ولذلك حسن جدًا موقع قوله مسببًا عن الأكل: {فمالئون} أي ملًا هو في غاية الثبات وأنتم في غاية الإقبال عليه مع ما هو عليه من عظيم الكراهة {منها} أي الشجر، أنثه لأنه جمع شجر أو هو اسم جنس، وهم يكرهون الإناث فتأنيثه- والله أعلم- زيادة في تنفيرهم منه {البطون} أي لشيء عجيب يضطركم إلى تناول هذا الكريه مما هو أشد منه كراهة بطبقات من جوع أو غيره، وإن فسرت بما قالوا من أنه معروف لهم أنه الزبد بالتمر لم يضر ذلك بل يكون المعنى أنهم يتملؤون منها تملأ من يأكل من هذا في الدنيا مع أنه من المعلوم أنه لا شيء في النار المعدة للعذاب لمن أعدت لعذابه حسن.