فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحُطام الهشيم الهالك الذي لا يُنتفع به في مطعم ولا غذاء؛ فنبه بذلك أيضًا على أمرين: أحدهما ما أولاهم به من النِّعم في زرعهم إذ لم يجعله حطامًا ليشكروه.
الثاني ليعتبروا بذلك في أنفسهم؛ كما أنه يجعل الزرع حطامًا إذا شاء، وكذلك يهلكهم إذا شاء ليتعظوا فينزجروا.
{فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تعجبون بذهابها وتندمون مما حل بكم؛ قاله الحسن وقتادة وغيرهم.
وفي الصحاح: وتفكّه أي تعجّب، ويقال: تندّم، قال الله تعالى: {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي تندمون.
وتفكهت بالشيء تمتعت به.
وقال يمان: تندمون على نفقاتكم؛ دليله: {فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا} [الكهف: 42].
وقال عِكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله التي أوجبت عقوبتكم حتى نالتكم في زرعكم.
ابن كَيْسان: تحزنون؛ والمعنى متقارب.
وفيه لغتان: تفَكَّهون وتَفَكَّنُون: قال الفراء: والنون لغة عُكْل.
وفي الصحاح: التفكّن التندّم على ما فات.
وقيل: التفكّه التكلم فيما لا يعنيك، ومنه قيل للمزاح فُكَاهة بالضم؛ فأما الفَكاهة بالفتح فمصدر فكِه الرجلُ بالكسر فهو فَكِهٌ إذا كان طيِّب النفس مَزَّاحًا.
وقراءة العامة: {فَظَلْتُمْ} بفتح الظاء.
وقرأ عبد الله: {فَظِلْتمْ} بكسر الظاء ورواها هارون عن حسين عن أبي بكر.
فمن فتح فعلى الأصل، والأصل ظَلَلتُمْ فحذف اللام الأولى تخفيفًا، ومن كسر نقل كسرة اللام الأولى إلى الظاء ثم حذفها.
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} وقرأ أبو بكر والمفضَّل {أَئِنَّا} بهمزتين على الاستفهام، ورواه عاصم عن زِرّ بن حُبَيش.
الباقون بهمزة واحدة على الخبر؛ أي يقولون {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي معذبون؛ عن ابن عباس وقَتَادة قالا: والغرام العذاب؛ ومنه قول ابن المحلِّم:
وثقت بأن الحفظ منّي سجيّةٌ ** وأن فؤادي مُتْبَلٌ بك مغرمُ

وقال مجاهد وعِكرمة: لمولع بنا؛ ومنه قول النَّمِر بن تَوْلَب:
سَلاَ عن تَذكُّره تُكْتَمَا ** وكان رَهينًا بها مُغْرَمَا

يقال: أغرم فلان بفلانة، أي أولع بها ومنه الغرام وهو الشر اللازم.
وقال مجاهد أيضًا: لملقون شرًّا.
وقال مقاتل بن حيان: مهلكون.
النحاس: {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} مأخوذ من الغَرَام وهو الهلاك؛ كما قال:
يومُ النِّسَارِ ويومُ الجِفَا ** رِ كَانَا عَذَابًا وكانَا غَرَامَا

الضحاك وابن كيسان: هو من الغُرْم، والمُغْرَم الذي ذهب ماله بغير عوض؛ أي غِرمنا الحَبّ الذي بذرناه.
وقال مُرَّة الهَمْداني: محاسبون.
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي حرمنا ما طلبنا من الريع.
والمحروم الممنوع من الرزق.
والمحروم ضد المرزوق وهو المحارِف في قول قتادة.
وعن أنس: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم مرّ بأرض الأنصار فقال: ما يمنعكم من الحرث؟ قالوا: الجدوبة؛ فقال: لا تفعلوا فإن الله تعالى يقول أنا الزارع إن شئت زرعت بالماء وإن شئت زرعت بالريح وإن شئت زرعت بالبذر. ثم تلا {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} {أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون}».
قلت: وفي هذا الخبر والحديث الذي قبله ما يصحح قول من أدخل الزارع في أسماء الله سبحانه، وأباه الجمهور من العلماء، وقد ذكرنا ذلك في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. اهـ.

.قال الألوسي:

{أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} أي ما تقذفونه في الأرحام من النطف، وقرأ ابن عباس وأبو الثمال {تُمْنُونَ} بفتح التاء من مني النطقة بمعنى أمناها أي أزالها بدفع الطبيعة.
{ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ} أي تقدرونه وتصورونه بشرًا سويًا تام الخلقة، فالمراد خلق ما يحصل منه على أن في الكلام تقديرًا أو تجوزًا، وجوز إبقاء ذلك على ظاهره أي {تَخْلُقُونَهُ أَم} وتنشئون نفس ذات ما تمنونه {أَم نَحْنُ الخالقون} له من غير دخل شيء فيه وأرأيتم قد مر الكلام غير مرة فيه، ويقال هنا: إن اسم الموصول مفعوله الأول والجملة الاستفهامية مفعوله الثاني، وكذا يقال فيم بعد من نظائره وما يعتبر فيه الرؤية بصرية تكون الجملة الاستفهامية فيه مستأنفة لا محل لها من الإعراب، وجوز في أنتم أن يكون مبتدأ، والجملة بعده خبره، وأن يكون فاعلًا لفعل محذوف والأصل أتخلقون فلما حذف الفعل انفصل الضمير، واختاره أبو حيان، و{أَمْ} قيل: منقطعة لأن ما بعدها جملة فالمعنى بل أنحن الخالقون على أن الاستفهام للتقرير، وقال قوم من النحاة: متصلة معادلة للهمزة كأنه قيل: {تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} ثم جيء بالخالقون بعد بطريق التأكيد لا بطريق الخبرية أصالة.
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت} قسمناه عليكم ووقتنا موت كل أحد بوقت معين حسبما تقتضيه مشيئتنا المبنية على الحكم البالغة، وقرأ ابن كثير {قَدَّرْنَآ} بالتخفيف {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي لايغلبنا أحد.
{على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} أي على أن نذهبكم ونأتي مكانكم أشباهكم من الخلق فالسبق مجاز عن الغلبة استعارة تصريحية أو مجاز مرسل عن لازمه، وظاهر كلام بعض الأجلة أنه حقيقة في ذلك إذا تعدى بعلي، والجملة في وضع الحال من ضمير {قَدَّرْنَآ} [الواقعة: 60] وكأن المراد {قَدَّرْنَآ} ذلك ونحن قادرون على أن نميتكم دفعة واحدة ونخلق أشباهكم.
{وَنُنشِئَكُمْ في مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من الخلق والأطوار التي لا تعهدونها، وقال الحسن: من كونكم قردة وخنازير، ولعل اختيار ذلك لأن الآية تنحو إلى الوعيد، والمراد ونحن قادرون على هذا أيضًا وجوز أن يكون أمثالكم جمع مثل بفتحتين بمعنى الصفة لا جمع مثل بالسكون بمعنى الشبه كما في الوجه الأول أي ونحن نقدر على أن نغير صفاتكم التي أنتم عليها خَلْقًا وَخُلُقًا وننشئكم في صفات لا تعلمونها، وقيل: المعنى وننشئكم في البعث عل غير صوركم في الدنيا، وقيل: المعنى وما يسبقنا أحد فيهرب من الموت أو يغير وقته الذي وقتناه، على أن المراد تمثيل حال من سلم من الموت أو تأخر أجله عن الوقت المعين له بحال من طلبه طالب فلم يلحقه وسبقه، وقوله تعالى: {على أَن نُّبَدّلَ} إلخ في موضع الحال من الضمير المستتر في مسبوقين أي حال كوننا قادرين أو عازمين على تبديل أمثالكم، والجملة السابقة على حالها، وقال الطبري: {على أَن نُّبَدّلَ} متعلق بقدّرنا وعلة له وجملة {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} اعتراض، والمعنى نحن قدرنا بينكم الموت لأن نبدل أمثالكم أي نميت طائفة ونبدلها بطائفة هكذا قرنًا بعد قرن.
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى}.
من خلقكم من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة؛ وقال قتادة: هي فطرة آدم عليه السلام من التراب ولا ينكرها أحد من ولده {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} فهلا تتذكرون أن من قدر عليها فهو على النشأة الأخرى أقدر وأقدر فإنها أقل صنعًا لحصول المواد وتخصيص الأجزاء وسبق المثاق، وهذا على ما قالوا دليل على صحة القياس لكن قيل: لا يدل إلا على قياس الأولى لأنه الذي في الآية، وفي الخبر (عجبًا كل العجب للمكذب بالنشأة الآخرة وهو يرى النشأة الأولى، وعجبًا للمصدق بالنشأة الآخرة وهو يسعى لدار الغرور) وقرأ طلحة {تذكرون} بالتخفيف وضم الكاف.
{أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} ما تبذرون حبه وتعملون في أرضه.
{ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونه وتردونه نباتًا يرف وينمي إلى أن يبلغ الغاية {أَمْ نَحْنُ الزرعون} أي المنبتون لا أنتم والكلام في أنتم و{أَمْ} كما مر آنفًا.
وأخرج البزار وابن جرير وابن مردويه وأبو نعيم والبيهقي في (شعب الإيمان) وضعفه وابن حبان كما قال الخفاجي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقولن أحدكم زرعت ولكن ليقل حرثت، ثم قال أبو هريرة رضي الله تعالى عنه ألم تسمعوا الله تعالى يقول: {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزرعون لَوْ}» يشير رضي الله تعالى عنه إلى أنه عليه الصلاة والسلام أخذ النهي من هذه الآية فإنه أسند الحرث إلى المخاطبين دون الزرع، وقال القرطبي: إنه يستحب للزارع أن يقول بعد الاستعاذة وتلاوة هذه الآية الله تعالى الزارع والمنبت والمبلغ اللهم صل على محمد وارزقنا ثمره وجنبنا ضرره واجعلنا لأنعمك من الشاكرين، قيل: وقد جرب هذا الدعاء لدفع آفات الزرع كلها وإنتاجه.
{لَّوْ نَشَاء لجعلناه حطاما} هشيمًا متكسرًا متفتتًا لشدة يبسه بعدما أنبتناه وصار بحيث طمعتم في حيازة غلاله {فَظَلْتُمْ} بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} تتعجبون من سوء حاله إثر ما شاهدتموه على أحسن ما يكون من الحال على ما روى عن ابن عباس ومجاهد وقتادة، وقال الحسن: تندمون أي على ما تعبتم فيه، وأنفقتم عليه من غير حصول نفع، أو على ما اقترفتم لأجله من المعاصي، وقال عكرمة: تلاومون على ما فعلتم، وأصله التفكه التنقل بصنوف الفاكهة واستعير للتنقل بالحديث وهو هنا ما يكون بعد هلاك الزرع وقد كنى به في الآية عن التعجب، أو الندم أو التلاوم على اختلاف التفاسير، وفي (البحر) كل ذلك تفسير باللازم، ومعنى {تَفَكَّهُونَ} تطرحون الفكاهة عن أنفسكم وهي المسرة، ورجل فكه منبسط النفس غير مكترث بشيء وتفكه من أخوات تحرج وتحوب أي إن التفعل فيه للسلب.
وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية العتكي عنه {فَظَلْتُمْ} بكسر الظاء كما قالوا: مست بالكسر ومست بالفتح، وحكاها الثوري عن ابن مسعود وجاءت عن الأعمش.
وقرأ عبد الله والجحدري {فظللتم} بلامين أولاهما مكسورة، وقرأ الجحدري أيضًا كذلك مع فتح اللام والمشهور ظللت بالكسر، وقرأ أبو حزام {تفكنون} بالنون بدل الهاء، قال ابن خالويه: تفكه بالهاء تعجب، وتفكن بالنون تندم.
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي معذبون مهلكون من الغرام وهو الهلاك قال الشاعر:
إن يعذب يكن غراما وإن يع ** ط جزيلًا فإنه لا يبالي

والمراد مهلكون بهلاك رزقنا، وقيل: بالمعاصي أو ملزمون غرامة بنقص رزقنا.
وقرأ الأعمش، والجحدري، وأبو بكر {أئنا} بالاستفهام والتحقيق، والجملة على القراءتين بتقدير قول هو في حيز النصب على الحالية من فاعل {تفكهون} أي قائلين، أو تقولون ذلك.
{بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} محدودون لا مجدودون أو محرومون الرزق كأنهم لما قالوا إنا مهلكون لهلاك رزقنا أضربوا عنه وقالوا: بل هذا أمر قدر علينا لنحوسة طالعنا وعدم بختنا، أو لما قالوا: إنا ملزمون غرامة بنقص أرزاقنا أضربوا فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} الرزق بالكلية. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58)}.
تفريع على {نحن خلقناكم} [الواقعة: 57]، أي خلقناكم الخلقَ الذي لم تَروه ولكنكم توقنون بأنا خلقناكم فتدبروا في خلق النسل لتعلموا أن إعادة الخلق تشبه ابتداء الخلق.
وذكرت كائنات خمسة مختلفة الأحوال متحدة المآل إذ في كلها تكوين لموجود مما كان عدمًا، وفي جميعها حصول وجود متدرّج إلى أن تتقوم بها الحياة وابتدىء بإيجاد النسل من ماء ميت، ولعله مادة الحياة بنسلكم في الأرحام من النطف تكوينًا مسبوقًا بالعدم.
والاستفهام للتقرير بتعيين خالق الجنين من النطفة إذ لا يسعهم إلا أن يقرّوا بأن الله خالق النسل من النطفة وذلك يستلزم قدرته على ما هو من نوع إعادة الخلق.