فصل: تفسير الآيات (68- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وجيء بالمضارع في قوله: {تذكرون} للتنبيه على أن باب التذكر مفتوح فإن فاتهم التذكر فيما مضى فليتداركوه الآن.
وقرأ الجمهور {النشأة} بسكون الشين تليها همزة مفتوحة مصدر نشأ على وزن المرة وهي مرة للجنس.
وقرأه ابن كثير وأبو عمرو وحده بفتح الشين بعدها ألف تليها همزة، وهو مصدر على وزن الفَعَالة على غير قياس، وقد تقدم في سورة العنكبوت.
{أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64)}.
انتقال إلى دليل آخر على إمكان البعث وصلاحية قدرة الله له بضرب آخر من ضروب الإِنشاء بعد العدم.
فالفاء لتفريع ما بعدها على جملة: {نحن خلقناكم فلولا تصدقون} [الواقعة: 57] كما فرع عليه قوله: {أفرأيتم ما تمنون} [الواقعة: 58] ليكون الغرض من هذه الجمل متحدًا وهو الاستدلال على إمكان البعث، فقصد تكرير الاستدلال وتعداده بإعادة جملة {أفرأيتم} وإن كان مفعول فعل الرؤية مختلفًا وسيجيء نظيره في قوله بعده {أفرأيتم الماء الذي تشربون} [الواقعة: 68] وقوله: {أفرأيتم النار التي تُورُون} [الواقعة: 71].
وإن شئت جعلت الفاء لتفريع مجرد استدلال على استدلال لا لتفريع معنى معطوفها على معنى المعطوف عليه، على أنه لما آل الاستدلال السابق إلى عموم صلاحية القدرة الإِلهية جاز أيضًا أن تكون هذه الجملة مرادًا بها تمثيل بنوع عجيب من أنواع تعلقات القدرة بالإيجاد دون إرادة الاستدلال على خصوص البعث فيصح جعل الفاء تفريعًا على جملة {أفرأيتم ما تمنون} من حيث إنها اقتضت سعة القدرة الإِلهية.
ومناسبة الانتقال من الاستدلال بخلق النسل إلى الاستدلال بنبات الزرع هي التشابه البيّن بين تكوين الإنسان وتكوين النبات، قال تعالى: {والله أنبتكم من الأرض نباتًا} [نوح: 17].
والقول في {أفرأيتم ما تحرثون} نظير قوله: {أفرأيتم ما تمنون} [الواقعة: 58].
و {ما تحرثون} موصول وصلة والعائد محذوف.
والحرث: شق الأرض ليزرع فيها أو يغرس.
وظاهر قوله: {ما تحرثون} أنه الأرض إلا أن هذا لا يلائم ضمير {تزرعونه} فتعين تأويل {ما تحرثون} بأن يقدر: ما تحرثون له، أي لأجله على طريقة الحذف والإيصال، والذي يحرثون لأجله هو النبات، وقد دل على هذا ضمير النصب في {أأنتم تزرعونه} لأنه استفهام في معنى النفي والذي ينفَى هو ما ينبت من الحب لا بذره.
فإن فعل (زرع) يطلق بمعنى: أنبت، قال الراغب: الزرع: الإِنبات، لقوله تعالى: {أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} فنفى عنهم الزرع ونسبه إلى نفسه اهـ. واقتصر عليه، ويطلق فعل (زرع) بمعنى: بذر الحب في الأرض لقول صاحب (لسان العرب): زرعَ الحب: بذره، أي ومنه سمي الحب الذي يبذر في الأرض زريعة لكن لا ينبغي حمل الآية على هذا الإطلاق.
فالمعنى: أفرأيتم الذي تحرثون الأرض لأجله، وهو النبات ما أنتم تنبتونه بل نحن ننبته.
وجملة {أأنتم تزرعونه} إلخ بيان لجملة {أفرأيتم ما تحرثون} كما تقدم في {أأنتم تخلقونه} [الواقعة: 59] والاستفهام في {أأنتم تزرعونه} إنكاري كالذي في قوله: {أأنتم تخلقونه}.
والقول في موقع {أم} من قوله: {أم نحن الزارعون} كالقول في موقع نظيرتها من قوله: {أم نحن الخالقون} [الواقعة: 59] أي أن (أم) منقطعة للإضراب.
وكذلك القول في تقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله: {أأنتم تزرعونه} مثل ما في قوله: {أأنتم تخلقونه} [الواقعة: 59].
وكذلك القول في نفي الزرع عنهم وإثباته لله تعالى يفيد معنى قصر الزَّرع، أي الإِنبات على الله تعالى، أي دونهم، وهو قصر مبالغة لعدم الاعتداد بزرع الناس.
ويؤخذ من الآية إيماء لتمثيل خلق الأجسام خلقًا ثانيًا مع الانتساب بين الأجسام البالية والأجسام المجددة منها بنبات الزرع من الحبة التي هي منتسبة إلى سنبلة زرع أخذت هي منها فتأتي هي بسنبلة مثلها.
لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65).
جملة {لو نشاء لجعلناه حطامًا}، موقعها كموقع جملة: {نحن قدّرنا بينكم الموت} [الواقعة: 60] في أنها استدلال بإفنائه ما أوجده على انفراده بالتصرف إيجادًا وإعدامًا، تكلمة لدليل إمكان البعث.
واللام في قوله: {لجعلناه} مفيدة للتأكيد.
ويكثر اقتران جواب (لو) بهذه اللام إذا كان ماضيًا مثبتًا كما يكثر تجرده عنها كما سيجيء في الآية الموالية لهذه.
والحُطام: الشيء الذي حَطمه حاطم، أي كَسره ودقّه فهو بمعنى المحطوم، كما تدل عليه زنة فُعال مثل الفُتات والجُذاد والدُقاق، وكذلك المقترن منه بهاء التأنيث كالقُصاصة والقُلاَمة والكُناسة والقُمامة.
والمعنى: لو نشاء لجعلنا ما ينبت بعد خروجه من الأرض حُطامًا بأن نسلط عليه ما يحطمه من بَرَد أو ريح أو حشرات قبل أن تنتفعوا به، فالمراد جعله حطامًا قبل الانتفاع به.
وأما أن يُؤول إلى الكَون حطامًا فذلك معلوم فلا يكون مشروطًا بحرف (لو) الامتناعية.
وقوله: {فظلتم تفكهون إنا لمغرمون بل نحن محرومون} تفريع على جملة {لجعلناه حطامًا} أي يتفرع على جعله حطامًا أن تصيروا تقولون: إنا لمغرمون بل نحن محرومون، ففعل (ظَلّتُم) هنا بمعنى: صرتم، وعلى هذا حَمَله جميع المفسرين.
وأعضل وَقْع فعل {تفكهون}، فعن ابن عباس ومجاهد وقتادة وابن زيد: تفكهون تعجبون، وعن عكرمة: تتلاومون، وعن الحسن وقتادة: تندمون، وقال ابن كيسان: تحزنون، وقال الكسائي: هو تلهف على ما فات، وهو أي فعل {تفكهون} من الأضداد تقول العرب: تفكهت، أي تنعمت، وتفكهتُ، أي حزِنتُ اهـ.
ذلك أن فعل {تفكهون} من مادة فَكِه والمشهور أن هذه المادة تدل على المسرة والفرح ولكن السياق سياق ضد المسرة، وبيانه بقوله: {إنا لمغرمون بل نحن محرومون} يؤيد ذلك، فالفُكاهة: المسرة والانبساط، وادعى الكسائي أنها من أسماء الأضداد واعتمده في (القاموس) إذ قال: وتفكه، أكل الفاكهة وتجنب عن الفاكهة ضده.
قال ابن عطية: وهذا كله أي ما روي عن ابن عباس وغيره في تفسير {فظلتم تفكهون} لا يخص اللفظة (أي هو تفسير بحاصل المعنى دون معاني الألفاظ) والذي يخص اللفظة هو تطرحون الفاكهة (كذا ولعل صوابه الفكاهة) عن أنفسكم وهي المسرة والجذل، ورجل فَكِه، إذا كان منبسط النفس غير مكترث بشيء اهـ.
يعني أن صيغة التفعُّل فيه مطاوعة فعَّل الذي تضعيفه للإزالة مثل قَشَّر العود وقَرَّد البعير وأثبت صاحب (القاموس) هذا القول ونسبه إلى ابن عطية.
وجعلوا جملة {إنا لمغرمون} تندمًا وتحسرًا، أي تعلمون أن حطم زرعِكُم حرمانٌ من الله جزاء لكفركم، ومعنى {مغرمون} من الغرام وهو الهلاك كما في قوله تعالى: {إن عَذابها كان غرامًا} [الفرقان: 65].
وهذا شبيه بما في سورة القلم من قوله تعالى: {فلما رأوها قالوا إنا لضالّون إلى قوله إنا كنا طاغين} [القلم: 26 31].
فتحصل أن معنى الآية يجوز أن يكون جاريًا على ظاهر مادة فعل {تفكهون} ويكون ذلك تهكمًا بهم حملًا لهم على معتاد أخلاقهم من الهزْل بآيات الله، وقرينة التهكم ما بعده من قوله عنهم {إنا لمغرمون بل نحن محرومون} ويجوز أن يكون محمل الآية على جعل {تفكهون} بمعنى تندمون وتحزنون، ولذلك كان لفعل {تفكهون} هنا وقع يعوضه غيره.
وجملة {إنا لمغرمون} مقول قول محذوف هو حال من ضمير {تفكهون}.
وقرأ الجمهور {إنا لمغرمون} بهمزة واحدة وهي همزة (إنّ)، وقرأه أبو بكر عن عاصم {أإنا} بهمزيتن همزة استفهام وهمزة (إنِ). اهـ.

.تفسير الآيات (68- 74):

قوله تعالى: {أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما وقفهم على قدرته في الزرع مع وجود أسبابه، وقدمهم بشدة إليه، وكان ربما ألبس نوع لبس لأن لهم فيه سببًا في الجملة، أتبعه التوقيف على قدرته على التصرف في سببه الذي هو الماء الذي لا سبب لهم في شيء من أمره أصلًا، فقال مسببًا عما أفادهم هذا التنبيه مذكرًا بنعمة الشرب الذي يحوج إليه الغذاء: {أفرءيتم} أي أخبروني هل رأيتم بالبصر أو البصيرة ما نبهنا عليه مما مضى في المطعم وغيره، أفرأيتم {الماء} ولما كان منه ما لا يشرب، وكانت النعمة في المشروب أعظم، قال واصفًا له بما أغنى عن وصفه بالعذوبة، وبين موضع النعمة التي لا محيد عنها فقال: {الذي تشربون} ولما كان عنصره في جهة العلو، قال منكرًا عليهم مقررًا لهم: {أءنتم أنزلتموه} ولما كان الإنزال قد يطلق على مجرد إيجاد الشيء النفيس، وكان السحاب من عادته المرور مع الريح لا يكاد يثبت، عبر بقوله تحقيقًا لجهة العلو وتوقيفًا على موضع النعمة في إثباته إلى أن يتم حصول النفع به: {من المزن} أي السحاب المملوء الممدوح الذي شأنه الإسراع في المضي، وقال الأصبهاني، وقيل: السحاب الأبيض خاصة، وهو أعذب ماء {أم نحن} أي خاصة، وأكد بذكر الخبر وهو لا يحتاج إلى ذكره في أصل المعنى فقال: {المنزلون} أي له، رحمة لكم وإحسانًا إليكم بتطييب عيشكم على ما لنا من مقام العظمة الذي شأنه الكبر والجبروت وعدم المبالاة بشيء، والآية من الاحتباك بمثل ما مضى في الآيتين السابقتين سواء.
ولما كان الجواب: أنت وحدك فعلت ذلك على غناك عن الخلق بما لك من الرحمة وكمال الذات والصفات، قال مذكرًا بنعمة أخرى: {لو نشاء} أي حال إنزاله وبعده قبل أن ينتفع به.
ولما كانت صيرورة الماء ملحًا أكثر من صيرورة النبت حطامًا، ولم يؤكد لذلك وللتنبيه على أن السامعين لما مضى التوقيف على تمام القدرة صاروا في حيز المعترفين فقال تعالى: {جعلناه} أي بما تقتضيه صفات العظمة {أجاجًا} أي ملحًا مرًا محرقًا كأنه في الأحشاء لهيب النار المؤجج فلا يبرد عطشًا ولا ينبت نبتًا ينتفع به.
ولما كان هذا مما لا يساغ لإنكاره، سبب عنه على سبيل الإنكار والتحضيض قوله: {فلولا تشكرون} أي فهل لا ولم لا تجددون الشكر على سبيل الاستمرار باستعمال ما أفادكم ذلك من القوى في طاعة الذي أوجده لكم ومكنكم منه وجعله ملائمًا لطباعكم مشتهى لنفوسكم نافعًا لكم في كل ما ترونه.
ولما كانت النار سببًا لعنصر ما فيه الماء فيتحلب فيتقاطر كما كان الماء سببًا لتشقيق الأرض بالزرع، ولم يكن لمخلوق قدرة على التول بنوع سبب، أتبعه بما كما أتبع الزرع بالماء لذلك ولبيان القدرة على ما لا سبب فيه لمخلوق في السفل كما كان إنزال الماء عريًا عن سنتهم في العلو، فقال مسببًا عما مضى تنبيهًا على أنه أهلهم للتأمل في مصنوعاته والتبصر في عجائب آياته فقال: {أفرءيتم} أي أخبروني هل رأيتم بالأبصار والبصائر ما تقدم فرأيتم {النار} ولما كان المراد نارًا مخصوصة توقفهم على تمام قدرته وتكشف لهم ذلك كشفًا بينًا بإيجاد الأشياء من أضدادها فقال: {التي تورون} أي تستخرجون من الزند فتوقدون به سواء كان الزند يابسًا أو أخضر بعد أن كانت خفية فيه لا يظن من لم يجرب ذلك أن فيه نارًا أصلًا، فكان ذلك مثل التورية التي يظهر فيها شيء ويراد غيره، ثم صار بعد ذلك الخفاء إلى ظهور عظيم وسلطة متزايدة وعظمة ظاهرة تحرق كل ما لا بسها حتى ما خرجت منه، والعرب أعرف الناس بأمر الزند، وذلك أنهم يقطعون غصنًا من شجر المرخ وآخر من العفار، ويحكون أحدهما على الآخر فتتقدح منها النار على أن النار في كل شجر، وإنما خص المرخ والعفار لسهولة القدح منهما، وقد قالوا: في كل شجر نار واستمجد المرخ والعفار.