فصل: بحث آخر: إباحة الربا السؤال الملغوم والفتوى المغلوطة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.بحث آخر: إباحة الربا السؤال الملغوم والفتوى المغلوطة:

د. حسين حامد 25/ 12/ 2002:
في الثاني والعشرين من شهر أكتوبر من عام 2002 أرسل الأستاذ الدكتور حسن عباس زكي عضو مجمع البحوث الإسلامية، وزير الاقتصاد الأسبق، رئيس مجلس إدارة بنك الشركة المصرفية العربية الدولية كتابًا إلى فضيلة الإمام الأكبر الدكتور محمد سيد طنطاوي شيخ الأزهر، يعيد فيه السؤال عن حكم استثمار الأموال في المصارف التي تقوم على تحديد الربح مقدمًا. وقد أحال فضيلة الإمام الأكبر الكتاب للعرض على مجلس مجمع البحوث الإسلامية. وانعقدت جلسة مجلس المجمع في يوم الخميس 25 من شعبان سنة 1423هـ الموافق 31 من أكتوبر سنة 2002م، وعرض عليه الموضوع المذكور. وبعد مناقشات الأعضاء ودراستهم قرر مجلس المجمع في جلسة الخميس 23 من رمضان 1423هـ- الموافق 28 من نوفمبر 2002م.. الموافقة على أن استثمار الأموال في البنوك التي تحدد الربح مقدمًا حلال شرعًا ولا بأس به. وقد صدرت الفتوى ممهورة بتوقيع فضيلة الأستاذ الدكتور محمد سيد طنطاوي.
غير أن هناك عدة محاذير تطال كلا من السؤال والفتوى الرادَّة عليه؛ بحيث يمكن القول بوجود تجاوز في السؤال، جعله يخالف حقيقة الوضع؛ مما هيأ الفرصة لحدوث لبس أو سوء فهم حيال السؤال المقدم.. وبالتالي في الفتوى المجيبة على هذا الاستفتاء. وهذا ما جعل هذه الورقة تتطلع لفحص كل من السؤال والإجابة.
سؤال مخالف للإطار القانوني للمعاملات المصرفية حين بدأنا بمطالعة السؤال محل التناول، وهو طلب الفتيا المقدم من الأستاذ الدكتور حسن عباس زكي، وهو عضو مجمع البحوث الإسلامية قبل أن يكون مقدم الاستفتاء محل التناول، وجدنا أن هذا السؤال لا ينطبق على ما يجري عليه العمل في البنوك التجارية والبنوك المتخصصة. ولنلق نظرة على ما يدعونا للتنادي للنظر إلى السؤال قبل الفتوى. والاعتبارات التي لدينا يمكن تناولها وفق الطرح التالي:
1- هذه المعاملة بهذه الصورة لا يجري عليها العمل في البنوك التجارية ولا المتخصصة، لا في مصر، ولا في البلاد العربية، بل تناقض ما نصت عليه القوانين المدنية وقوانين التجارة وقوانين الجهاز المصرفي في هذه البلاد. فإن هذه الفتوى لا تطبق على ودائع البنوك.
2- قد يكون البنك مقدم السؤال يطبق هذه الصيغة، ويتلقى الودائع بصفته وكيلًا عن المودعين في استثمار هذه الودائع في معاملاته المشروعة، وهذه مسألة ادعاء على واقع، وتحتاج إلى إثبات. ومع ذلك فإن هذه الوكالة باطلة بالإجماع؛ لأن جميع عوائد وأرباح المال المستثمر بعقد الوكالة تكون للموكل؛ لأنه المالك للمال المستثمر، كما أنه يتحمل جميع خسائره التي تحدث بسبب لا يد للوكيل فيه ولا قدرة له على دفعه ولا تلافي آثاره، وللوكيل أجر معلوم يجب النص عليه في عقد الوكالة، وهو يحدد بمبلغ مقطوع أو نسبة من المال المستثمر، وهو ما لم يتحقق في الصورة المسئول عنها، بل إن الوكيل هو الذي يستحق أرباح استثمار الوديعة، ويتحمل خسائرها، ويحدد للموكل مالك الوديعة قدرًا أو نسبة من رأس المال، ويسميها ربحًا.
والبنوك الإسلامية تمارس هذه الصورة بمقتضى قوانين ونظم إنشائها؛ فهي تتلقى الودائع وتستثمرها لحساب أصحابها وعلى مسئوليتهم؛ فلهم أرباح ويتحملون خسائرها التي تحدث بسبب لا يد للبنك فيه، وهو ما يسمى في القانون بالقوة القاهرة والسبب الأجنبي. ويستحق البنك أجرًا محددًا في عقد الوكالة في الاستثمار، بمبلغ مقطوع أو نسبة من الوديعة المستثمرة. وبالقطع فإن هذه الودائع مملوكة لأصحابها وليست قرضًا للبنك ولا دينًا في ذمته.
3- والدليل على أن المعاملة موضوع السؤال والفتوى لا يجري عليها العمل، ولا تسمح بها القوانين المطبقة في البنوك، وأن المطبق إنما معاملة أخرى مختلفة عنها جملة وتفصيلا، يأتي وفق عدة اعتبارات، هي:
الاعتبار الأول: الفتوى تفترض وجود بنك يتلقى الودائع والمدخرات من المتعاملين معه؛ ليكون وكيلًا عنهم في استثمارها؛ وهو ما يعني وجود عقد وكالة مستوفٍ لشروطه، وتترتب عليه أحكام الشريعة، ينظم العلاقة بين البنك والمودع. وهذا القول مناقض لحكم القوانين المطبقة، ولا وجود له في واقع البنوك.
إن الذي ينظم علاقة البنك بمودعيه هو عقد وديعة النقود، أو الوديعة الناقصة بلغة القانون. وحكم هذا العقد أنه ينقل ملكية الوديعة إلى البنك، ويخوله استخدامها لحسابه وعلى مسئوليته؛ فله وحده ربحها وعليه خسارتها، وهو يدفع للمودع فائدة وهي نسبة من رأس المال مرتبطة بالمدة ويسميها ربحًا. والبنك يلتزم برد الوديعة؛ لأنه مدين بها، وهذه المعاملة قرض بالقطع، وفقًا لنصوص القانون وحكم الشريعة؛ وهو ما يجعل الزيادة المشروطة عليها ربا بالإجماع؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: «كل قرض جر نفعًا فهو ربا»، وكان الواجب أن تصدر الفتوى على المعاملة حسبما يقررها القانون ويجري عليها العمل دون افتراض صورة خيالية غير واقعة، حتى لا يقع اللبس لدى العامة بأن حكم هذه الصورة المتخيلة ينطبق على ما يجري عليه العمل في البنوك.
فالمادة رقم 726 من القانون المدني الجديد تنص على أنه إذا كانت الوديعة مبلغًا من النقود، أو أي شيء آخر مما يهلك بالاستعمال، وكان المودع عنده مأذونًا له في استعماله؛ اعتبر العقد قرضًا. وهذا هو الحكم في بقية القوانين العربية.
ويقول الدكتور السنهوري: وأكثر ما ترد الوديعة الناقصة على ودائع النقود في المصارف؛ حيث تنتقل ملكية النقود إلى المصرف، ويرد مثلها بعد الطلب أو بعد أجل، بل ويدفع المصرف في بعض الأحيان فائدة عنها؛ فيكون العقد في هذه الحالة قرضًا، وقد أحسن المشرع المصري في اعتبار الوديعة الناقصة قرضًا، ثم يقول: لا محل للتمييز بين الوديعة الناقصة وديعة النقود والقرض؛ حيث إن المودع في الوديعة الناقصة ينقل ملكية الشيء المودع إلى المودع عنده، ويصبح هذا مدينًا برد مثله.
وتنص المادة 301 من القانون رقم 17 لسنة 1999 بإصدار قانون التجارة المصري على أن وديعة النقود عقد يخول البنك ملكية النقود المودعة، والتصرف فيها بما يتفق ونشاطه، مع التزام برد مثلها للمودع، طبقًا لشروط العقد.
وتنص المادة 300 من نفس القانون على أن أحكام الباب الثالث منه، الخاص بعمليات البنوك، ومنه المادة 301 تسري على العمليات التي تعقدها البنوك مع عملائها، تجارًا كانوا أم غير تجار، وأيًا كانت طبيعة هذه العمليات.
فهذه النصوص القانونية تقطع بأن وديعة النقود في البنوك قرض. وقد أكد فقهاء القانون هذا بما لا يدع مجالًا للشك. وحيث إن هناك إجماعًا على أن «كل قرض جر نفعًا فهو ربا» كما جاء في الحديث الشريف، فإن ما يصرف للمودع يعد ربا وإن سُميَ ربحًا أو عائدًا.
يقول ابن قدامة المقدسي: وكل قرض شُرط فيه أن يزيد فهو حرام بغير خلاف، قال ابن المنذر: أجمعوا على أن المسلف إذا شرط على المستسلف زيادة، أو هدية فأسلف على ذلك؛ فإن أخذ الزيادة على ذلك فهو ربا.
وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي بردة بن أبي موسى، قال: قدمت المدينة، فلقيت عبد الله بن سلام، فقال لي: إنك بأرض فيها الربا فاشٍ، فإذا كان لك على رجل حق فأهدى إليك حمل تبن أو حمل شعير أو حمل قت فلا تأخذه فإنه ربا. وروى البخاري في تاريخه عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقرض فلا يأخذ هدية».
وإني لأعجب كيف غاب عن العلماء الأفاضل أعضاء المجمع هذه الحقائق مع سعة علمهم وغزارة اطلاعهم؟ غير أن عذرهم هو أنهم يجيبون على سؤال يعرض صورة محددة، هي تلقي البنك للودائع لاستثمارها بطريق الوكالة في صيغ استثمار مشروعة، وكان الجواب على قدر السؤال وإن بصورة افتراضية غير متحققة في الواقع.
وإن كنا سنرى أن تحديد مبلغ مقدمًا للمودع بصفته موكلًا لا يجوز شرعًا، ولو سمي ربحًا؛ لأنه يناقض أحكام الوكالة في الاستثمار التي أجمع عليها الفقهاء، وهي: أن ربح الوديعة المستثمرة كله للمودع، وأن خسارتها التي لا يد للوكيل فيها عليه. وأن أجر الوكيل يجب تحديده عند توقيع عقد الوكالة بمبلغ مقطوع أو نسبة من الوديعة المستثمرة. وهذا كله يقتضي أن يمسك الوكيل البنك حسابًا مستقلًا للوديعة أو مجموع الودائع، يقيد فيه الإيرادات والمصروفات حتى يتحدد الربح الذي يستحقه المودع أو مجموعة المودعين، وذلك على النحو الذي تمارسه البنوك الإسلامية في عمليات الاستثمار بطريق الوكالة.
الاعتبار الثاني: أنه على فرض أن العقد الذي ينظم علاقة البنك والمودعين فيه هو عقد وكالة في الاستثمار، وهو فرض يناقض حكم القوانين وينافي الواقع العملي؛ فإن البنوك التجارية والمتخصصة لا تملك استثمار الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا؛ بمعنى الاتجار فيه، بل تملك إقراضه للغير بفائدة. فالقانون المصري رقم 163 لسنة 1957 والقوانين المعدلة له تنص على ما يأتي:
المادة رقم 26 مكررًا تنص على أنه تخضع جميع البنوك التي تمارس عملياتها داخل جمهورية مصر العربية لأحكام هذا القانون.
والمادة رقم 38 من نفس القانون تنص على أنه يُعتبر بنكًا تجاريًا كل منشأة تقوم بصفة معتادة بقبول ودائع تدفع عند الطلب أو بعد أجل لا يجاوز سنة عدلت مدة الوديعة بالزيادة.
والمادة رقم 39 من نفس القانون تنص على أنه يحظر على البنك التجاري أن يباشر العمليات الآتية:
أ التعامل في المنقول أو العقار بالشراء أو البيع أو المقايضة فيما عدا:
1- العقار المخصص لإدارة أعمال البنك أو للترقية عن موظفيه.
2- المنقول أو العقار الذي تئول ملكيته إلى البنك وفاء لدين له قبل الغير قبل أن يقوم البنك بتصفيته خلال سنة من تاريخ أيلولة الملكية بالنسبة للمنقول وحتى سنوات بالنسبة للعقار، ويجوز لمجلس إدارة البنك المركزي مد هذه المدة عند الاقتضاء.
ب امتلاك أسهم الشركات المساهمة، ويشترط ألا تجاوز القيمة الاسمية للأسهم التي يملكها البنك في الشركة مقدار رأسماله المصدر واحتياطياته.
والمادة رقم 45 تنص على أنه يحظر على البنوك العقارية والبنوك الصناعية وبنوك الاستثمار نفس الأعمال المحظورة على البنوك التجارية.
فهذه النصوص تقطع بأنه يحظر على البنوك التجارية وغير التجارية العاملة في مصر الاستثمار عن طريق الاتجار بالشراء والبيع بصفة مطلقة، إلا إذا كان التملك وفاء لدين، وبشرط التصرف في العقار أو المنقول خلال مدة محددة، أو كان العقار مستخدمًا لإدارة البنك أو لأماكن ترقية موظفيه. وحتى في حالة المشاركة في تأسيس الشركات وشراء أسهم، يحظر على البنك أن يمس الودائع مطلقًا، بل إن له أن يتصرف في حدود حقوق المساهمين.
فافتراض الفتوى محل النظر أن البنوك تقوم باستثمار الودائع بالاتجار فيها بالبيع والشراء بصفة مباشرة، أو حتى شراء أسهم الشركات افتراض غير صحيح، وبناء الفتوى عليه باطل. وإذا كنا نتكلم عن أمر واقع.. فأين هو؟ وأي بنك يقوم باستثمار الودائع بنفسه استثمارًا مباشرًا؟ وأين يعمل؟ أيعمل في مصر أم في الخارج؟؟
ولا أدري كيف غاب عن أعضاء المجمع- مع سعة علمهم، وكثرة اطلاعهم، ومعرفتهم بواقع الجهاز المصرفي المصري والعربي والعالمي وطريقة عمله، وفقًا للقوانين المنظمة له- أن البنوك في مصر ليست حرة في القيام باستثمار الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا في الاتجار بالبيع والشراء للعقارات والمنقولات، أو المساهمة في الشركات، وإنما الأصل أنها تُقرض الودائع بسعر فائدة أعلى من سعر الفائدة الذي تدفعه على الودائع، ويكون الفرق بين الفوائد الدائنة والمدينة هو ربح المساهمين، بعد خصم المصروفات العمومية والإدارية، وذلك بالإضافة إلى مقابل الخدمات المصرفية.
وعلى كل حال فإن الفتوى لا يتحقق مناط تطبيقها في البنوك التجارية أو المتخصصة؛ لأن الفتوى تفترض قيام البنوك التي تتلقى الودائع بصفتها وكيل استثمار، باستثمار هذه الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا بالاتجار فيها بالبيع والشراء وغيرهما، وهذا محظور على هذه البنوك.
والذي يقوم باستثمار الودائع بصيغ وعقود استثمار شرعية، وبطريقة مباشرة على أساس عقد الوكالة أو المضاربة أو المشاركة، أو المرابحة أو السلم أو الاستصناع.. هي البنوك الإسلامية. فإذا استثمرت بطريق الوكالة فإن الربح كله لمالك الوديعة والخسارة التي لا يد للبنك فيها عليه؛ لأنه المالك للوديعة، ويستحق البنك أجرًا محددًا بمبلغ مقطوع أو نسبة من الوديعة المستثمرة.
وإذا كان الاستثمار بطريق المضاربة؛ فإن البنك يستحق النسبة المتفق عليها من ربح استثمار الودائع، والباقي يوزع على أصحاب الودائع؛ وذلك وفق نسبة ودائعهم ومدد استثمار هذه الودائع، وذلك بحكم أن المودعين يملكون هذه الودائع، ولا يقرضونها للبنك.
وإذا كان البنك يستثمر الودائع بطريق المشاركة؛ فإن البنك يستحق حصة في الربح بنسبة مشاركته، والباقي للمودعين مقابل استثمار ودائعهم. والشريك المودع يملك حصة في المشاركة وهي الوديعة.
الاعتبار الثالث: وعلى فرض أن البنوك تتلقى الودائع بصفتها وكيل استثمار، وعلى فرض أنها تملك استثمار الودائع بنفسها استثمارًا مباشرًا بالاتجار فيها بالبيع والشراء وشراء الأسهم، وهو فرض غير جائز قانونًا وغير واقع عملًا وممارسة، على فرض ذلك كله.. فإن الفتوى تنص على أن استثمار الودائع يكون في عمليات البنوك المشروعة. وهذا الفرض غير واقع؛ ذلك أن البنوك تملك استخدام الودائع في عمليات الإقراض بفائدة، وهي ربا محرم باتفاق. والفتوى نفسها لم تتعرض لحكم استخدام البنك لودائعه في إقراضها بفائدة برغم كونه ربا محرَّما باتفاق.
وتنص المادة الرابعة من القانون رقم 37 لسنة 1992 على أن تُستبدَل بكلمة الفائدة أينما وردت في القانون رقم 163 لسنة 1957 أو القانون رقم 120 لسنة 1975 كلمة العائد، وهو لا يغير من الحكم الشرعي، وهو حرمة كل زيادة عن مبلغ القرض؛ ذلك أن الحكم الشرعي مرتبط بكلمة النفع بكل صوره وجميع أشكاله، بصرف النظر عن التسمية التي تُطلق عليه، ربحًا كانت أو عائدًا أو هدية أو منحة أو مكافأة أو جائزة؛ فالرسول عليه الصلاة والسلام يقول: «كل قرض جر نفعًا فهو ربا». فالعبرة هنا بكون المدفوع نفعًا، بصرف النظر عن تسميته.
وإذا ثبت أن الودائع تستخدم بطريق الإقراض بفائدة أو عائد- كما يسميه القانون-، كان افتراض الفتوى أن البنك يستثمر الودائع في معاملاته المشروعة افتراضا غير واقع وغير صحيح، وبناء الفتوى عليه باطل، ولو فرض أن هناك بنكًا يتلقى الودائع بصفته وكيل استثمار، ويستثمرها في معاملاته المشروعة استثمارًا مباشرًا بصيغ وعقود استثمار مشروعة ولا يقرضها للغير بفائدة؛ لكانت الفتوى منطبقة على هذا البنك أي يتحقق فيه مناط الفتوى.
فالفتوى التي بين أيدينا أُنيطت وارتبطت وتعلقت ببنك يتلقى الودائع وفق عقد وكالة في الاستثمار، وليس وفق عقد وديعة تأخذ حكم القرض، ويقوم باستثمار هذه الودائع، والاتجار فيها بنفسه وهذا محظور على البنوك القائمة، ويتم التعامل فيها بصيغ وعقود استثمار شرعية، وليس بإقراضها بفائدة كما هو الوضع في البنوك العادية. فإذا ما اختل أو انعدم أحد هذه العناصر التي تشكل مناط الفتوى فإن الفتوى لا تطبق.
ولقد ذكرنا أن الفتوى تنطبق على البنوك الإسلامية، مع ملاحظة أن البنوك الإسلامية تلتزم بشروط وأحكام الوكالة الشرعية، وأهمها حرمة اشتراط ربح محدد للمودع بصفته موكلًا؛ لأن هذا باطل بالإجماع، وصرف الربح كله للمودع بعد خصم أجرة البنك المحددة في عقد الوكالة، وتحميل المودع بصفته موكلًا جميع مخاطر استثمار الوديعة، وخسائرها التي لا يد للبنك فيها، ولا قدرة له على توقعها أو تلافي آثارها أي: إذا كانت بسبب قوة قاهرة، أو بسبب أجنبي بلغة القانون.
ولو وُجد بنك يتلقى الودائع بعقد وكالة مستوفية لشروطها، وتترتب عليها أحكامها الشرعية؛ لكانت معاملاته صحيحة. ولكن الوكالة المذكورة في الفتوى، على الرغم من أنها مجرد اختراع وخيال يناقض أحكام القوانين وواقع العمل؛ فإنها وكالة باطلة بالإجماع؛ لأن الوكيل البنك يأخذ أرباح الوديعة، وليس أجرًا محددًا في عقد الوكالة، ويتحمل خسائرها، ويشترط للمودع الموكل مبلغًا محددًا مقدمًا أسماه ربحًا، وهذه وكالة باطلة بإجماع الفقهاء طوال 14 قرنًا من الزمان، ولا أظن أن هذا يغيب عن علم أصحاب الفضيلة أعضاء المجمع، وهم من المشهود لهم بالعلم والفضل والورع.
وخلاصة الرد على هذا الجزء من الفتوى أنها فتوى في معاملة افتراضية؛ حيث هذه المعاملة المستفتى فيها غير جائزة قانونًا، وغير واقعة عملًا، بالنسبة للبنوك العاملة في مصر، بل وفي غيرها من البلاد العربية وغيرها. وهي صورة بنك يتلقى الودائع بصفة وكيل استثمار، ويستثمر هذه الودائع بنفسه في معاملات وبصيغ وعقود استثمار مباشرة، وهذه المعاملات وتلك الصيغ تتفق مع أحكام الشريعة الإسلامية.
وإذا فرضنا جدلًا أن البنوك تقبل الودائع بصفتها وكيلًا عن المودعين لاستثمارها بنفسها والاتجار فيها استثمارًا مباشرًا؛ فإن هذا الاستثمار يجب أن يكون بصيغ استثمار شرعية كالبيع والشراء والاستصناع والمرابحة والسلم والمشاركة وغيرها من الصيغ والعقود الشرعية، وليس بصيغة الإقراض بفائدة، كما أنه يجب أن تكون الوكالة في الاستثمار مستوفية لشروطها الشرعية، وتترتب عليها الأحكام والآثار التي ترتبها الشريعة الإسلامية؛ من كون الربح كله للمودعين، وللبنك الأجر المحدد المتفق عليه في عقد الوكالة، على أن تكون خسارة الودائع التي لا يد للبنك فيها على أصحابها؛ لأنهم المالكون لها.
وهذا يقتضي أن يُفِرد البنك للودائع التي يستثمرها بطريق الوكالة حسابًا مستقلًا منتظمًا مُدقَّقًا، تقيد فيه إيرادات ومصروفات جميع المعاملات الشرعية التي يقوم بها البنك، حتى يتحدد الربح المستحق للمودعين، بعد أن يخصم البنك الأجرة المتفق عليها عند الإيداع.
والبنوك الإسلامية تقوم بهذا العمل على الوجه السابق، وذلك بجانب قيامها باستثمار الودائع بصيغة المضاربة التي يستحق فيها البنك نسبة محددة من الربح بدلًا من الأجرة المحددة بمبلغ مقطوع أو نسبة من الودائع المستثمرة، وقد تستثمر البنوك الإسلامية الودائع بصيغة المشاركة؛ فيستحق البنك حصة من الربح تناسب مساهمته في المشاركة، ويأخذ المودعون نسبة من الربح تناسب مساهماتهم.
وأما استخدام الودائع فالبنوك الإسلامية تستثمرها استثمارًا مباشرًا بعقود وصيغ شرعية كالمرابحة والبيع المؤجل وبيع السلم والاستصناع والمشاركات، ولا تدفع البنوك الإسلامية هذه الودائع بصيغة القرض لمن يقوم باستثمارها؛ فالبنوك الإسلامية لا تقوم بالإقراض والتمويل النقدي ومنح التسهيلات الائتمانية، بل إنها بنوك استثمار منتج للسلع والخدمات، وبنوك تنمية حقيقية، وتلك رسالتها، حسب قواعد الشريعة، وقوانين ونظم إنشائها، والتراخيص التي منحتها الدول التي توجد فيها هذه البنوك لها؛ فإن قصرت أو أخطأت كانت مسئولة أمام الله، ثم الدولة التي منحتها هذه التراخيص، والمجتمع الذي منحها ثقته.
وقد يحدث هذا التقصير بسبب عدم كفاية العناصر المؤهلة، أو عدم العناية بتدريبها، ولكنها في جميع الأحوال يجب أن تجمع المدخرات، وتوجهها للاستثمار المنتج بصيغ شرعية مساهمة في خطط التنمية. ويجب على الدولة والمجتمع أن يعيناها على ذلك، ويحكما الرقابة عليها؛ إذ إن الذين يتعاملون مع هذه البنوك يعتمدون على أنها تلتزم بأحكام الشريعة في ترك الربا الذي يؤذن بحرب الله ورسوله ويمحق البركة في المجتمع، وأن هذه البنوك تسهم في نفس الوقت في تمويل خطط التنمية. ذلك أن البنك الإسلامي لا يتقاضى فائدة على قرض؛ لأنه لا يُقرض الودائع، وإنما يستحق حصة من ربح العملية أو المشروع، ولا يتحقق الربح إلا إذا كان ثمة مشروع منتج ومحقق للربح وفق دراسة الجدوى، وبذلك يواكب كل تمويل لعملية إنتاج ينتج عنها ربح، وهذا يساعد على تخفيف حدة التضخم، ويوجه استخدامات الموارد في المجتمع توجيهًا صحيحًا.
إن دعم ومساندة البنوك الإسلامية تلبي أشواق ورغبات شريحة كبيرة من المجتمع التي آمنت بحرمة الربا، وبكونه يمحق البركة من الرزق، ويعرض المرابي لحرب من الله ورسوله لا قبل له بها، ولهم حق ممارسة أحكام دينهم، ويفيد الجهاز المصرفي من ودائع يمتنع أصحابها عن إيداعها في البنوك الربوية، بدلًا من أن تتسرب هذه الودائع، ويُحرم منها المجتمع.
ولا يضير البنوك التقليدية وجود بنوك إسلامية؛ لأن الملتزمين بأحكام دينهم إذا لم توجد بنوك إسلامية لا يودعون في البنوك التقليدية. لذا فإن إثارة هذا الموضوع لا يفيد المجتمع بحال.