فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم}.
مرتب على ما عدد من بدائع صنعه عز وجل وودائع نعمه سحبانه وتعالى، والمراد على ما قيل: أحدث التسبيح تنزيلًا للفعل المتعدي منزلة اللازم، وأريد من إحداثه استمراره لا إيجاده لأنه عليه الصلاة والسلام غير معرض عنه، وتعقبه الطيبي بأن هذا عكس ما يقتضيه لفظ الإحداث، فالمراد تجديد التسبيح، وفي الكلام إضمار أي سبح بذكر اسم ربك، أو الاسم مجاز عن الذكر فإن إطلاق الاسم للشيء ذكره، والباء للاستعانة أو الملابسة وكونها للتعدية كما هو ظاهر كلام أبي حيان ليس بشيء، والعظيم صفة للاسم، أو للرب، وتعقيب الأمر بالتسبيح لما عدد إما لتنزيهه تعالى عما يقولوه الجاحدون لوحدانيته عز وجل الكافرون بنعمه سبحانه مع عظمها وكثرتها، أو للشكر على تلك النعم السابقة لأن تنزيهه تعالى وتعظيمه جل وعلا بعد ذكر نعمه سبحانه مدح عليها فهو شكر للمنعم في الحقيقة، أو للتعجب من أمر الكفرة في غمط تلك النعم الباهرة مع جلالة قدرها وظهور أمرها؛ وسبحان ترد للتعجب مجازًا مشهورًا فسبح بمعنى تعجب، وأصله فقل سبحان الله للتعجب وفيه بعد وما تقدم أظهر.
هذا وجوز أن لا يكون في {باسم رَبّكَ} إضمار ولا مجاز بل يبقى على ظاهره فقد قالوا في قوله تعالى: {سَبِّحِ اسم رَبّكَ الاعلى} [الأعلى: 1]: كما يجب تنزيه ذاته تعالى وصفاته سبحانه عن النقائص يجب تنزيه الألفاظ الموضوعة لها عن سوء الأدب وهو أبلغ لأنه يلزمه تقديس ذاته عز وجل بالطريق الأولى على طريق الكناية الرمزية، وفيه أنه إنما يتأتى لو لم تذكر الباء، وجعلها زائدة خلاف الظاهر، وحال كونها للتعدية قد سمعته، وجعل بعضهم على هذا الخطاب لغير معين فقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من الأمور وكان الكل معترفين بأنها من الله تعالى وكان الكفار إذا طولبوا بالوحدانية قالوا: نحن لا نشرك في المعنى وإنما نتخذ أصنامًا آلهة وذلك إشراك في الاسم، والذي خلقنا وخلق السموات والأرض هو الله تعالى فنحن ننزهه في الحقيقة قال سبحانه: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} على معنى كما أنك أيها الغافل اعترفت بعدم اشتراكها في الحقيقة اعترف بعدم اشتراكها في الاسم ولا تقل لغيره تعالى إلهًا فإن الاسم يتبع المعنى والحقيقة، فالخطاب كالخطاب في قول الواعظ يا مسكين أفنيت عمرك وما أصلحت أمرك لا يريد به أحدًا بعينه، وإنما يريد أيها المسكين السامع وهو كما ترى، نعم احتمال عموم الخطاب مما لا ينكر لكن لا يتعين عليه هذا التقرير، ثم الظاهر أن المراد بذكر الرب أو ذكر اسمه سبحانه على ما تقرر سابقًا ما هو المتبادر المعروف.
وفي (الكشف) إن المراد بذلك تلاوته صلى الله عليه وسلم للقرآن أو لهذه السورة الكريمة المتضمنة لإثبات البعث والجزاء ومراتب أهله لينطبق عليه قوله تعالى بعد:
{فَلاَ أُقْسِمُ} [الواقعة: 57] وعلى الأول لابد من إضمار أي فسبح باسم ربك وامتثل ما أمرت به فأقسم أنه لقرآن، والغرض تأكيد الأمر بالتسبيح، وأنا أقول يتأتى الانطباق على الظاهر أيضًا سوى أنه يعتبر في الكلام إضمار ولا بأس بأن يقال: إنه تعالى لما ذكر ما ذكر من النعم الجليلة الداعية لتوحيده سبحانه ووصفه بما يليق به عز وجل قال سبحانه: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ} أي فنزهه تعالى عما يقولون في وصفه سبحانه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68)}.
هذا على طريقة قوله: {أفرأيتم ما تحرثون} [الواقعة: 63] الآية، تفريعًا واستفهامًا، وفعلَ رؤية.
ومناسبةُ الانتقال أن الحرث إنما ينبت زرعه وشجره بالماء فانتقل من الاستدلال بتكوين النبات إلى الاستدلال بتكوين الماء الذي به حياة الزرع والشجر.
ووصفُ {الماء} بـ {الذي تشربون} إدماجٌ للمنة في الاستدلال، أي الماء العذب الذي تشربونه، فإن شرب الماء من أعظم النعم على الإنسان ليقابَل بقوله بعده: {لو نشاء جعلناه أجاجًا فلولا تشكرون} [الواقعة: 70].
والمراد ماء المطر ولذلك قال: {أأنتم أنزلتموه من المزن}، والمراد: أنزلتموه على بلادكم وحروثكم.
وماء المطر هو معظم شراب العرب المخاطبين حينئذٍ ولذلك يقال للعرب: بنو ماء السماء.
والمزن: اسم جمع مُزنة وهي السحابة.
ووجه الاستدلال إنشاء ما به الحياة بعد أن كان معدومًا بأن كوّنه الله في السحاب بحكمة تكوين الماء.
فكما استُدل بإيجاد الحي من أجزاء ميتة في خلق الإنسان والنبات استُدل بإيجاد ما به الحياة عن عدم تقريبًا لإِعادة الأجسام بحكمة دقيقة خفية، أي يجوز أن يمطر الله مطرًا على ذوات الأجساد الإنسانية يكون سببًا في تخلقها أجسادًا كاملة كما كانت أصولها، كما تتكوّن الشجرة من نواةِ أصلِها، وقد تم الاستدلال على البعث عند قوله: {أم نحن المنزلون}.
وقوله: {أأنتم أنزلتموه من المزن} جعل استدلالًا منوطًا بإنزال الماء من المزن، على طريقة الكناية بإنزاله، عن تكوينه صالحًا للشراب، لأن إنزاله هو الذي يحصل منه الانتفاع به ولذلك وصف بقوله: {الذي تشربون}.
وأعقب بقوله: {لو نشاء جعلناه أجاجًا} [الواقعة: 70] فحصل بين الجملتين احتباك كأنه قيل: أأنتم خلقتموه عَذْبًا صالحًا للشرب وأنزلتموه من المزن لو نشاء جعلناه أجاجًا ولأمسكناه في سحاباته أو أنزلناه على البحار أو الخلاء فلم تنتفعوا به.
لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70).
موقعها كموقع جملة {لو نشاء لجعلناه حطامًا} [الواقعة: 65] والمعنى: لو نشاء جعلناه غير نافع لكم.
فهذا استدلال بأنه قادر على نقض ما في الماء من الصلاحية للنفع بعد وجود صورة المائية فيه.
فوزان هذا وزانُ قوله: {نحن قدرنا بينكم الموت} [الواقعة: 60] وقوله: {لو نشاء لجعلناه حطامًا} [الواقعة: 65].
وتخلص من هذا التتميم إلى الامتنان بقوله: {فلولا تشكرون} تحْضيضًا لهم على الشكر ونبذ الكفر والشرك.
وحذفت اللام التي شأنها أن تدخل على جواب {لو} الماضي المثبت لأنها لام زائدة لا تفيد إلا التوكيد فكان حذفها إيجازًا في الكلام.
وذكّر الشيخ محمد بن سعيد الحجري التونسي في حاشيته على شرح الأشموني للألفية المسماة (زواهر الكواكب) عن كتاب (البرهان في إعجاز القرآن) هذا الاسم سمي به كتابان أحدهما لكمال الدين محمد المعروف بابن الزملكاني والثاني: لابن أبي الأصبع أنه قال: فإن قيل لِمَ أكد الفعل باللام في الزرع ولم يؤكد، في الماء؟ قلت: لأن الزرع ونباته وجفافه بعد النضارة حتى يعود حطامًا مما يحتمل أنه من فعل الزارع أو أنه من سَقي الماء، وجفافه من عدم السقي، فأخبر سبحانه أنه الفاعل لذلك على الحقيقة وأنه قادر على جعله حُطامًا في حال نموه لو شاء، وإنزالُ الماء من السماء مما لا يتوهم أن لأحد قدرة عليه غير الله تعالى اهـ.
وحذفُ هذه اللام قليل إلا إذا وقعت {لو} وشرطها صلة لموصول فيكثر حذف هذه اللام للطول وهو الذي جزم به ابن مالك في (التسهيل) وتبعه الرضي كقوله تعالى: {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم} [النساء: 9] وإن قال المرادي والدماميني في (شرحيهما): إن هذا لا يعرف لغير المصنف، قال الرضي: وكذلك إذا طال الشرط بذيوله كقوله تعالى: {ولو أنما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحر ما نفدت كلمات الله} [لقمان: 27]، أي وأما في غير ذلك فحذف اللام قليل ولكنه تكرر في القرآن في عدة مواضع منها هذه الآية.
وللفخر كلام في ضابط حذف هذه اللام، ليس له تمام.
أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71).
هو مثل سابقه في نظم الكلام.
ومناسبةُ الانتقال من الاستدلال بخلق الماء إلى الاستدلال بخلق النار هي ما تقدم في مناسبة الانتقال إلى خلق الماء من الاستدلال بخلق الزرع والشجر، فإن النار تخرج من الشجر بالاقتداح وتذكى بالشجر في الاشتعال والالتهاب.
وهذا استدلال على تقريب كيفية الإحياء للبعث من حيث إن الاقتداح إخراج والزند الذي به إيقاد النار يخرج من أعواد الاقتداح وهي ميتة.
وفي قوله: {التي تورون} إدماج للامتنان في الاستدلال بما تقدم في قوله: {أفرأيتم الماء الذي تشربون} [الواقعة: 68].
وهو أيضًا وصف للمقصود من الدليل وهو النار التي تقتدح من الزند لا النار الملتهبة.
وضمير شجرتها عائد إلى النار.
وشجرة النار: هي جنس الشجر الذي فيه حُرَّاق، أي ما يقتدح منه النار وهو شجر الزَّنْد أو الزِّنَاد وأشجار النار كثيرة منها المَرْخ (بفتح فسكون) والعَفار (بفتح العين) والعُشَر (بضم ففتح) والكَلْخ (بفتح فسكون) ومن الأمثال (في كل شجر نار، واستَمْجَدَ المَرْخُ والعفار) أي أكثر من النار.
و {تُورُون}: مضارع أورى الزَّنْد إذا حكَّه بمثله يستخرج منه النار كانوا يضعون عودًا من شجر النار ويحكّونه من أعلاه بعود مثله فتخرج النار من العود الأسفل ويسمى العُودُ الأعلى زَندًا (بفتح الزاي وسكون النون) وزنادًا (بكسر الزاي) ويسمى الأسفل زَندة بهاء تأنيث في آخره، شبّهوا العود الأعلى بالفحل وشبهوا العود الأسفل بالطروقة وقد تابع ذو الرمة هذا المعنى في وصفه الاقتداح للنار فقال على شبه الإِلغاز:
وسِقطٍ كعين الديك عاورتُ صاحبي ** أبَاها وهيَّأْنا لموقعها وكْرا

مشهَّرة لا تُمكنُ الفحلَ أُمَّها ** إذا نَحن لم نمسك بأطرافها قسرا

وحذف العائد على الموصول لأن ضمير النصب يكثر حذفه من الصلة، وتقديره: التي تورونها.
وتعدية {تورون} إلى ضمير {النار} تعدية على تقدير مضاف، أي تورون شجرتها كما دل عليه قوله: {أأنتم أنشأتم شجرتها}، وقد شاع هذا الحذف في الكلام فقالوا: أورى النار كما قالوا: أورى الزناد.
وجملة {أأنتم أنشأتم شجرتها} إلخ بيان لجملة {أفرأيتم النار} إلخ كما تقدم في قوله: {أأنتم تخلقونه} [الواقعة: 59].
نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73).
الجملة بدل اشتمال من جملة {أم نحن المنشئون} [الواقعة: 72]، أي أنَّ إنشاء النار كان لفوائد وحِكمًا منها أن تكون تذكرة للناس يذكرون بها نار جهنم ويوازنون بين إحراقها وإحراق جهنم التي يعلمون أنها أشد من نارهم.
والمتاع: ما يُتمتع، أي ينتفع به زمانًا، وتقدم في قوله: {قل متاع الدنيا قليل} في سورة النساء (77).
والمُقوِي: الداخل في القَواء (بفتح القاف والمد) وهي القفر، ويطلق المُقوي على الجائع لأن جوفه أقوت، أي خلقت من الطعام إذ كلا الفعلين مشتق من القَوى وهو الخلاء.
وفراغ البطن: قواء وقوى.
فإيثار هذا الوصف في هذه الآية ليجمع المعنيين فإن النار متاع للمسافرين يستضيئون بها في مناخهم ويصطلون بها في البَرد ويراها السائر ليلًا في القَفر فيهتدي إلى مكان النُّزَّل فيأوي إليهم، ومتاع للجائعين يطبخون بها طعامهم في الحضر والسفر، وهذا إدماج للامتنان في خلال الاستدلال.
واختير هذان الوصفان لأن احتياج أصحابهما إلى النار أشد من احتياج غيرهما.
فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74).
رتب على ما مضى من الكلام المشتمل على دلائل عظمة القدرة الإِلهية وعلى أمثال لتقريب البعث الذي أنكروا خبره، وعلى جلائل النعم المدمجة في أثناء ذلك أن أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بأن ينزهه تنزيهًا خاصًا معقِّبًا لما تفيضه عليه تلك الأوصاف الجليلة الماضية من تذكر جديد يكون التنزيه عقبه ضربًا من التذكر في جلال ذاته والتشكر لآلائه فإن للعبادات مواقع تكون هي فيها أكمل منها في دونها، فيكون لها من الفضل ما يجزل ثوابه فالرسول صلى الله عليه وسلم لا يخلو عن تسبيح ربه والتفكرِ في عظمة شأنه ولكن لاختلاف التسبيح والتفكر من تجدد ملاحظة النفس ما يجعل لكل حال من التفكر مزايا تكسبه خصائص وتزيده ثوابًا.