فصل: قال ابن عطية في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالجملة عطف على جملة {قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى قوله ومتاعًا للمقوين} [الواقعة: 49 73]، وهي تذييل.
والتسبيح: التنزيه، وقد تقدم عند قوله تعالى: {ونحن نسبح بحمدك} في سورة البقرة (30).
واسم الرب: هو ما يدل على ذاته وجُماع صفاته وهو اسم الجلالة، أي بأن يقول: سبحان الله، فالتسبيح لفظ يتعلق بالألفاظ.
ولما كان الكلام موضوعًا للدلالة على ما في النفس كان تسبيح الاسم مقتضيًا تنزيه مُسماه وكان أيضًا مقتضيًا أن يكون التسبيح باللفظ مع الاعتقاد لا مجرد الاعتقاد لأن التسبيح لما علق بلفظ اسم تعين أنه تسبيح لفظي، أي قُلْ كلامًا فيه معنى التنزيه، وعلّقه باسم ربك، فكل كلام يدل على تنزيه الله مشمول لهذا الأمر ولكن محاكاة لفظ القرآن أولى وأجمع بأن يقول: سُبحان الله.
ويؤيد هذا ما قالته عائشة رضي الله عنها إنه لما نزل قوله تعالى: {فسبح بحمد ربك واستغفره} [النصر: 3] كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده: «سبحانك اللهم ربنا وبحمدك اللهم اغفر لي يتأول القرآن» أي يتأوله على إرادة ألفاظه.
والباء الداخلة على {اسم} زائدة لتوكيد اللصوق، أي اتصاللِ الفعل بمفعوله وذلك لوقوع الأمر بالتسبيح عقب ذكر عدة أمور تقتضيه حسبما دلت عليه فاء الترتيب فكان حقيقًا بالتقوية والحث عليه، وهذا بخلاف قوله: {سبح اسم ربك الأعلى} [الأعلى: 1] لوقوعه في صدر جملته كقوله: {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرًا كثيرًا وسبحوه بكرة وأصيلًا} [الأحزاب: 41، 42].
وهذا الأمر شامل للمسلمين بقرينة أن القرآن متلوّ لهم وأن ما تفرع الأمر عليه لا يختص علمه بالنبي صلى الله عليه وسلم فلما أُمر بالتسبيح لأجله فكذلك من عَلمه من المسلمين.
والمعنى: إذ علمتم ما أنزلنا من الدلائل وتذكرتم ما في ذلك من النعم فنزهوا الله وعظّموه بقُصارى ما تستطيعون.
و {العظيم} صَالح لأن يجعل وصفًا لـ: {ربك}، وهو عظيم بمعنى ثبوت جميع الكمال له وهذا مجاز شائع ملحق بالحقيقة؛ وصالح لأن يكون وصفًا لـ: {اسم} والاسم عظيم عظمة مجازية ليُمْنه ولعظمة المسمّى به. اهـ.

.قال ابن عطية في الآيات السابقة:

{وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41)}.
إعراب قوله: {وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال} قد تقدم نظيره. وفي الكلام هنا معنى الإنحاء عليهم وتعظيم مصابهم. والسموم: أشد ما يكون من الحر باليابس الذي لا بلل معه. والحميم: السخن جدًا من المائع الذي في جهنم، والعرب تقول للماء السخن حميمًا. واليحموم: الأسود وهو بناء مبالغة.
واختلف الناس في هذا الشيء الأسود الذي يظل أهل النار ما هو فقال ابن عباس ومجاهد وأبو مالك وابن زيد هو الدخان، وهذا قول الجمهور. وقال ابن عباس أيضًا: هو سرادق النار المحيط بأهلها، فإنه يرتفع من كل ناحية حتى يظلهم، وحكى النقاش، أن اليحموم: اسم من أسماء جهنم، وقاله ابن كيسان، وقال ابن بريدة وابن زيد أيضًا في كتاب الثعلبي: هو جبل من نار أسود يفزع أهل النار إلى ذراه فيجدونه أشد شيء وأمره.
وقوله: {ولا كريم} قال الطبري وغيره معناه: ليس له صفة مدح في الظلال، وهذا كما تقول: ثوب كريم ونسب كريم، يعني بذلك أن له صفات مدح.
قال القاضي أبو محمد: ويحتمل أن يصفه بعدم الكرم على معنى: ألا كرامة لهم، وذلك أن المرء في الدنيا قد يصبر على سوء الموضوع لقرينة إكرام يناله فيه من أحد، فجمع هذا الظل في النار أنه سيئ الصفة وهم فيه مهانون. والمترف: المنعم في سرف وتخوض.
و {يصرون} معناه: يعتقدون اعتقادًا لا ينوون عنه إقلاعًا، قال ابن زيد: لا يثوبون ولا يستغفرون. و{الحنث}: الإثم ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من مات له ثلاث من الولد لم يبلغوا الحنث». الحديث، أراد: لم يبلغوا الحلم فتتعلق بهم الآثام. وقال الخطابي: {الحنث} في كلام العرب العدل الثقيل، شبه الإثم به.
واختلف المفسرون في المراد بهذا الإثم هنا، فقال قتادة والضحاك وابن زيد: هو الشرك، وهذا هو الظاهر. وقال قوم في ما ذكر مكي: هو الحنث في قسمهم الذي يتضمنه قوله تعالى: {وأقسموا بالله جهد أيمانهم} [الأنعام: 109، النحل: 38، النور: 53، فاطر: 42] الآية في التكذيب بالبعث، وهذا أيضًا يتضمن الكفر، فالقول به على عمومه أولى. وقال الشعبي: {الحنث العظيم}: اليمين الغموس.
وقد تقدم ذكر اختلاف القراء في قوله: {أئذا}، و{إنا}، ويختص من ذلك بهذا الموضع أن ابن عامر يخالف فيه أصله فيقرأ هذا: {أئذا}. {أئنا} بتحقيق الهمزتين فيهما على الاستفهام، ورواه أبو بكر عن عاصم في قوله: {إنا لمبعوثون} والعامل في قوله: {أئذا} فعل مضمر يدل عليه قوله: {لمبعوثون} تقديره: أنبعث أو نحشر، ولا يعمل فيه ما بعده لأنه مضاف إليه.
وقرأ عيسى الثقفي: {مُتنا} بضم الميم، وقرأ جمهور الناس: {مِتنا} بكسرها وهذا على لغة من يقول: مت أموت على وزن فعل بكسر العين يفعل بضمها، ولم يحك منها عن العرب إلا هذه اللفظة وأخرى هو فضل يفضل.
وقرأ بعض القراء: {أوْ} بسكون الواو ومعنى الآية استبعاد أن يبعثوا هم وآباؤهم على حد واحد من الاستبعاد وقرأ الجمهور: {أوَ آباؤنا} بتحريك الواو على أنها واو العطف دخل عليها ألف الاستفهام، ومعناها: شدة الاستبعاد في الآباء، كأنهم استبعدوا أن يبعثوا، ثم أتوا بذكر من البعث فيهم أبعد وهذا بين لأهل العلم بلسان العرب.
ثم أمر الله تعالى نبيه أن يعلمهم بأن العالم محشور مبعوث لـ: {يوم معلوم} موقت و{ميقات}: مفعال من الوقت، كميعاد من الوعد.
ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51).
وقوله: {ثم إنكم} مخاطبة لكفار قريش ومن كان في حالهم، و{من} في قوله: {من شجر} يحتمل أن تكون للتبعيض ويحتمل أن تكون لابتداء الغاية، و{من} في قوله: {من زقوم} لبيان الجنس، والضمير في: {منها} عائد على الشجر، و(من) للتبعيض أو لابتداء الغاية، والضمير في: {عليه} عائد على المأكول أو على الأكل. وفي قراءة ابن مسعود {لآكلون من شجر} على الإفراد.
و: {الهيم} قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة والضحاك: هو جمع أهيم، وهو الجمل الذي أصابه الهُيام، بضم الهاء، وهو داء معطش يشرب معه الجمل حتى يموت أو يسقهم سقمًا شديدًا، والأنثى: هيماء. وقال بعضهم: هو جمع هيماء كبيض وعين، وقال قوم آخرون: هو جمع هائم وهائمة، وهذا أيضًا من هذا المعنى، لأن الجمل إذا أصابه ذلك الداء هام على وجهه وذهب، وقال سفيان الثوري وابن عباس: {الهيم} هنا الرمال التي لا تروى من الماء، وذلك أن الهَيام بفتح الهاء هو الرمل الدق الغمر المتراكم، وقال ثعلب. الهُيام: بضم الهاء: الرمل الذي لا يتماسك.
وقرأ ابن كثير وابن عامر وأبو عمرو والكسائي: {شَرب} بفتح الشين، وهي قراءة الأعرج وابن المسيب وشعيب بن الحبحاب ومالك بن دينار وابن جريج، ولا خلاف أنه مصدر، وقرأ مجاهد: {شِرب} بكسر الشين، ولا خلاف أنه اسم، وقرأ أهل المدينة وباقي السبعة: {شُرب}، بضم الشين، واختلف فيه، فقال قوم وهو مصدر، وقال آخرون هم اسم لما يشرب.
والنزل: أول ما يأكل الضيف. وقرأ عمرو في رواية عباس: {نزْلهم} ساكنة الزاي، وقرأ الباقون واليزيدي عن أبي عمرو بضم الزاي وهما لمعنى كالشغل والشغل. و: {الدين} الجزاء.
ثم أخبر تعالى أنه الخالق، وحضض على التصديق على وجه التقريع ثم ساق الحجة الموجبة للتصديق، كان معترضًا من الكفار قال: ولم أصدق؟ فقيل له: أفرأيت كذا وكذا الآيات، وليس يوجد مفطور يخفى عنه أن المني الذي يخرج منه ليس له فيه عمل ولا إرادة ولا قدرة. و{أم} في قوله: {أم نحن} ليست المعادلة عند سيبويه، لأن الفعل قد تكرر، وإنما المعادلة عنده: أقام زيد أم عمرو، وهذه التي في هذه الآية معادلة عند قوم من النحاة، وأما إذا تغاير الفعلان فليست بمعادلة إجماعًا.
وقرأ الجمهور: {تُمنون} بضم التاء، وقرأ ابن عباس وأبو السمال {تَمنون} بفتح التاء، ويقال أمنى الرجل ومنى بمعنى واحد.
وقرأ جمهور القراء: {قدّرنا} بشد الدال. وقرأ كثير وحده: {قدَرنا} بتخفيفها. والمعنى فيها يحتمل أن يكون بمعنى قضينا وأثبتنا، ويحتمل أن يكون بمعنى سوينا، وعدلنا التقدم والتأخر، أي جعلنا الموت رتبًا، ليس يموت العالم دفعة واحدة، بل بترتيب لا يعدوه أحد.
وقال الطبري معنى الآية: {قدرنا بينكم الموت} {على أن نبدل أمثالكم} أي تموت طائفة ونبدلها بطائفة، هكذا قرنًا بعد قرن.
وقوله: {وما نحن بمسبوقين} على تبديلكم إن أردناه وإن ننشئكم بأوصاف لا يصلها عملكم ولا يحيط بها كفركم. قال الحسن: من كونكم قردة وخنازير.
قال القاضي أبو محمد: تأول الحسن هذا، لأن الآية تنحو إلى الوعيد، وجاءت لفظة (السبق) هنا على نحو قوله عليه السلام: «فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها فافعلوا لا تفوتنكم».
وقرأ جمهور الناس: {النشْأة} بسكون الشين. وقرأ قتادة وأبو الأشهب وأبو عمرو بخلاف {النشَأة} بفتح الشين والمد. وقال أكثر المفسرين: أشار إلى خلق آدم ووقف عليه، لأنه لا تجد أحدًا ينكر أنه من ولد آدم وأنه من طين. وقال بعضهم: أراد بـ: {النشأة الأولى} نشأة إنسان إنسان في طفوليته فيعلم المرء نشأته كيف كانت بما يرى من نشأة غيره، ثم حضض على التذكر والنظر المؤدي إلى الإيمان.
وقرأ الجمهور: {تذّكرون} مشددة الذال. وقرأ طلحة: {تذْكُرون} بسكون الذال وضم الكاف، وهذه الآية نص في استعمال القياس والحض عليه.
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63).
وقف تعالى الكفار على أمر الزرع الذي هو قوام العيش، وبين لكل مفطور أن الحراث الذي يثير الأرض ويفرق الحب ليس يفعل في نبات الزرع شيء، وقد يسمى الإنسان زارعًا، ومنه قوله عز وجل: {يعجب الزراع} [الفتح: 29] لكن معنى هذه الآية: {أأنتم تزرعونه} زرعًا يتم {أم نحن}. وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا تقولن زرعت، ولكن قل حرثت»، ثم تلا أبو هريرة هذه الآية.
والحطام: اليابس المتفتت من النبات الصائر إلى ذهاب، وبه شبه حطام الدنيا. وقيل المعنى: نبتًا لا قمح فيه و: {تفكهون} قال ابن عباس ومجاهد وقتادة معناه: تعجبون، وقال عكرمة: تلامون. وقال الحسن معناه: تندمون وقال ابن زيد: تتفجهون، وهذا كله تفسير لا يخص اللفظة، والذي يخص اللفظ، هو: تطرحون الفاكهة عن أنفسكم وهي المسرة والجدل، ورجل فكه إذا كان منبسط النفس غير مكترث بالشيء، وتفكه من أخوات تحرج وتحوب.
وقرأ الجمهور: {فظَلتم} بفتح الظاء، وروى سفيان الثوري في قراءة عبد الله كسر الظاء. قال أبو حاتم: طرحت عليها حركة اللام المجزومة، وذلك رديء في القياس، وهي قراءة أبو حيوة. وروى أحمد بن موسى: {فظلَلتم} بلامين، الأولى مفتوحة عن الجحدري، ورويت عن ابن مسعود، بكسر اللام الأولى.
وقوله: {إنا لمغرمون} قبله حذف تقديره: يقولون.
وقرأ الأعمش وعاصم الجحدري: {أإنا لمغرمون} بهمزتين على الاستفهام، والمعنى يحتمل أن يكون إنا لمعذبون من الغرام وهو أشد العذاب ومنه قوله تعالى: {إن عذابها كان غرامًا} [الفرقان: 65] ومنه قول الأعشى: الخفيف:
إن يعذّب يكنْ غرامًا وإنْ يُعْ ** طِ جزيلًا فإنه لا يبالي