فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} أي تبذرونَ حبَّه وتعملونَ في أرضِه {ءَأنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} تنبتونَهُ وتردونه نباتًا يرفّ {أَمْ نَحْنُ الزرعون} أي المنبتونَ لا أنتمُ والكلامُ في أم كما مر آنفًا {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حطاما} هشيمًا متكسرًا متفتتًا بعد ما أنبتناهُ وصارَ بحيثُ طمعتم في حيازة غلالِه {فَظَلْتُمْ} بسبب ذلك {تَفَكَّهُونَ} تتعجبونَ من سوءِ حالِه إثر ما شاهدتُموه على أحسن ما يكون من الحالِ أو تندمونَ على ما تعبتُم فيه وأنفقتُم عليه أو على ما اقترفتُم لأجله من المعاصِي فتتحدثون فيه والتفكّه التنقلُ بصنوفِ الفاكهةِ وقد استعير للتنقلِ بالحديث وقرئ {تفكَّنُون} أن تتندمونَ وقرئ {فظِلتم} بالكسرِ و{فظللِتُم} على الأصل.
{إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} أي لملزَمون غرامةَ ما أنفقنا أو مهلكونَ بهلاكِ رزقِنا من الغَرام وهو الهلاكُ وقرئ {أَئِنَّا} على الاستفهامِ والجملةُ على القراءتينِ مقدرة بقول هو في حيز النصبِ على الحاليةِ من فاعل تفكهون أي قائلين أو تقولون إنا لمغرمون {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} حُرمنا رزقَنا أو محارَفون محدودون لا حظَّ لنا ولا بختَ لا مجدودون.
{أَفَرَءيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ} عذبًا فراتًا، وتخصيصُ هذا الوصفِ بالذكرِ مع كثرة منافعهِ لأن الشربَ أهم المقاصدِ المنوطةِ به {ءَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} أي من السحابِ واحدُه مُزْنَةٌ وقيل: هو السحابُ الأبيضُ وماؤه أعذبُ {أَمْ نَحْنُ المنزلون} له بقدرتنا {لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجًا} مِلْحًا زُعاقًا لا يمكن شربُه وحذفُ اللامِ هاهنا مع إثباتِها في الشرطيةِ الأولى للتعويلِ على علم السامعِ أو الفرقِ بين المطعومِ والمشروبِ في الأهميةِ وصعوبة الفقدِ والشرطيتانِ مستأنفتان مسوقتانِ لبيانِ أن عصمتَهُ تعالى للزرع والماءِ عما يُخلُّ بالتمتعِ بهما نعمةٌ أخرى بعد نعمةِ الإنباتِ والإنزالِ مستوجبةٌ للشكرِ فقوله تعالى: {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} تحضيضٌ على شكرِ الكلِّ {أَفَرَءيْتُمُ النار التي تُورُونَ} أي تقدحونها وتستخرجونَها من الزنادِ {ءَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي منها الزنادُ وهي المَرخُ والعَفارُ {أَمْ نَحْنُ المنشئون} لها بقدرتنا والتعبيرُ عن خلقِها بالإنشاءِ المنبىءِ عن بديعِ الصنعِ والمعربِ عن كمالِ القدرةِ والحكمةِ لما فيه من الغرابةِ الفارقةِ بينها وبين سائرِ الشجر التي لا تخلُو عن النارِ حتى قيل: في كل شجرٍ نارٌ واستَمجد المرخَ والعَفار كما أن التعبيرَ عن نفخِ الروحِ بالإنشاءِ في قوله تعالى: {ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقًَا آخَر} لذلك.
وقوله تعالى: {نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً}.
استئنافٌ مبينٌ لمنافعِها أي جعلناها تذكيرًا لنارِ جهنَم حيثُ علقنا بها أسبابَ المعاشِ لينظروا إليها ويذكروا ما أُعدوا به من نارِ جهنَم أو تذكرةً وأنموذجًا من نارِ جهنَم لما رُويَ عن النبيِّ عليه الصلاةُ والسلامُ: «نارُكم هذه التي يوقِدها بنُو آدمَ جزءٌ من سبعين جُزءًا من حرِّ جهنَم» وقيل: تبصرةً من أمرِ العبثِ فإنه ليسَ بأبدعَ من إخراجِ النار من الشيءِ الرطبِ {ومتاعا} ومنفعةً {لّلْمُقْوِينَ} للذين ينزلونَ القَواءَ وهي الفقرُ وتخصيصُهم بذلك لأنهم أحوجُ إليها فإن المقيمينَ أو النازلينَ بقرب منهم ليسوا بمضطرين إلى الاقتداحِ بالزنادِ، وقد جُوز أن يرادَ بالمقوين الذين خلتْ بطونُهم ومزاودُهم من الطعامِ وهو بعيدٌ لعدم انحصارِ ما يهمهم ويسدُّ خللَهم فيما لا يؤكلُ إلا بالطبخِ وتأخيرُ هذه المنفعةِ للتنبيهِ على أن الأهم هو النفعُ الأخروي. والفاءُ في قوله تعالى: {فَسَبّحْ باسم رَبّكَ العظيم} لترتيبِ ما بعدَها على عددٍ من بدائعِ صنعهِ تعالى وروائعِ نعمِه الموجبةِ لتسبيحهِ تعالى إما تنزيهًا له تعالى عما يقوله الجاحدون بوحدانيةِ الكافرون بنعمتِه مع عظمِها وكثرتِها أو تعجبًا من أمرِهم في غمطِ تلك النعمِ الباهرةِ مع جلالةِ قدرِها وظهورِ أمرِها أو شكرًا على تلك النعمِ السابقة أي فأحدِثْ التسبيحَ بذكرِ اسمِه تعالى أو بذكرِه فإن إطلاقَ الإسم للشيءِ ذكرٌ له والعظيمُ صفةٌ للاسمِ أو الربِّ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

قوله: {نَحْنُ خلقناكم فَلَوْلاَ تُصَدّقُونَ}.
التفت سبحانه إلى خطاب الكفرة تبكيتًا لهم، وإلزامًا للحجة، أي: فهلا تصدّقون بالبعث، أو بالخلق.
قال مقاتل: خلقناكم ولم تكونوا شيئًا، وأنتم تعلمون ذلك، فهلا تصدّقون بالبعث؟ {أَفَرَءيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ} أي: ما تقذفون وتصبون في أرحام النساء من النطف، ومعنى {أَفَرَءيْتُم}: أخبروني، ومفعولها الأوّل {ما تمنون}، والثاني الجملة الاستفهامية، وهي {ءأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون} أي: تقدّرونه وتصوّرونه بشرًا سويًا أم نحن المقدرون المصوّرون له، و(أم) هي المتصلة، وقيل: هي المنقطعة، والأوّل أولى.
قرأ الجمهور {تمنون} بضم الفوقية من أمنى يمني.
وقرأ ابن عباس، وأبو السماك، ومحمد بن السميفع، والأشهب العقيلي بفتحها من منى يمني، وهما لغتان، وقيل: معناهما مختلف، يقال: أمنى إذا أنزل عن جماع، ومنى إذا أنزل عن احتلام، وسمي المنيّ منيًا؛ لأنه يمني، أي: يراق.
{نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} قرأ الجمهور {قدّرنا} بالتشديد، وقرأ مجاهد، وحميد، وابن محيصن، وابن كثير بالتخفيف، وهما لغتان، يقال: قدرت الشيء وقدّرته، أي: قسمناه عليكم، ووقتناه لكل فرد من أفرادكم، وقيل: قضينا، وقيل: كتبنا، والمعنى متقارب.
قال مقاتل: فمنكم من يموت كبيرًا، ومنكم من يموت صغيرًا.
وقال الضحاك: معناه أنه جعل أهل السماء وأهل الأرض فيه سواء {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} بمغلوبين، بل قادرين.
{على أَن نُّبَدّلَ أمثالكم} أي: نأتي بخلق مثلكم.
قال الزجاج: إن أردنا أن نخلق خلقًا غيركم لم يسبقنا سابق ولا يفوتنا.
قال ابن جرير: المعنى نحن قدّرنا بينكم الموت على أن نبدّل أمثالكم بعد موتكم بآخرين من جنسكم، وما نحن بمسبوقين في آجالكم، أي: لا يتقدّم متأخر، ولا يتأخر متقدّم {وَنُنشِئَكُمْ فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} من الصور والهيئات.
قال الحسن أي: نجعلكم قردة وخنازير، كما فعلنا بأقوام قبلكم، وقيل المعنى: ننشئكم في البعث على غير صوركم في الدنيا.
وقال سعيد بن المسيب: {فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني: في حواصل طيور سود تكون ببرهوت كأنها الخطاطيف، وبرهوت واد باليمن.
وقال مجاهد: {فِيمَا لاَ تَعْلَمُونَ} يعني: في أيّ خلق شئنا، ومن كان قادرًا على هذا فهو قادر على البعث {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى} وهي ابتداء الخلق من نطفة، ثم من علقة، ثم من مضغة، ولم تكونوا قبل ذلك شيئًا.
وقال قتادة، والضحاك: يعني: خلق آدم من تراب {فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ} أي: فهلا تذكرون قدرة الله سبحانه على النشأة الأخيرة، وتقيسونها على النشأة الأولى.
قرأ الجمهور {النشأة} بالقصر، وقرأ مجاهد، والحسن، وابن كثير، وأبو عمرو بالمد، وقد مضى تفسير هذا في سورة العنكبوت.
{أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} أي: أخبروني ما تحرثون من أرضكم، فتطرحون فيه البذر {ءأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ} أي: تنبتونه وتجعلونه زرعًا، فيكون فيه السنبل والحبّ {أَمْ نَحْنُ الزرعون} أي: المنبتون له الجاعلون له زرعًا لا أنتم.
قال المبرد: يقال زرعه الله أي: أنماه، فإذا أقررتم بهذا، فكيف تنكرون البعث {لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حطاما} أي: لو نشاء لجعلنا ما تحرثون حطامًا، أي: متحطمًا متكسرًا، والحطام: الهشم الذي لا ينتفع به، ولا يحصل منه حبّ، ولا شيء مما يطلب من الحرث {فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ} أي: صرتم تعجبون.
قال الفرّاء: تفكهون تتعجبون فيما نزل بكم في زرعكم.
قال في الصحاح: وتفكه: تعجب، ويقال: تندّم.
قال الحسن، وقتادة، وغيرهما: معنى الآية: تعجبون من ذهابها، وتندمون مما حلّ بكم.
وقال عكرمة: تلاومون وتندمون على ما سلف منكم من معصية الله، وقال أبو عمرو، والكسائي: هو التلهف على ما فات، قرأ الجمهور {فظلتم} بفتح الظاء مع لام واحدة.
وقرأ أبو حيوة، وأبو بكر في رواية عنه بكسر الظاء.
وقرأ ابن عباس، والجحدري {فظللتم} بلامين: أولاهما مكسورة على الأصل، وروي عن الجحدري فتحها، وهي لغة.
وقرأ الجمهور {تفكهون} وقرأ أبو حزام العكلي {تفكنون} بالنون مكان الهاء أي: تندمون.
قال ابن خالويه: تفكه: تعجب، وتفكن: تندم.
وفي الصحاح التفكن: التندم {إِنَّا لَمُغْرَمُونَ} قرأ الجمهور بهمزة واحدة على الخبر، وقرأ أبو بكر، والمفضل، وزرّ بن حبيش بهمزتين على الاستفهام، والجملة بتقدير القول أي: تقولون إنا لمغرمون، أي: ملزمون غرمًا بما هلك من زرعنا، والمغرم: الذي ذهب ماله بغير عوض، قاله الضحاك، وابن كيسان.
وقيل المعنى: إنا لمعذبون، قاله قتادة، وغيره.
وقال مجاهد، وعكرمة: لمولع بنا، ومنه قول النمر بن تولب:
سَلاَ عن تَذكَّره تكتما ** وكان رَهينًا بها مُغْرَمًَا

يقال: أغرم فلان بفلان، أي: أولع.
وقال مقاتل: مهلكون.
قال النحاس: مأخوذ من الغرام، وهو الهلاك، ومنه قول الشاعر:
ويوم النسِّارِ ويومُ الجبار ** كان عليكم عذابًا مقيمًا

والظاهر من السياق المعنى الأول، أي: إنا لمغرمون بذهاب ما حرثناه، ومصيره حطامًا، ثم أضربوا عن قولهم هذا، وانتقلوا فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} أي: حرمنا رزقنا بهلاك زرعنا، والمحروم: الممنوع من الرزق الذي لا حظ له فيه، وهو المحارف.
{أَفَرَءيْتُمُ الماء الذي تَشْرَبُونَ}، فتسكنون به ما يلحقكم من العطش، وتدفعون به ما ينزل بكم من الظمأ.
واقتصر سبحانه على ذكر الشرب مع كثرة فوائد الماء ومنافعه؛ لأنه أعظم فوائده، وأجلّ منافعه {ءأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن} أي: السحاب.
قال في الصحاح: قال أبو زيد: المزنة: السحابة البيضاء، والجمع مزن، والمزنة: المطر.
قال الشاعر:
ألَمْ تَر أنَّ الله أنْزَلَ مُزْنَة ** وعُفُرُ الظِّبَاءِ في الكِنَاس تَقَمَّعُ

ومما يدل على أنه السحاب قول الشاعر:
فنحنُ كماءِ المزْنِ مافي نصابنا ** كَهَام ولا فينا يُعدّ بَخيلُ

وقول الآخر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

{أَمْ نَحْنُ المنزلون} له بقدرتنا دون غيرنا، فإذا عرفتم ذلك، فكيف لا تقرّون بالتوحيد، وتصدّقون بالبعث.
ثم بيّن لهم سبحانه أنه لو يشاء لسلبهم هذه النعمة فقال: {لَوْ نَشَاء جعلناه أُجَاجًا} الأجاج: الماء الشديد الملوحة الذي لا يمكن شربه، وقال الحسن: هو الماء المرّ الذي لا ينتفعون به في شرب، ولا زرع، ولا غيرهما {فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ} أي: فهلا تشكرون نعمة الله الذي خلق لكم ماءً عذبًا تشربون منه وتنتفعون به {أَفَرَءيْتُمُ النار التي تُورُونَ} أي: أخبروني عنها، ومعنى {تورون}: تستخرجونها بالقدح من الشجر الرطب، يقال: أوريت النار إذا قدحتها {ءأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا} التي يكون منها الزنود، وهي المرخ والعفار، تقول العرب: في كل شجر نار، واستمجد المرخ والعفار {أَمْ نَحْنُ المنشئون} لها بقدرتنا دونكم، ومعنى الإنشاء: الخلق، وعبر عنه بالإنشاء للدلالة على ما في ذلك من بديع الصنعة، وعجيب القدرة.
{نَحْنُ جعلناها تَذْكِرَةً} أي: جعلنا هذه النار التي في الدنيا تذكرة لنار جهنم الكبرى.
قال مجاهد، وقتادة: تبصرة للناس في الظلام، وقال عطاء: موعظة ليتعظ بها المؤمن {ومتاعا لّلْمُقْوِينَ} أي: منفعة للذين ينزلون بالقواء، وهي الأرض القفر كالمسافرين، وأهل البوادي النازلين في الأراضي المقفرة، يقال: أرض قواء بالمد والقصر، أي: مقفرة، ومنه قول النابغة: