فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{ادخلوها بِسَلامٍ} [الحجر: 46] وأراد الإخبار ينبغي أن لا يكون قرآنا وذكرًا، نقول: هو في نفسه قرآن، ومن ذكره على قصد الإخبار، وأراد الأمر والإذن في الدخول يخرج عن كونه قارئًا للقرآن، وإن كان لا يخرج عن كونه قرآنا، ولهذا نقول نحن ببطلان صلاته ولو كان قارئًا لما بطلت، وهذا جواب فيه لطف ينبغي أن يتنبه له المطالع لهذا الكتاب، وذلك من حيث إني فرقت بين أن يقال ليس قول القائل: {ادخلوها بِسَلامٍ} على قصد الإذن قرآنا، وبين قوله: ليس القائل {ادخلوها بِسَلامٍ} على غير قصد بقارئ للقرآن، وأما الجواب من حيث المعقول فهو أن العبادة على منافاة الشهوة، والشهوة إما شهوة البطن، وإما شهوة الفرج في أكثر الأمر، فإن أحدًا لا يخلو عنهما، وإن لم يشته شيئًا آخر من المأكول والمشروب والمنكوح، لكن شهوة البطن قد لا تبقى شهوة بل تصير حاجة عند الجوع وضرورة عند الخوف، ولهذا قال تعالى: {وَلَحْمِ طَيْرٍ مّمَّا يَشْتَهُونَ} [الواقعة: 21] أي لا يكون لحاجة ولا ضرورة بل لمجرد الشهوة وقد بيناه في هذه السورة، وأما شهوة الفرج فلا تخرج عن كونها شهوة وإن خرجت تكون في محل الحاجة لا الضرورة، فلا يعلم أن شهوة الفرج ليست شهوة محضة، والعبادة فيها منضمة للشهوة، فلم تخرج شهوة الفرج عن كونها عبادة بدنية قط بل حكم الشارع ببطلان الحج به، وبطلان الصوم والصلاة، وأما قضاء شهوة البطن فلما لم يكن شهوة مجردة بطل به الصلاة والصوم دون الحج، وربما لم تبطل به الصلاة أيضًا، إذا ثبت هذا فنقول: خروج الخارج دليل قضاء الشهوة البطنية، وخروج المني دليل قضاء الشهوة الفرجية، فواجب بهما تطهير النفس، لكن الظاهر والباطن متحاذيان، فأمر الله تعالى بتطهير الظاهر عند الحدث والإنزال لموافقه الباطن، والإنسان إذا كان له بصيرة وينظر في تطهير باطنه عند الاغتسال للجنابة، فإنه يجد خفة ورغبة في الصلاة والذكر وهنا تتمة لهذه اللطيفة وهي أن قائلًا لو قال: لو صح قولك للزم أن يجب الوضوء بالأكل كما يجب بالحدث لأن الأكل قضاء الشهوة، وهذا كما أن الاغتسال لما وجب بالإنزال، لكونه دليل قضاء الشهوة، وكذا بالإيلاج لكونه قضاء بالإيلاج، فكذلك الإحداث والأكل فنقول: هاهنا سر مكنون وهو ما بيناه أن الأكل قد يكون لحاجة وضرورة فنقول: الأكل لا يعلم كونه للشهوة إلا بعلامة، فإذا أحدث علم أنه أكل ولا يعلم كونه للشهوة وأما الإيلاج فلا يكون للحاجة ولا يكون للضرورة فهو شهوة كيفما كان، فناط الشارع إيجاب التطهير بدليلين أحدهما: قوله صلى الله عليه وسلم: «إنما الماء من الماء» فإن الإنزال كالإحداث، وكما أن الحدث هو الخارج وهو أصل في إيجاب الوضوء، كذلك ينبغي أن يكون الإنزال الذي هو الخروج هو الأصل في إيجاب الغسل فإن عنده يتبين قضاء الحاجة والشهوة فإن الإنسان بعد الإنزال لا يشتهي الجماع في الظاهر وثانيهما: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم: الوضوء من أكل ما مسته النار فإن ذلك دليل قضاء الشهوة كما أن خروج الحدث دليله، وذلك لأن المضطر لا يصبر إلى أن يستوي الطعام بالنار بل يأكل كيفما كان، فأكل الشيء بعد الطبخ دليل على أنه قاض به الشهوة لا دافع به الضرورة، ونعود إلى الجواب عن السؤال ونقول: إذا تبين هذا فالشافعي رضي الله عنه قضى بأن شهوة الفرج شهوة محضة، فلا تجامع العبادة الجنابة، فلا ينبغي أن يقرأ الجنب القرآن، والمحدث يجوز له أن يقرأ لأن الحدث ليس يكون عن شهوة محضة.
المسألة التاسعة:
قوله: {إِلاَّ المطهرون} هم الملائكة طهرهم الله في أول أمرهم وأبقاهم كذلك طول عمرهم ولو كان المراد نفي الحدث لقال: لا يمسه إلا المطهرون أو المطهرون، بتشديد الطاء والهاء، والقراءة المشهورة الصحيحة {المطهرون} من التطهير لا من الإطهار، وعلى هذا يتأيد ما ذكرنا من وجه آخر، وذلك من حيث إن بعضهم كان يقول: هو من السماء ينزل به الجن ويلقيه عليه كما كانوا يقولون في حق الكهنة فإنهم كانوا يقولون: النبي صلى الله عليه وسلم كاهن، فقال: لا يمسه الجن وإنما يمسه المطهرون الذين طهروا عن الخبث، ولا يكونون محلًا للإفساد والسفك، فلا يفسدون ولا يسفكون، وغيرهم ليس بمطهر على هذا الوجه، فيكون هذا ردًا على القائلين: بكونه مفتريًا، وبكونه شاعرًا، وبكونه مجنونًا بمس الجن، وبكونه كاهنًا، وكل ذلك قولهم والكل رد عليهم بما ذكر الله تعالى هاهنا من أوصاف كتاب الله العزيز.
المسألة العاشرة:
قوله: {تَنزِيلٌ مّن رَّبّ العالمين} مصدر، والقرآن الذي في كتاب ليس تنزيلًا إنما هو منزل كما قال تعالى: {نَزَلَ بِهِ الروح الامين} [الشعراء: 193] نقول: ذكر المصدر وإرادة المفعول كثير كما قلنا في قوله تعالى: {هذا خَلْقُ الله} [لقمان: 11] فإن قيل: ما فائدة العدول عن الحقيقة إلى المجاز في هذا الموضع؟ فنقول: التنزيل والمنزل كلاهما مفعولان ولهما تعلق بالفاعل، لكن تعلق الفاعل بالمصدر أكثر، وتعلق المفعول عبارة عن الوصف القائم به، فنقول: هذا في الكلام، فإن كلام الله أيضًا وصف قائم بالله عندنا، وإنما نقول: من حيث الصيغة واللفظ ولك أن تنظر في مثال آخر ليتيسر لك الأمر من غير غلط وخطأ في الاعتقاد، فنقول: في القدرة والمقدور تعلق القدرة بالفاعل أبلغ من تعلق المقدور، فإن القدرة في القادر والمقدور ليس فيه، فإذا قال: هذا قدرة الله تعالى كان له من العظمة مالا يكون في قوله: هذا مقدور الله، لأن عظمة الشيء بعظمة الله، فإذا جعلت الشيء قائمًا بالتعظيم غير مباين عنه كان أعظم، وإذا ذكرته بلفظ يقال مثله فيما لا يقوم بالله وهو المفعول به كان دونه، فقال: {تَنزِيلَ} ولم يقل: منزل، ثم إن ههنا: بلاغة أخرى وهي أن المفعول قد يذكر ويراد به المصدر على ضد ما ذكرنا، كما في قوله: {مُدْخَلَ صِدْقٍ} [الإسراء: 80] أي دخول صدق أو إدخال صدق وقال تعالى: {كُلَّ مُمَزَّقٍ} [سبأ: 7] أي تمزيق، فالممزق بمعنى التمزيق، كالمنزل بمعنى التنزيل، وعلى العكس سواء، وهذه البلاغة هي أن الفعل لا يرى، والمفعول به يصير مرئيًا، والمرئي أقوى في العلم، فيقال: مزقهم تمزيقًا وهو فعل معلوم لكل أحد علمًا بينًا يبلغ درجة الرؤية ويصير التمزق هنا كما صار الممزق ثابتًا مرئيًا، والكلام يختلف بمواضع الكلام، ويستخرج الموفق بتوفيق الله، وقوله: {مِن رَّبّ العالمين} أيضًا لتعظيم القرآن، لأن الكلام يعظم بعظمة المتكلم، ولهذا يقال لرسول الملك هذا كلام الملك أو كلامك وهذا كلام الملك الأعظم أو كلام الملك الذي دونه، إذا كان الرسول رسول ملوك، فيعظم الكلام بقدر عظمة المتكلم، فإذا قال: {مِن رَّبّ العالمين} تبين منه عظمة لا عظمة مثلها وقد بينا تفسير العالم وما فيه من اللطائف، وقوله: {تَنزِيلَ} رد على طائفة أخرى، وهم الذين يقولون: إنه في كتاب ولا يمسه إلا المطهرون وهم الملائكة، لكن الملك يأخذ ويعلم الناس من عنده ولا يكون من الله تعالى، وذلك أن طائفة من الروافض يقولون: إن جبرائيل أنزل على علي، فنزل على محمد، فقال تعالى: هو من الله ليس باختيار الملك أيضًا، وعند هذا تبين الحق فعاد إلى توبيخ الكفار. اهـ.

.قال القرطبي:

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} (لا) صلة في قول أكثر المفسرين، والمعنى فأقسم؛ بدليل قوله: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ}.
وقال الفراء: هي نفي، والمعنى ليس الأمر كما تقولون، ثم استأنف (أُقْسِمُ).
وقد يقول الرجل: لا والله ما كان كذا فلا يريد به نفي اليمين، بل يريد به نفي كلام تقدّم.
أي ليس الأمر كما ذكرت، بل هو كذا.
وقيل: (لا) بمعنى أَلاَ للتنبيه كما قال:
أَلاَ عِمْ صَبَاحًا أَيُّها الطَّلَلُ الْبَاليِ

ونبه بهذا على فضيلة القرآن ليتدبروه، وأنه ليس بشعر ولا سحر ولا كهانة كما زعموا.
وقرأ الحسن وحميد وعيسى بن عمر {فَلأُقْسِمُ} بغير ألف بعد اللام على التحقيق وهو فعل حالٍ ويقدر مبتدأ محذوف، التقدير: فلأنا أقسم بذلك.
ولو أريد به الاستقبال للزمت النون، وقد جاء حذف النون مع الفعل الذي يراد به الاستقبال وهو شاذ.
الثانية: قوله تعالى: {بِمَوَاقِعِ النجوم} مواقع النجوم مساقطها ومغاربها في قول قتادة وغيره.
عطاء بن أبي رَبَاح: منازلها.
الحسن: انكدارها وانتثارها يوم القيامة.
الضحاك: هي الأنواء التي كان أهل الجاهلية يقولون إذا مُطِروا قالوا مُطِرنا بنَوْء كذا.
الماوردي: ويكون قوله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ} مستعملًا على حقيقته من نفي القسم.
القشيري: هو قسم، ولله تعالى أن يقسم بما يريد، وليس لنا أن نقسم بغير الله تعالى وصفاته القديمة.
قلت: يدل على هذا قراءة الحسن {فَلأُقْسِمُ} وما أقسم به سبحانه من مخلوقاته في غير موضع من كتابه.
وقال ابن عباس: المراد بمواقع النجوم نزول القرآن نجومًا، أنزله الله تعالى من اللوح المحفوظ من السماء العليا إلى السَّفَرة الكاتبين، فنجّمه السفرة على جبريل عشرين ليلة، ونجمه جبريل على محمد عليهما الصلاة والسلام عشرين سنة، فهو ينزله على الأحداث من أمته؛ حكاه الماوردي عن ابن عباس والسّدي.
وقال أبو بكر الأنباري: حدثنا إسماعيل بن إسحاق القاضي حدثنا حجّاج بن المِنهال حدثنا همّام عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: نزل القرآن إلى سماء الدنيا جملة واحدة، ثم نزل إلى الأرض نجومًا، وفرق بعد ذلك خمس آيات خمس آيات وأقل وأكثر، فذلك قول الله تعالى: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ}.
وحكى الفراء عن ابن مسعود أن مواقع النجوم هو محكم القرآن.
وقرأ حمزة والكِسائي {بِمَوْقِعِ} على التوحيد، وهي قراءة عبد الله بن مسعود والنَّخَعي والأعمش وابن مُحيصن ورُوَيس عن يعقوب.
الباقون على الجمع؛ فمن أفرد فلأنه اسم جنس يؤدي الواحد فيه عن الجمع، ومن جمع فلاختلاف أنواعه.
الثالثة: قوله تعالى: {إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ} قيل: إن الهاء تعود على القرآن؛ أي إن القرآن لقسم عظيم، قاله ابن عباس وغيره.
وقيل: ما أقسم الله به عظيم {إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ} ذكر المقسم عليه؛ أي أقسم بمواقع النجوم إن هذا القرآن قرآن كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو قرآن كريم محمود، جعله الله تعالى معجزة لنبيه صلى الله عليه وسلم، وهو كريم على المؤمنين، لأنه كلام ربّهم، وشفاء صدورهم؛ كريم على أهل السماء؛ لأنه تنزيل ربّهم ووَحْيه.
وقيل: {كَرِيمٌ} أي غير مخلوق.
وقيل: {كَرِيمٌ} لما فيه من كريم الأخلاق ومعاني الأمور.
وقيل: لأنه يُكِّرم حافظه، ويُعظّم قارئه.
الرابعة: قوله تعالى: {فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} مصون عند الله تعالى.
وقيل: مكنون محفوظ عن الباطل.
والكتاب هنا كتاب في السماء؛ قاله ابن عباس.
وقال جابر بن زيد وابن عباس أيضًا: هو اللوح المحفوظ.
عِكرمة: التوراة والإنجيل فيهما ذكر القرآن ومن ينزل عليه.
السّديّ: الزبور.
مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
الخامسة: قوله تعالى: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} اختلف في معنى {لاَّ يَمَسُّهُ} هل هو حقيقة في المسّ بالجارحة أو معنًى؟ وكذلك اختلف في {الْمُطَهَّروُنَ} من هم؟ فقال أنس وسعيد بن جُبير: لا يمسّ ذلك الكتاب إلا المطهَّرون من الذنوب وهم الملائكة.