فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكذا قال أبو العالية وابن زيد: إنهم الذين طُهِّروا من الذنوب كالرسل من الملائكة والرسل من بني آدم؛ فجبريل النازل به مُطهَّر، والرسل الذين يجيئهم بذلك مُطهَّرون.
الكلبيّ: هم السَّفَرة الكرام البرَرَة.
وهذا كله قول واحد، وهو نحو ما اختاره مالك حيث قال: أحسن ما سمعت في قوله: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} أنها بمنزلة الآية التي في {عَبَسَ وَتَوَلَّى}: {فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ} [عبس: 12-16] يريد أن المطهَّرين هم الملائكة الذين وصفوا بالطهارة في سورة {عبس}.
وقيل: معنى {لاَ يَمَسُّهُ} لا ينزل به {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} أي الرسل من الملائكة على الرسل من الأنبياء.
وقيل: لا يمسّ اللوح المحفوظ الذي هو الكتاب المكنون إلا الملائكة المطهرّون.
وقيل: إن إسرافيل هو الموكّل بذلك؛ حكاه القشيري.
ابن العربي: وهذا باطل لأن الملائكة لا تناله في وقت ولا تصل إليه بحال، ولو كان المراد به ذلك لما كان للاستثناء فيه مجال.
وأما من قال: إنه الذي بأيدي الملائكة في الصحف فهو قول محتمل؛ وهو اختيار مالك.
وقيل: المراد بالكتاب المصحف الذي بأيدينا؛ وهو الأظهر.
وقد روى مالك وغيره أن في كتاب عمرو بن حزم الذي كتبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم ونسخته: (من محمد النبيّ إلى شُرَحْبيل بن عبد كُلاَل والحرث بن عبد كُلاَل ونُعَيْم بن عبد كُلاَل قَيْل ذي رُعَين ومَعَافر وهَمْدان أما بعد) وكان في كتابه: ألا يمسّ القرآن إلا طاهر.
وقال ابن عمر: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «لا تمسّ القرآن إلا وأنت طاهر» وقالت أخت عمر لعمر عند إسلامه وقد دخل عليها ودعا بالصحيفة: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} فقام واغتسل وأسلم.
وقد مضى في أول سورة (طه).
وعلى هذا المعنى قال قتادة وغيره: {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} من الأحداث والأنجاس.
الكلبي: من الشرك.
الربيع بن أنس: من الذنوب والخطايا.
وقيل: معنى {لاَّ يَمَسُّهُ} لا يقرؤه {إِلاَّ المطهرون} إلا الموحِّدون؛ قاله محمد بن فضيل وعبدة.
قال عِكرمة: كان ابن عباس ينهى أن يُمكَّن أحد من اليهود والنصارى من قراءة القرآن.
وقال الفراء: لا يجد طعمَه ونفعَه وبركته إلا المطهرون؛ أي المؤمنون بالقرآن.
ابن العربي: وهو اختيار البخاريّ؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيَّا» وقال الحسين بن الفضل: لا يعرف تفسيره وتأويله إلا من طهَّره الله من الشرك والنفاق.
وقال أبو بكر الورّاق: لا يوفق للعمل به إلا السّعداء.
وقيل: المعنى لا يمسّ ثوابه إلا المؤمنون.
ورواه معاذ عن النبيّ صلى الله عليه وسلم.
ثم قيل: ظاهر الآية خبر عن الشرع؛ أي لا يمسّه إلا المطهّرون شرعًا، فإن وجد خلاف ذلك فهو غير الشرع؛ وهذا اختيار القاضي أبي بكر بن العربي.
وأبطل أن يكون لفظه لفظ الخبر ومعناه الأمر.
وقد مضى هذا المعنى في سورة (البقرة).
المهدويّ: يجوز أن يكون أمرًا وتكون ضمة السين ضمة إعراب.
ويجوز أن يكون نهيًا وتكون ضمة السين ضمة بناء والفعل مجزوم.
السادسة: واختلف العلماء في مسّ المصحف على غير وضوء؛ فالجمهور على المنع من مسّه لحديث عمرو بن حزم.
وهو مذهب عليّ وابن مسعود وسعد بن أبي وقّاص وسعيد بن زيد وعطاء والزّهري والنَّخعيّ والحكم وحمّاد، وجماعة من الفقهاء منهم مالك والشافعي.
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة؛ فروي عنه أنه يمسّه المحدِث، وقد روي هذا عن جماعة من السَّلف منهم ابن عباس والشعبي وغيرهما.
وروي عنه أنه يمسّ ظاهره وحواشيه وما لا مكتوب فيه، وأما الكتاب فلا يمّسه إلا طاهر.
ابن العربي: وهذا إن سلَّمه مما يقوي الحجة عليه؛ لأن حريم الممنوع ممنوع.
وفيما كتبه النبيّ صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم أقوى دليل عليه.
وقال مالك: لا يحمله غير طاهر بِعلاَقة ولا على وِسادة.
وقال أبو حنيفة: لا بأس بذلك.
ولم يمنع من حَمْله بِعلاَقة أو مسّه بحائل.
وقد روي عن الحكم وحماد وداود بن عليّ أنه لا بأس بحمله ومسّه للمسلم والكافر طاهرًا أو محدِثًا، إلا أن داود قال: لا يجوز للمشرك حمله.
واحتجوا في إباحة ذلك بكتاب النبيّ صلى الله عليه وسلم إلى قيصر، وهو موضع ضرورة فلا حجة فيه.
وفي مس الصبيان إياه على وجهين: أحدهما المنع اعتبارا بالبالغ.
والثاني الجواز؛ لأنه لو منع لم يحفظ القرآن؛ لأنّ تعلمه حال الصغر؛ ولأن الصبيّ وإن كانت له طهارة إلا أنها ليست بكاملة؛ لأن النية لا تصح منه، فإذا جاز أن يحمله على غير طهارة كاملة جاز أن يحمله محدِثًا.
السابعة: قوله تعالى: {تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين} أي منزل؛ كقولهم: ضَرْبُ الأميرِ ونَسْج اليمنِ.
وقيل: {تَنزِيلٌ} صفة لقوله تعالى: {إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ}.
وقيل: أي هو تنزيل. اهـ.

.قال الألوسي:

وأقبل على إنذارهم بالقرآن والاحتجاج عليهم به بعد الاحتجاج بما ذكرنا فأقسم أنه لقرآن كيت وكيت فلا في قوله عز وجل: {فَلاَ أُقْسِمُ} مزيدة للتأكيد مثلها في قوله تعالى: {لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} [الحديد: 29] أو هي لام القسم أشبعت فتحتها فتولدت منها ألف نظير ما في قوله:
أعوذ بالله من العقارب

واختاره أبو حيان ثم قال: وهو وإن كان قليلًا فقد جاء نظيره في قوله تعالى: {فاجعل أَفْئِدَةً مّنَ الناس تَهْوِى إِلَيْهِمْ} [إبراهيم: 37] بياء بعد الهمزة وذلك في قراءة هشام ويؤيد قراءة الحسن، وعيسى، فلا قسم وهو مبني على ما ذهب إليه تبعًا لبعض النحويين من أن فعل الحال يجوز القسم عليه فيقال: والله تعالى ليخرج زيد وعليه قول الشاعر:
ليعلم ربي أن بيتي واسع

وحينئذ لا يصح أن يقرن الفعل بالنون المؤكدة لأنها تخلصه للاستقبال خلاف المراد، والذي اختاره ابن عصفور والبصريون أن فعل الحال كما هنا لا يجوز أن يقسم عليه ومتى أريد من الفعل الاستقبال لزمت فيه النون المؤكدة فقيل: لأقسمن وحذفها ضعيف جدًا، ومن هنا خرجوا قراءة الحسن وعيسى على أن اللام لام الابتداء والمبتدا محذوف لأنها لا تدخل على الفعل والتقدير فلأنا أقسم، وقيل: نحوه في قراءة الجمهور على أن الألف قد تولدت من الاشباع، وتعقب بأن المبتدا إذا دخل عليه لام الابتداء يمتنع أو يقبح حذفه لأن دخولها لتأكيده وهو يقتضي الاعتناء به وحذفه يدل على خلافه.
وقال سعيد بن جبير وبعض النحاة: لا نفي وردّ لما يقوله الكفار في القرآن من أنه سحر وشعر وكهانة كأنه قيل: فلا صحة لما يقولون فيه ثم استؤنف فقيل: {أُقْسِمُ} الخ، وتعقبه أبو حيان بأنه لا يجوز لما فيه من حذف اسم لا وخبرها في غير جواب سؤال نحو لا في جواب هل من رجل في الدار، وقيل: الأولى فيما إذا قصد بلا نفي لمحذوف واستئناف لما بعدها في اللفظ الإتيان بالواو نحو لا وأطال الله تعالى بقاءك، وقال: بعضهم إن لا كثيرًا ما يؤتى بها قبل القسم على نحو الاستفتاح كما في قوله:
لا وأبيك ابنة العامري ** لا يدّعي القوم إني أفرّ

وقال أبو مسلم وجمع: إن الكلام على ظاهره المتبادر منه، والمعنى لا أقسم إذ الأمر أوضح من أن يحتاج إلى قسم أي لا يحتاج إلى قسم مّا فضلًا عن أن هذا القسم العظيم، فقول مفتي الديار الرومية أنه يأباه تعيين المقسم به وتفخيمه ناشيء عن الغفلة على ما لا يخفى على فطن {بمواقع النجوم} أي بمساقط كواكب السماء ومغاربها كما جاء في رواية عن قتادة والحسن على أن الوقوع بمعنى السقوط والغروب وتخصيصها بالقسم لما في غروبها من زوال أثرها، والدلالة على وجود مؤثر دائم لا يتغير، ولذا استدل الخليل عليه السلام بالأفول على وجود الصانع جل وعلا، أو لأن ذلك وقت قيام المتهدين والمبتهلين إليه تعالى وأوان نزول الرحمة والرضوان عليهم.
وقد أخرج البخاري، ومسلم عن أبي هريرة مرفوعًا «ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الآخر فيقول من يدعوني فأستجيب له من يسألني فأعطيه من يستغفرني فأغفر له» وعن الحسن أيضًا المراد مواقعها عند الانكدار يوم القيامة قيل: وموقع عليه مصدر ميمي أو اسم زمان ولعل وقوعها ذلك اليوم ليس دفعة واحدة والتخصيص لما في ذلك من ظهور عظمته عز وجل وتحقق ما ينكره الكفار من البعث، وعن أبي جعفر وأبي عبد الله على آبائهما وعليهما السلام المراد مواقعها عند الانقضاض إثر المسترقين السمع من الشياطين، وقد مرّ لك تحقيق أمر هذا الانقضاض فلا تغفل، وقيل: مواقع النجوم هي الأنواء التي يزعم الجاهلية أنهم يمطرون بها، ولعله مأخوذ من بعض الآثار الواردة في سبب النزول وسنذكره إن شاء الله تعالى وليس نصًا في إرادة الأنواء بل يجوز عليه أن يراد المغارب مطلقًا.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير عن قتادة أنها منازلها ومجاريها على أن الوقوع النزول كما يقال: على الخبير سقطت وهو شائع والتخصيص لأن له تعالى في ذلك من الدليل على عظيم قدرته وكمال حكمته ما لا يحيط به نطاق البيان، وقال جماعة منهم ابن عباس: النجوم نجوم القرآن ومواقعها أوقات نزولها.
وأخرج النسائي، وابن جرير، والحاكم وصححه والبيهقي في (الشعب) عنه أن قال: «أنزل القرآن في ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا جملة واحدة ثم فرق في السنين» وفي لفظ «ثم نزل من السماء الدنيا إلى الأرض نجومًا ثم قرأ فلا أقسم بمواقع النجوم» وأيد هذا القول بأن الضمير في قوله تعالى بعد: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ} يعود حينئذٍ على ما يفهم من مواقع النجوم حتى يكاد يعدّ كالمذكور صريحًا ولا يحتاج إلى أن يقال يفسره السياق كما في سائر الأقوال، ووجه التخصيص أظهر من أن يخفى، ولعل الكلام عليه من باب:
وثناياك إنها إغريض

وقرأ ابن عباس، وأهل المدينة، وحمزة، والكسائي {بمواقع} مفردًا مرادًا به الجمع.
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} مشتمل على اعتراض في ضمن آخر فقوله تعالى: {أَنَّهُ لَقَسَمٌ} {عظِيمٌ} معترض بين القسم والمقسم عليه وهو قوله سبحانه: {إِنَّهُ لَقُرْءانٌ كَرِيمٌ} وهو تعظيم للقسم مقرر مؤكد له، وقوله عز وجل: {لَّوْ تَعْلَمُونَ} معترض بين الصفة والموصوف وهو تأكيد لذلك التعظيم وجواب {لَوْ} إما متروك أريد به نفي علمهم أو محذوف ثقة بظهوره أي لعظمتموه أو لعملتم بموجبه، ووجه كون ذلك القسم عظيمًا قد أشير إليه فيما مر، أو هو ظاهر بناءًا على أن المراد {بمواقع النجوم} [الواقعة: 75] ما روي عن ابن عباس والجماعة، ومعنى كون القرآن كريمًا أنه حسن مرضي في جنسه من الكتب أو نفاع جم المنافع، وكيف لا وقد اشتمل على أصول العلوم المهمة في إصلاح المعاش، والمعاد، والكرم على هذا مستعار كما قال الطيبي من الكرم المعروف.
وقيل: الكرم أعم من كثرة البذل والإحسان والاتصاف بما يحمد من الأوصاف ككثرة النفع فإنه وصف محمود فكونه كرمًا حقيقة، وجوز أن يراد كريم على الله تعالى قيل: وهو يرجع لما تقدم، وفيه تقدير من غير حاجة وأيًا مّا كان فمحط الفائدة الوصف المذكور قيل: إن مرجع الضمير هو القرآن لا من حيث عنوان كونه قرآنا فبمجرد الإخبار عنه بأنه قرآن تحصل الفائدة أي إنه لمقروء على نلا أنه أنشأه كما زعمه الكفار، وقوله تعالى: {فِي كتاب مَّكْنُونٌ} وصف آخر للقرآن أي كائن في كتاب مصون عن غير المقربين من الملائكة عليهم السلام لا يطلع عليه من سواهم، فالمراد به اللوح المحفوظ كما روي عن الربيع بن أنس وغيره، وقيل: أي في كتاب مصون عن التبديل والتغيير وهو المصحف الذي بأيدي المسلمين ويتضمن ذلك الإخبار بالغيب لأنه لم يكن إذ ذاك مصاحف، وأخرج عبد بن حميد وابن جرير عن عكرمة أنه قال: في كتاب أي التوراة والإنجيل، وحكي ذلك في (البحر) ثم قال: كأنه قال: ذكر في كتاب مكنون كرمه وشرفه، فالمعنى على هذا الاستشهاد بالكتب المنزلة. انتهى.