فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالأقسام هنا ـ كما ترى ـ واقعة على أحوال الإنسان، وتنقله من حال إلى حال، ومن وجود إلى وجود، أو على قدرة اللّه سبحانه وتعالى، على بعث الموتى من القبور، وعلى إعادة هذه العظام البالية، وإلباسها لباس الحياة من جديد، أو على قول اللّه سبحانه، وما تحمل كلماته من أخبار صادقة، محققة الوقوع..
وهذه كلها أمور لا تحتاج إلى قسم، وفى القسم لها ـ كما قلنا ـ تشكيك فيها، وفتح لباب الجدل والمماراة في شأنها..
أما هذا التلويح بتلك الأقسام، فيما يبدو من نفى القسم ـ فهو وضع الأمر المقسم عليه في ضمانة حقيقة من الحقائق الكبرى، حيث يعتدل ميزانه مع ميزانها في مقام الإعظام والإجلال، بمعنى أنه لو احتاج هذا الأمر إلى قسم لما أقسم له إلا بهذه الحقائق العظيمة الجليلة، المناسبة لعظمته وجلاله.. فإن العظائم كفؤها العظماء، كما يقولون.
ومواقع النجوم، التي يلوّح بالقسم بها، قد تكون أفلاكها التي تدور فيها، وقد تكون منازلها التي تأخذها من النظام العام للفلك.. وعلى أي فإن النجوم حيث تكون هي كائنات عظيمة، وأن أي نجم منها ـ على ما يبدو من صغره ـ هو أكبر من شمسنا التي هي أقرب النجوم إلينا، والتي يبلغ حجمها مليونا وربع مليون من حجم الأرض! ولم يقع التلويح بالقسم على النجوم، بل على مواقعها، لأن مواقعها تشير إلى أكثر من أمر.. تشير إلى هذا البعد الشاسع الذي بيننا وبينها، والذي تبلغ المسافة فيه بيننا وبين بعضها ملايين السنين الضوئية!! وتشير هذه المواقع إلى المسافات التي بين هذه النجوم التي يبدو لنا بعضها مجاورا البعض.. فهذه المسافات التي تبدو متقاربة، هي في الواقع ملايين من السنين الضوئية كذلك..
كما تشير هذه المواقع إلى أن النجوم ليست على علو واحد كما يبدو، وإنما هي في أفلاك بعضها فوق بعض..
وعلى هذا، فإن النظر إلى مواقع النجوم يكشف عن النجوم نفسها، كما يكشف عن هذه العوالم الرحيبة التي تسبح فيها، تلك العوالم التي إن أمكن ضبطها بالأرقام العددية، وبالصور الحسابية، فإن الخيال لا يتسع لتصور أفق واحد من آفاق تلك العوالم التي تسبح فيها النجوم.
قوله تعالى: {إِنَّهُ لقرآن كَرِيمٌ فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ}.
هذا هو الأمر الذي لا يحتاج إلى قسم، وتلك هي الحقيقة التي لا تحتاج إلى تبرير وتوكيد..
فهذا الذي يتلوه النبي على الناس، هو قرآن كريم، في كتاب مكنون أي محفوظ، عند اللّه سبحانه، وإنه ـ لمقامه العظيم ـ لا يدنو منه، ولا يطوف بحماه، إلا المطهرون من عباد اللّه، من ملائكة، أو بشر. وفى وصف القرآن بالكرم، إشارة إلى ما ينال الذين يمدون أيديهم إليه من عطايا ومنن به.
ومعنى المس للقرآن الكريم هنا ـ واللّه أعلم ـ هو التلبّس به، والمباشرة له، والإفادة منه.. فمن مسّ هذا القرآن الكريم وطاف بحماه ملتمسا الهدى منه ـ وجب أن يكون على صفة تناسب هذا القرآن، من الطهارة، والكرم، والنقاء. فمن كان طاهرا، لم يجد معاناة في الامتزاج والتجاوب معه، سواء كان طاهرا بالقوة والفعل كالملائكة، أم كان طاهرا بالقوة، كمن كان في الناس سليم الفطرة، معافى من الآفات التي تعرض لهذه الفطرة، فتفسدها، وتحول بينها وبين تقبّل الخير، والتجاوب معه، فمن كان من الناس ذا فطرة سليمة، قرب من هذا القرآن، واتصل به، وأصاب من خيره، فطهر من دنس الشرك، والكفر.. وكان من المؤمنين الطاهرين..
فالمسّ هنا، ليس لمس المصحف باليد، كما يذهب إلى ذلك كثير من المفسرين، الذين اشتد خلافهم حول الحال التي يكون عليها من يمس المصحف، وهل ينبغى أن يكون على طهارة مطلقة من الحدثين الأصغر والأكبر، وهل ذلك على سبيل الاستحباب والندب، أم أنه على سبيلى الوجوب والحتم.!!
وإنما المسّ الذي تشير إليه الآية الكريمة ـ واللّه أعلم ـ مسّ كلمات اللّه ومخالطتها للقلوب والعقول، ذلك المس الذي يتأثر به الماسّ، فيجد من أثر هذا المسّ في كيانه، ما يجد ـ على بعد ما بين المشبه والمشبه به ـ من مسّ طيبا أو نحوه، مما تطيب به النفوس، وتستروح الأرواح.. وكما أن كثيرا من النفوس تختنق بالريح الطيب، أو تنفر منه، فكذلك كثير من النفوس ما تتأذى بكلمات اللّه، وتنفر من سماعها، فلا تسمح لها بأن تنفذ إلى مشاعرها ووجداناتها، بلى تجعل أصابعها في آذانها، كما يجعل من يتأذى بالطيب أصبعيه على أنفه!!.
ويرى {ابن قيّم الجوزيّة} أن المراد بالكتاب المكنون، هو الصحف التي بأيدى الملائكة.. ويعلل لذلك بوجوه:
منها: أنه وصفه ـ أي اللّه ـ بأنه مكنون، والمكنون: المستور عن العيون، وهذا إنما في الصحف التي بأيدى الملائكة..
ومنها: أنه قال: {لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ} وهم الملائكة، ولو أراد المؤمنين المتوضئين لقالى: لا يمسه إلا المتطهرون... فالملائكة مطهّرون، والمؤمنون المتوضئون متطهرون.
ومنها: أن هذا إخبار، ولو كان نهيا لقال: لا يمسسه، بالجزم... ومنها: أن هذا رد على من قال إن الشيطان جاء بهذا القرآن، فأخبر تعالى أنه في كتاب مكنون لا تناله الشياطين، ولا وصول لها إليه، كما قال في {آية الشعراء}: {وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ} [210 ـ 212] وإنما تناله الأرواح المطهرة، وهم الملائكة..
ومنها: أن هذا نظير قوله تعالى: {مَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرامٍ بَرَرَةٍ} (12 ـ 16: عبس)..
ومنها: أن الآية مكية، في سورة مكية، تتضمن تقرير التوحيد، والنبوة والمعاد، وإثبات الصانع، والردّ على الكفار، وهذا المعنى أليق بالمقصود، من فرع عملىّ، وهو حكم مس المحدث المصحف.
هذا، ويتسع معنى {المطهّرين} التطهر عند لمس المصحف، وعند التلاوة منه، فهذا ـ وإن لم يمكن على سبيل الإلزام ـ أدب مع كتاب اللّه، وتوفير لكل ما يتصل به. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75)}.
تفريع على جملة {قل إن الأولين والأخرين لمجموعون} [الواقعة: 49، 50] يُعرِب عن خطاب من الله تعالى موجه إلى المكذبين بالبعث القائلين: {أإذا متنا وكنا ترابًا وعظامًا إنّا لمبعوثون} [الواقعة: 47]، انتقل به إلى التنويه بالقرآن لأنهم لما كذبوا بالبعث وكان إثباتُ البعث من أهم ما جاء به القرآن وكان مما أغراهُم بتكذيب القرآن اشتمالُه على إثبات البعث الذي عَدُّوه محالًا، زيادة على تكذيبهم به في غير ذلك مما جاء به من إبطال شركهم وأكاذيبهم، فلما قامت الحجة على خطئهم في تكذيبهم، فقد تبين صدق ما أنبأهم به القرآن فثبت صدقه ولذلك تهيّأ المقام للتنويه بشأنه.
والفاء لتفريع القَسم على ما سبق من أدلة وقوع البعث فإن قوله: {قل إن الأولين والأخرين لمجموعون} [الواقعة: 49، 50]، إخبار بيوم البعث وإنذار لهم به وهم قد أنكروه، ولأجل استحالته في نظرهم القاصر كذبوا القرآن وكذّبوا من جاء به، ففرع على تحقيق وقوع البعث والإِنذار به تحقيق أن القرآن منزه عن النقائص وأنه تنزيل من الله وأن الذي جاء به مبلغ عن الله.
فتفريع القسم تفريع معنويُّ باعتبار المقسم عليه، وهو أيضًا تفريع ذِكري باعتبار إنشاء القسم إن قالوا لكم: أقسم بمواقع النجوم.
وقد جاء تفريع القَسم على ما قبله بالفاء تفريعًا في مجرد الذكر في قول زهير:
فأقسمت بالبيت الذي طَافَ حوله ** رجال بَنَوْه من قريش وجُرهم

عقب أبيات النسِيب من معلَّقته، وليس بين النسيب وبين ما تفرع عنه من القسم مناسبة وإنما أراد أن ما بعد الفاء هو المقصود من القصيد، وإنما قدم له النسيب تنشيطًا للسامع وبذلك يظهر البَون في النظم بين الآية وبين بيت زهير.
و {لا أقسم} بمعنى: أقسم، و(لا) مزيدة للتوكيد، وأصلها نافية تدل على أن القائل لا يقدم على القسم بما أقسم به خشية سوء عاقبة الكذب في القسم.
وبمعنى أنه غير محتاج إلى القسم لأن الأمر واضح الثبوت، ثم كثر هذا الاستعمال فصار مرادًا تأكيد الخبر فساوى القسم بدليل قوله عقبه: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}، وهذا الوجه الثاني هو الأنسب بما وقع من مثله في القرآن.
وعلى الوجهين فهو إدماج للتنويه بشأن ما لو كان مُقسِمًا لأقسم به.
وعلى الوجه الثاني يكون قوله: {وإنه لقسم} بمعنى: وإن المذكور لشيء عظيم يُقسم به المقسمون، فإطلاق قسم عليه من إطلاق المصدر وإرادة المفعول كالخلق بمعنى المخلوق.
وعن سعيد بن جبير وبعض المفسرين: أنهم جعلوا (لا) حرفًا مستقلًا عن فعل {أقسم} واقعًا جوابًا لكلام مقدر يدل عليه بعده من قوله: {إنه لقرآن كريم} ردًّا على أقوالهم في القرآن أنه شعر، أو سحر، أو أساطير الأولين، أو قول كاهن، وجعلوا قوله: {أقسم} استئنافًا.
وعليه بمعنى الكلام مع فاء التفريع أنه تفرع على ما سَطع من أدلة إمكان البعث ما يبطل قولكم في القرآن فهو ليس كما تزعمون بل هو قرآن كريم إلخ.
و {مواقع النجوم} جمع موقع يجوز أن يكون مكان الوقوع، أي محالُّ وقوعها من ثوابت وسيارة.
والوقوع يطلق على السقوط، أي الهوى، فمواقع النجوم مواضع غُروبها فيكون في معنى قوله تعالى: {والنجم إذا هوى} [النجم: 1] والقسم بذلك مما شمله قوله تعالى: {فلا أقسم برب المشارق والمغارب} [المعارج: 40].
وجعل {مواقع النجوم} بهذا المعنى مقسمًا به لأن تلك المساقط في حال سقوط النجوم عندها تذكِّر بالنظام البديع المجعول لسير الكواكب كلَّ ليلة لا يختل ولا يتخلف، وتذكِّر بعظمة الكواكب وبتداولها خِلفة بعد أخرى، وذلك أمر عظيم يحق القسم به الراجع إلى القسم بمُبدعه.
ويطلق الوقوع على الحلول في المكان، يقال: وقعت الإِبل، إذا بركت، ووقعت الغنم في مرابضها، ومنه جاء اسم الواقعة للحادثة كما تقدم، فالمواقع: محالُّ وقوعها وخطوط سيرها فيكون قريبًا من قوله: {والسماء ذات البروج} [البروج: 1].
والمواقع هي: أفلاك النجوم المضبوطة السير في أفق السماء، وكذلك بروجها ومنازلها.
وذكر (مواقع النجوم) على كلا المعنيين تنويه بها وتعظيم لأمرها لدلالة أحوالها على دقائق حكمة الله تعالى في نظام سيرها وبدائع قدرته على تسخيرها.
ويجوز أن يكون (مواقع) جمع موقع المصدر الميمي للوقوع.
ومن المفسرين من تأول النجوم أنها جمع نجم وهو القِسط الشيء من مال وغيره كما يقال: نجومُ الديات والغرامات وجعلوا النجوم، أي الطوائف من الآيات التي تنزل من القرآن وهو عن ابن عباس وعكرمة فيؤول إلى القسم بالقرآن على حقيقته على نحو ما تقدم في قوله تعالى: {والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيًا} [الزخرف: 2، 3].
وجملة {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} معترضة بين القسم وجوابه.
وضمير {إنه} عائد إلى القَسم المذكور في {لا أقسم بمواقع النجوم}، أو عائدًا إلى مواقع النجوم بتأويله بالمذكور فيكون قسم بمعنى مقسم به كما علمت آنفًا.
ويجوز أن يعود إلى المقسم عليه وهو ما تضمنه جواب القسم من قوله: {إنه لقرآن كريم}.
وجملة {لو تعلمون} معترضة بين الموصوف وصفته وهي اعتراض في اعتراض.
والعلْمُ الذي اقتضى شرطُ {لو} الامتناعية عدمَ حصوله لهم إن جعلت ضمير {إنه} عائدًا على القسم هو العِلم التفصيلي بأحوال مواقع النجوم، فإن المشركين لا يخلون من علم إجمالي متفاوت بأن في تلك المواقع عبرة للناظرين، أو نُزّل ذلك العلم الإجمالي منزلة العدم لأنهم بكفرهم لم يجروا على موجَب ذلك العلم من توحيد الله فلو علِموا ما اشتملت عليه أحوال مواقع النجوم من متعلقات صفات الله تعالى لعلموا أنها مواقع قدسية لا يَحْلف بها إلا بارٌّ في يمينه ولكنهم بمعزل عن هذا العلم، فإن جلالة المقسم به مما يزع الحالف عن الكذب في يمينه.