فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي الموطأ عن زيد بن خالد الجُهَنيّ أنه قال: صلىّ بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحُدَيْبِية على إثرِ سماء كانت من الليل، فلما انصرف أَقْبَلَ على الناس وقال: «أتدرون ماذا قال ربكم» قالوا: الله ورسوله أعلم؛ قال: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بالكوكب فأما من قال مُطِرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب وأما من قال مُطِرنا بنَوْء كذا وكذا فذلك مؤمن بالكوكب كافر بي».
قال الشافعي رحمه الله: لا أحبّ أحدًا أن يقول مُطِرنا بنَوْء كذا وكذا، وإن كان النَّوْء عندنا الوقت المخلوق لا يضر ولا ينفع، ولا يمطر ولا يحبس شيئًا من المطر، والذي أحبّ أن يقول: مُطِرنا وقت كذا كما تقول مُطِرنا شهر كذا، ومن قال: مُطِرنا بنَوْء كذا، وهو يريد أن النَّوْء أنزل الماء، كما عنى بعض أهل الشرك من الجاهلية بقوله فهو كافر، حلال دمه إن لم يتب.
وقال أبو عمر بن عبد البر: وأما قوله عليه الصلاة والسلام حاكيًا عن الله سبحانه: «أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر» فمعناه عندي على وجهين: أما أحدهما فإن المعتقِد بأن النَّوْء هو الموجب لنزول الماء، وهو المنشىء للسحاب دون الله عز وجل فذلك كافر كفرًا صريحًا يجب استتابته عليه وقتله إن أبى لنبذه الإسلام ورده القرآن.
والوجه الآخر أن يعتقد أن النَّوْء يُنزِل الله به الماءَ، وأنه سبب الماء على ما قدّره الله وسبق في علمه؛ وهذا وإن كان وجهًا مباحًا، فإن فيه أيضًا كفرًا بنعمة الله عز وجل، وجهلًا بلطيف حكمته في أنه ينزل الماء متى شاء، مرة بنَوْء كذا، ومرة بَنْوء كذا، وكثيرًا ما ينوء النَّوْء فلا ينزل معه شيء من الماء، وذلك من الله تعالى لا من النَّوْء.
وكذلك كان أبو هريرة يقول إذا أصبح وقد مُطِر: مطِرنا بنَوْء الفتح؛ ثم يتلو: {مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا} [فاطر: 2] قال أبو عمر: وهذا عندي نحو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مُطِرنا بفضل الله ورحمته» ومن هذا الباب قول عمر بن الخطاب للعباس بن عبد المطلب حين استسقى به: يا عمّ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم كم بقي من نَوْء الثريا؟ فقال العباس: العلماء يزعمون أنها تعترض في الأفق سبعًا بعد سقوطها.
فما مضت سابعة حتى مطروا؛ فقال عمر: الحمد لله هذا بفضل الله ورحمته.
وكأنّ عمر رحمه الله قد علم أن نَوْء الثُّرَيا وقت يُرْجى فيه المطر ويؤمَّل فسأله عنه أخَرج أم بقيت منه بقية؟.
وروى سفيان بن عيينة عن إسماعيل بن أمية أن النبيّ صلى الله عليه وسلم سمع رجلًا في بعض أسفاره يقول: مُطرنا ببعض عَثَانين الأسد؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذبت بل هو سُقْيا الله عز وجل» قال سفيان: عَثَانين الأسد الذراع والجبهة.
وقراءة العامة {تُكَذِّبُونَ} من التكذيب.
وقرأ المفضّل عن عاصم ويحيى بن وَثّاب {تَكْذِبُونَ} بفتح التاء مخففًا.
ومعناه ما قدمناه من قول من قال: مطِرنا بنَوْء كذا.
وثبت من حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاث لن يزلن في أمتي التفاخر في الأحساب والنِّياحة والأَنْواء» ولفظ مسلم في هذا: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهنّ الفخر في الأحساب والطعن في الأنساب والاستسقاء بالنجوم والنياحة».
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} أي فهلا إذا بلغت النفس أو الروح الْحُلْقوم.
ولم يتقدم لها ذكر؛ لأن المعنى معروف؛ قال حاتم:
أَمَاوِيّ ما يُغْنِي الثَّرَاءُ عنِ الفتى ** إذا حَشْرَجَتْ يَوْمًا وضاقَ بِها الصَّدْرُ

وفي حديث: «إنّ مَلَك الموت له أعوان يقطعون العروق ويجمعون الروح شيئًا فشيئًا حتى ينتهي بها إلى الحُلْقوم فيتوفاها مَلَك الموت» {وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ} أمري وسلطاني.
وقيل: تنظرون إلى الميّت لا تقدرون له على شيء.
وقال ابن عباس: يريد من حضر من أهل الميت ينتظرون متى تخرج نفسه.
ثم قيل: هو ردٌّ عليهم في قولهم لإخوانهم {لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ} [آل عمران: 156] أي فهل ردّوا رُوح الواحد منهم إذا بلغت الحلقوم.
وقيل: المعنى فهلاّ إذا بلغت نفس أحدكم الحلقوم عند النزع وأنتم حضور أمسكتم روحه في جسده، مع حرصكم على امتداد عمره، وحبكم لبقائه.
وهذا ردّ لقولهم: {نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر} [الجاثية: 24].
وقيل: هو خطاب لمن هو في النزع؛ أي إن لم يك ما بك من الله فهّلا حفظت على نفسك الروح.
{وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} أي بالقدرة والعلم والرؤية.
قال عامر بن عبد القيس: ما نظرت إلى شيء إلا رأيت الله تعالى أقرب إليّ منه.
وقيل: أراد ورسلنا الذين يتولَّون قبضه {أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ} {ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ} أي لا ترونهم.
قوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أي فهلاّ إن كنتم غير محاسبين ولا مجزيين بأعمالكم؛ ومنه قوله تعالى: {إِنَّا لَمَدِينُونَ} [الصافات: 53] أي مجزيون محاسبون.
وقد تقدم.
وقيل: غير مملوكين ولا مقهورين.
قال الفراء وغيره: دِنْتُه ملكته؛ وأنشد للحطيئة:
لقد دُيِّنْتِ أَمْرَ بَنِيكِ حَتَّى ** تَرَكْتِهمُ أَدَقَّ مِن الطَّحِينِ

يعني مُلِّكْتِ.
ودانه أي أذله واستعبده؛ يقال: دنته فدان.
وقد مضى في (الفاتحة) القول في هذا عند قوله تعالى: {يَوْمِ الدين}.
{تَرْجِعُونَهَآ} ترجعون الروح إلى الجسد.
{إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} أي ولن ترجعوها فبطل زعمكم أنكم غير مملوكين ولا محاسبين.
و {تَرْجِعُونَهَآ} جواب لقوله تعالى: {فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم} ولقوله: {فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ} أجيبا بجواب واحد؛ قاله الفراء.
وربما أعادت العرب الحرفين ومعناهما واحد، ومنه قوله تعالى: {فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [البقرة: 38] أجيبا بجواب واحد وهما شرطان.
وقيل: حذف أحدهما لدلالة الآخر عليه.
وقيل: فيها تقديم وتأخير، مجازها: فلولا وهلاَّ إِن كنتم غير مَدِينِين تَرجِعونها؛ تردُّون نَفْس هذا الميّت إلى جسده إذا بلغت الحلقوم. اهـ.

.قال الألوسي:

{أفبهذا الحديث} أي أتعرضون فبهذا الحديث الذي ذكرت نعوته الجليلة الموجبة لإعظامه وإجلاله والإيمان بما تضمنه وأرشد إليه وهو القرآن الكريم {أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ} متهاونون به كمن يدهن في الأمر أي يلين جانبه ولا يتصلب فيه تهاونًا به، وأصل الإدهان كما قيل: جعل الأديم ونحوه مدهونًا بشيء من الدهن ولما كان ذلك ملينًا لينًا محسوسًا يراد به اللين المعنوي على أنه تجوز به عن مطلق اللين أو استعير له، ولذا سميت المداراة مداهنة وهذا مجاز معروف ولشهرته صار حقيقة عرفية، ولذا تجوز به هنا عن التهاون أيضًا لأن المتهاون بالأمر لا يتصلب فيه.
وعن ابن عباس والزجاج {مُّدْهِنُونَ} أي مكذبون، وتفسيره بذلك لأن التكذيب من فروع التهاون.
وعن مجاهد أي منافقون في التصديق به تقولون للمؤمنين آمنا به وإذا خلوتم إلى إخوانكم قلتم إنا معكم والخطاب عليه للمنافقين وما قدمناه أولى، والخطاب عليه للكفار كما يقتضيه السياق.
وجوز أن يراد بهذا الحديث ما تحدثوا به من قبل في قوله سبحانه: {وَكَانُواْ يِقولونَ أَءذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وعظاما أَءنَّا لَمَبْعُوثُونَ أَوَ ءابَاؤُنَا الاولون} [الواقعة: 47، 48] فالكلام عود إلى ذلك بعد رده كأنه قيل: أفبهذا الحديث الذي تتحدثون به في إنكار البعث أنتم مدهنون أصحابكم أي تعلمون خلافه وتقولونه مداهنة أم أنتم به جاذمون وعلى الإصرار عليه عازمون، ولا يخفى بعده، وفيه مخالفة لسبب النزول وستعلمه قريبًا إن شاء الله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} شكركم {أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا وبنجم كذا وكذا.
أخرج ذلك الإمام أحمد والترمذي وحسنه والضياء في (المختارة) وجماعة عن علي كرم الله تعالى وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم وهو إما إشارة منه عليه الصلاة والسلام إلى أن في الكلام مضافًا مقدرًا أي شكر رزقكم أو إشارة إلى أن الرزق مجاز عن لازمه وهو الشكر، وحكى الهيثم بن عدي أن من لغة ازدشنوءة ما رزق فلان فلانًا بمعنى شكره، ونقل عن الكرماني أنه نقل في (شرح البخاري) أن الرزق من أسماء الشكر واستبعد ذلك ولعله هو ما حكاه الهيثم.
وفي (البحر) وغيره أن عليًا كرم الله تعالى وجهه وابن عباس قرءا {شكركم} بدل {رَزَقَكُمُ} وحمله بعض شراح البخاري على التفسير من غير قصد للتلاوة وهو خلاف الظاهر.
وقد أخرج ابن مردويه عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: قرأ علي كرم الله تعالى وجهه {الواقعة} في الفجر فقال: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} فلما انصرف قال: إني قد عرفت أنه سيقول قائل لِمَ قرأها هكذا إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ كذلك كانوا إذا أمطروا قالوا: أمطرنا بنوء كذا وكذا فأنزل الله تعالى وتجعلون شكركم أنكم إذا مطرتم تكذبون ومعنى جعل شكرهم التكذيب جعل التكذيب مكان الشكر فكأنه عينه عندهم فهو من باب:
تحية بينهم ضرب وجيع

ومنه قول الراجز:
وكان شكر القوم عند المنن ** كي الصحيحات وفقء الأعين

وأكثر الروايات أن قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ} إلخ نزل في القائلين: مطرنا بنوء كذا من غير تعرض لما قبل.
وأخرج مسلم، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن عباس قال: «مطر الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي عليه الصلاة والسلام: أصبح من الناس شاكر ومنهم كافر قالوا: هذه رحمة وضعها الله وقال بعضهم: لقد صدق نوء كذا فنزلت هذه الآية {فَلاَ أُقْسِمُ بمواقع النجوم} حتى بلغ {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذّبُونَ} [الواقعة: 75 82]».
وأخرج نحوه ابن عساكر في تاريخه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وكان ذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن أبي عروة رضي الله تعالى عنه في غزوة تبوك نزلوا الحجر فأمرهم صلى الله عليه وسلم أن لا يحملوا من مائه شيئًا ثم ارتحلوا ونزلوا منزلًا آخر وليس معهم ماء فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقام عليه الصلاة والسلام فصلى ركعتين ثم دعا فأمطروا وسقوا فقال رجل من الأنصار يتهم بالنفاق: إنما مطرنا بنوء كذا فنزل ما نزل، ولعل جمعًا من الكفار قالوا نحو ذلك أيضًا بل هم لم يزالوا يقولون ذلك، والأخبار متضافرة على أن الآية في القائلين بالأنواء، بل قال ابن عطية: أجمع المفسرون على أنها توبيخ لأولئك، وظاهر مقابلة الشكر بالكفر في الحديث السابق أن المراد بالكفر كفران النعمة إذا أضيفت لغير موجدها جل جلاله؛ وقد صح ذكره مع الإيمان.
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي وغيرهم عن زيد بن خالد الجهني قال: «صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت من الليل فلما سلم أقبل علينا فقال: هل تدرون ما قال ربكم في هذه الليلة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم فقال: قال: ما أنعمت على عبادي نعمة إلا أصبح فريق منهم بها كافرين فأما من آمن بي وحمدني على سقياي فذلك الذي آمن بي وكفر بالكوكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك الذي آمن بالكوكب وكفر بي» والآية على القول بنزولها في قائلين ذلك ظاهرة في كفرهم المقابل للإيمان فكأنهم كانوا يقولونه عن اعتقاد أن الكواكب مؤثرة حقيقة موجدة للمطر وهو كفر بلا ريب بخلاف قوله مع اعتقاد أنه من فضل الله تعالى، والنوء ميقات وعلامة له فإنه ليس بكفر، وقيل: تسميته كفرًا لأنه يفضي إليه إذا اعتقد أنه مؤثر حقيقة.