فصل: قال الصابوني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وضمير التأنيث في قوله: {ترجعونها} عائد إلى الروح الدال عليه التاء في قوله: {إذا بلغت الحلقوم}.
ومعنى الاستدراك في {ولكن لا تبصرون} راجع إلى قوله: {ونحن أقرب إليه منكم} لرفع توهم قائل: كيف يكون أقرب إلى المحتضر من العوّاد الحافين حوله وهم يرون شيئًا غيرهم يدفع ذلك بأنهم محجوبون عن رؤية أمر الله تعالى.
وجملة {ولكن لا تبصرون} معترضة، والواو اعتراضية.
ومفعول {تبصرون} محذوف دلّ عليه قوله: {ونحن أقرب إليه}.
ومعنى {مدينين} مُجَازَيْنَ على أعمالكم.
وعلى هذا المعنى حمله جمهور المتقدمين من المفسرين ابن عباس ومجاهد وجابر بن زيد والحسن وقتادة، وعليه جمهور المفسرين من المتأخرين على الإِجمال، وفسره الفراء والزمخشري {مدينين} بمعنى: عبيد لله، من قولهم: دَان السلطان الرعية، إذا ساسهم، أي غير مرْبوبين وهو بعيد عن السياق.
واعلم أن قوله: {إن كنتم غير مدينين} فرض وتقدير فَ {إنْ} فيه بمنزلة (لو)، أي لو كنتم غير مدينين، أي غير مجزيين على الأعمال.
وأسند فعل {إن كنتم غير مدينين} إلى المخاطبين بضمير المخاطبين، دون أن يقول: إن كان الناس غير مدينين لأن المخاطبين هم الذين لأجل إنكارهم البعث سيق هذا الكلام.
والمعنى: لو كنتم أنتم وكان الناس غير مدينين لما أخرجت الأرواح من الأجْساد إذ لا فائدة تحصل من تفريق ذينك الإِلفين لولا غرض ساممٍ، وهو وضع كل روح فيما يليق بها من عالم الخلود جزاء على الأعمال، ولذلك أوثر لفظ {غير مدينين} دون أن يقال: غير مبعوثين، أو غير مُعادين، وإن كان لا يلزم من نفي الإدانة نفي البعث فإنه يجوز أن يكون بعث بلا جزاء لكن ذلك لا يدَعى لأنه عبث.
فقوله: {إن كنتم غير مدينين} إيماء إلى أن الغرض من سوق هذا الدليل إبطال إنكارهم البعث الذي هو لحكمة الجزاء.
ومن مستتبعات هذا الكلام أن يفيد الإيماء إلى حكمة الموت بالنسبة للإنسان لأنه لتخليص الأرواح من هذه الحياة الزائلة المملوءة باطلًا إلى الحياة الأبدية الحق التي تجري فيها أحوال الأرواح على ما يناسب سلوكها في الحياة الدنيا، كما أشار إليه قوله تعالى: {أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون} [المؤمنون: 115] فيقتضي أنه لولا أنكم مدينون لما انتزعنا الأرواح من أجسادها بعد أن جعلناها فيها ولأبقيناها لأن الروح الإنساني ليس كالروح الحيواني، فتكون الآية مشتملة على دليلين: أحدهما بحاقِّ التركيب، والآخر بمستتبعاته التي أومأ إليها قوله: {إن كنتم غير مدينين}.
والغرض الأول هو الذي ذيل بقوله: {إن كنتم صادقين}.
هذا تفسير الآية الذي يحيط بأوفر معانيها دلالة واقتضاء ومستتبعات.
وجعل في (الكشاف) معنى الآية يصب إلى إبطال ما يعتقده الدهريون، أي الذين يقولون {نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر} [الجاثية: 24]، لأنهم نفوا أن يكونوا عبادًا لله.
وجعل معنى {مدينين} مملوكين لله، وبذلك فسره الفراء وقال ابن عطية: إنه أصح ما يقال في معنى اللفظة هنا، ومن عبر بمجازَى أو بمحاسب، فذلك هنا قلق.
وقلت: في كلامه نظر ظاهر.
وجعل الزمخشري تفريعه على ما حكي من كلامهم السابق مبنيًا على أن ما حكي من كلامهم في الأنْواء والتكذيب يفضي إلى مذهب التعطيل، فاستدل عليهم بدليل يقتضي وجود الخالق وهو كله ناء عن معنى الآية لأن الدهرية لا ينتحلها جميع العرب بل هي نحلة طوائف قليلة منهم وناء عن متعارف ألفاظها وعن ترتيب استدلالها. اهـ.

.قال الصابوني في الآيات السابقة:

{فلا أقسم بمواقع النجوم (75) وإنه لقسم لو تعلمون عظيم (76)}.
سورة الواقعة:
[1] حرمة مس المصحف:

.التحليل اللفظي:

{بمواقع النجوم}: المواقع جمع موقع وهو المسقط الذي يسقط فيه الشيء، قال في (اللسان): والموقع والموقوعة: موضع الوقوع، ويقال: وقع الشيء موقعه، ومواقع الغيث: مساقطه.
والمراد بمواقع النجوم: مواضعها ومنازلها من بروجها، فلكل نجم مدار يدور فيه، وموضع لا يتعداه {كل في فلك يسبحون} [الأنبياء: 33].
{مكنون}: المكنون: المستور قال تعالى: {كأمثال اللؤلؤ المكنون} [الواقعة: 23] والمراد أنه مصون مستور عن غير الملائكة المقربين لا يطلع عليه من سواهم، أو مصون محفوظ عن التبديل والتغيير بحفظ الله تعالى له: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [الحجر: 9].
قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ.
وقال مجاهد وقتادة: هو المصحف الذي في أيدينا.
{المطهرون}: الملائكة الأطهار، أو المطهرون من الأحداث، من الجنابة والبول والغائط وأشباهها مما يمنع من الصلاة، والمراد على الثاني أنه لا يمس القرآن إلا طاهر من الجنابة والحدث.
{مدهنون}: متهاونون مكذبون، قال القرطبي: والمدهن الذي ظاهره خلاف باطنه، كأنه شبه بالدهن في سهولة ظاهره ولهذا يقال للرجل المتهاون أو المتلاين في أمر الدين (مداهن) أي أنه يلين جانبه.
قال في (اللسان): والمداهنة والإدهان: المصانعة واللين، وقيل: المداهنة إظهار خلاف ما يضمر.
{بلغت الحلقوم}: أي بلغت النفس أو الروح الحلقوم، ولم يتقدم لها ذكر لدلالة الكلام عليه ولأن المعنى معروف، وأنشدوا في ذلك:
أماوي ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوما وضاق بها الصدر

{وبست الجبال بسا} [الواقعة: 5]: أي محاسبين أو مجزيين بأعمالكم، مأخوذ من دان بمعنى جازى ومنه الحديث الشريف: «اعمل ما شئت كما تدين تدان» أي كما تفعل تجزى.
وقال ابن قتيبة: غير مدينين أي غير مملوكين ولا مقهورين من قولهم: دنت له بالطاعة.
وقال الفراء: دنته أي ملكته وأنشد للحطيئة:
لقد دينت أمر بنيك حتى ** تركتهم أدق من الطحين

{ترجعونهآ}: ترجعون الروح إلى الجسد، والمعنى: إن جحدتم الإله الذي يحاسبكم ويجازيكم فهلا تردون هذه الروح إلى الجسد؟ فإذا لم يمكنكم ذلك فاعلموا أن الأمر بيد الله تعالى.
وجه الارتباط بالآيات السابقة.
ذكر الله سبحانه وتعالى في الآيات السابقة الأدلة والبراهين على (الوحدانية) وعلى البعث والنشور، ثم أعقب ذلك بذكر الأدلة على (النبوة) ومصدر الرسالة، وصدق هذا القرآن الذي نزل على خاتم المرسلين محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فكان معجزة خالدة له على مدى الزمان.
وقد بين تعالى أن هذا القرآن ليس- كما يزعم المشركون- من تأليف محمد صلى الله عليه وسلم وإنما هو تنزيل الحكيم العليم، وقد أقسم على ذلك بهذا القسم العظيم، وهذا هو وجه الارتباط بين الآيات السابقة وبين هذه الآيات الكريمة.

.المعنى الإجمالي:

يقول جل ثناؤه ما معناه: {فلا أقسم بمواقع النجوم} لا أقسم بهذه الأفلاك، لا أقسم بمواضعها ومنازلها، بمداراتها التي تدور فيها، فإن الأمر أوضح وأجلى من أن يحتاج إلى قسم، والقسم بها- لو علمتم- شيء عظيم، لما فيه من الدلائل الباهرة على قدرة خالقها جل وعلا، ومع ذلك أقسم بأن هذا القرآن كتاب كريم، ليس بسحر ولا كهانة، وليس بمفترى، بل هو تنزيل الحكيم العليم، في كتاب مصون عند الله تعالى، محفوظ عن الباطل، محفوظ عن التبديل والتغيير.
وهذا الكتاب العزيز لم تتنزل به الشياطين، فالشياطين لا تمس هذا الكتاب المكنون في علم الله وحفظه، وإنما تنزلت به الملائكة الأطهار، ولا ينبغي أن يمسه إلا من كان مثلهم طاهرا، لأنه كلام رب العزة جل وعلا، ومن تعظيم كلام الله ألا يمسه إلا من كان طاهرا مطهرا.
أفبهذا القرآن- أيها الناس- تكذبون وتكفرون؟ وتجعلون شكر النعم أنكم تنكرون فضل الله المنعم المتفضل عليكم؟ فماذا أنتم فاعلون حين تبلغ الروح الحلقوم، وتقفون في مفرق الطريق المجهول؟
هل تملكون العودة إلى الدنيا أو دفع الموت عنكم؟ أو تستطيعون أن تردوا إلى أحد روحه بعد أن تنفصل عن جسده؟
فلو كنتم غير محاسبين، أو كان الأمر كما تقولون: لا حساب ولا جزاء، ولا بعث ولا نشوز، فأنتم حينئذ طلقاء غير مدينين ولا محاسبين، فدونكم إذن فلترجعوها- وقد بلغت الحلقوم- لتردوها عما هي ذاهبة إليه من حساب وجزاء، وأنتم حولها تنظرون، وملائكتنا أقرب إليها منكم ولكن لا تبصرون، وهي ماضية إلى (الدينونة الكبرى) وأنتم ساكنون عاجزون، وهناك تلقون الجزاء الأوفى من أحكم الحاكمين.

.لطائف التفسير:

اللطيفة الأولى: السر في القسم بمواقع النجوم هو الإشارة إلى عظيم قدرة الله، وكمل حكمته، وبديع صنعه، بما لا يحيط به نطاق البيان، فإن عظمة الصنعة تدل على عظمة الصانع فالسماء بما حوته من شموس وأقمار، أثر من آثار قدرة الله، التي تدل على وجود الخالق، المبدع، الحكيم، وهي آية على الوحدانية كما قال أبو العتاهية:
وفي كل شيء له آية ** تدل على أنه واحد

اللطيفة الثانية: قوله تعالى: {وإنه لقسم لو تعلمون عظيم} جاءت هذه الجملة الاعتراضية (لو تعلمون) بين الصفة والموصوف، وفائدة هذا الاعتراض هي التهويل من شأن القسم، والتنبيه إلى عظمة الكون كما قال تعالى: {لخلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ولكن أكثر الناس لا يعلمون} [غافر: 57].
والمقسم عليه هو (القرآن العظيم) وأصل الكلام: (وإنه لقسم عظيم، إنه لقرآن كريم) فاعترض بين الصفة والموصوف لهذا السر الدقيق.
اللطيفة الثالثة: فإن قيل: أين جواب (لو) في الجملة الاعتراضية؟
نقول: لا جواب لها لأنه أريد به نفي علمهم وكأنه قال: وإنه لقسم ولكن لا تعلمون، أو إنه محذوف ثقة بظهوره أي لو تعلمون حق العلم لعظمتموه، أو لعملتم بموجبه، والفعل المضارع (تعلمون) ليس له مفعول على حد قولهم: فلان يعطي ويمنع، وهو أبلغ وأدخل في الحسن مما لو كان له مفعول فتدبره.
اللطيفة الرابعة: قال الإمام الفخر: رحمه الله في قوله تعالى: {إنه لقرآن كريم}: القرآن مصدر أريد به المفعول وهو المقروء، كما في قوله تعالى: {هذا خلق الله} [لقمان: 11] أي مخلوق الله، ووصفه بالكريم فيه لطيفة، وهي أن الكلام إذا قرئ كثيرا يهون في الأعين، والآذان، ولهذا ترى من قال شيئا في مجلس الملوك، لا يذكره ثانيا، ولو قيل لقائله لم تكرر هذا؟
اللطيفة الخامسة: قوله تعالى: {أفبهذا الحديث أنتم مدهنون} إطلاق الحديث على القرآن الكريم، كثير بمعنى كونه (اسما) لا (وصفا) فإن الحديث اسم لما يتحدث به، وهو وصف يوصف به ما يتجدد، فيقال: أمر حادث، ورسم حديث أي جديد، ويقال: أعجبني حديث فلان بمعنى كلامه، والقرآن قديم له لذة الكلام الجديد، فصح أن يسمى (حديثا).
والإدهان: تليين الكلام لاستمالة السامع، من غير اعتقاد صحة الكلام، كما يقول العدو لعدوه: أنا أدعو لك، وأثني عليك، مداهنة منه وهو كاذب، فصار استعمال المدهن في المكذب من هذا القبيل.