فصل: قال ملا حويش:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ملا حويش:

تفسير سورة الحديد:
عدد 8- 94 – 57.
نزلت بالمدينة بعد الزلزلة.
وهي تسع وعشرون آية، وخمسمائة وأربع وأربعون كلمة، وألفان وأربعمائة وستة وسبعون حرفا.
لا ناسخ ولا منسوخ فيها.
ومثلها في عدد الآي التكوير والفتح.
وتقدم بيان السّور المبدوءة بما بدئت فيه في سورة الأعلى، والتي ختمت به في سورة الواقعة.

.مطلب أنواع التسبيح والقرض الحسن وما نزل في أبي بكر رضي اللّه عنه والفتلة في طريقة المولوية والقرض الحسن:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ.
قال تعالى: {سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2)}.
تقدم تفسير مثلها غير مرة واعلم أن التسبيح أقسام: تسبيح العقلاء وهو تنزيه اللّه تعالى عن كلّ شيء، وعما لا يليق بجنابه وجلاله، وتسبيح النّاميات من ذوات الأرواح قولها بلغتها قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} الآية 45 من سورة الإسراء، فالأول بلسان القال والثاني بلسان الحال، والثالث بلسان الهيئة جلت عظمته، وسيأتي لهذا البحث صلة أول سورة الجمعة الآتية فراجعه.
وهذا المسبح في كلّ لسان قالي أو حالي أو هيئتي {هُوَ الْأَوَّلُ} بلا ابتداء قبل كلّ شيء {وَالْآخِرُ} بلا انتهاء بعد كلّ شيء {وَالظَّاهِرُ} الذي لا يرى في الدّنيا لكمال ظهوره على كلّ شيء، قال الأبوصيري رحمه اللّه:
واختفى منهم على قرب مرآه ** ومن شدة الظّهور الخفاء

{وَالْباطِنُ} في كلّ شيء ولا يدركه شيء {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (3) خفية وجلية جهره وسره كتمه وعلانيته، روى مسلم عن سهل بن أبي صالح قال كان أبو صالح يأمرنا إذا أراد أحدنا أن ينام أن يضطجع على شقه الأيمن ثم يقول اللهم رب السّموات والأرض ورب العرش العظيم ربنا ورب كلّ شيء، أنت الأوّل فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظّاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدّين وأغننا من الفقر وهذا يروى عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم فيستحب لكل أحد قراءته عند النّوم وقراءة آية الكرسي والإخلاص لما فيهما من الحفظ والبركة.
قال تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} راجع الآية 4 من سورة طه في والآية 7 من سورة يونس ج 2 تجد ما يتعلق في بحث العرش والآية 10 من سورة فصلت ج 2 أيضا في بحث الأيام السّتة بصورة مفصلة.
{يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} ويتغلغل فيها من البذور والجذور والقطر والثلج والموتى والكنوز {وَما يَخْرُجُ مِنْها} من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها {وَما يَخْرُجُ مِنْها} من النّبات والمعادن والسّوائل وغيرها {وَما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ} من الأمطار والصّواعق والخير والشّر والأمر والنّهي وغيرها {وَما يَعْرُجُ فِيها} من الملائكة ويصعد إليها من أعمال الخلق ودعواتهم {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ} يكاؤكم ليل نهار صباح مساء أيقاظا ونياما {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} (4) لا يخفى عليه شيء من أعمالكم وأقوالكم ونياتكم {لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ} (5) كلها إن التكرار في جملة السّموات والأرض لكل منها مغزى غير الأوّل ومناسبة ومعنى ظاهرين لمن تدبر {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ} فيدخل أحدهما في الآخر تداخلا ظاهرا غير مرئي محسوسا غير مشهود كالهواء والقوة الكهربائية وحركة الظّل وفلكة المضخات والطّواحين وفلكة المغزل والمهواية حال دورانها وشبهها فإنها كلها موجودة غير مشاهدة {وَهُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ} (6) لا يخفى عليه شيء من دخائلها قال تعالى في 285 من البقرة المارة {وَإِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ} فيا أيها النّاس {آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} إيمانا خالصا {وَأَنْفِقُوا} في سبيله ابتغاء مرضاته {مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} من المال الذي هو بأيديكم لأنه مال اللّه، وقد كان بيد غيركم فأهلكهم ونقله إليكم، فأنتم الآن خلفاء اللّه عمن مضى من قبلكم ووكلاؤه على ما أودعه لديكم، فأنفقوا على من بقي من أبناء جنسكم من عيال اللّه قبل أن يسلبه منكم لأنه مسلوب لا محالة كما قيل:
ويكفيك قول النّاس فيما ملكته ** لقد كان هذا مرة لفلان

وقول الآخر:
وما المال والأهلون إلّا وديعة ** ولا بد يوما أن ترد الودائع

وهذه الآية عامة كغيرها وما قيل إنها نزلت في غزوة ذي العشيرة أي غزوة تبوك فبعيد، لأنها كانت سنة لتسع كما سيأتي بيانها في سورة التوبة إن شاء اللّه {فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} أيها النّاس إيمانا كاملا {وَأَنْفِقُوا} من أموالهم لوجه اللّه على الفقراء والمساكين {لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ} أكبر من كلّ شيء عدا الإيمان الخالص {وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} وتنفقون مما من به عليكم {وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ} وتخلصوا له العبادة، فأي عذر لكم في عدم إجابته {وَقَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ} على الإيمان به ورسله وكتبه والبعث بعد الموت يوم قال {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} واعترفتم له بذلك راجع الآية 171 من الأعراف في، فأوفوا أيها النّاس بعهدكم هذا ولا تنقضوا ميثاق ربكم {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} (8) يوما ما لموجب ما فأحرى بكم أن تؤمنوا حالا إذ قامت الحجج على بعثة رسولكم محمد ووجوده كاف للايمان به وبربه، فلا عذر لمن يريد الإيمان بعد بعثته لدليل آخر لأنه برهان لا مزيد عليه واعلموا أن اللّه الذي أرسله إليكم {هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ} المشار إليه محمد {آياتٍ بَيِّناتٍ} من كلامه القديم الأزلي {لِيُخْرِجَكُمْ} بها إذا اتبعتموها {مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ} من الكفر إلى الإيمان {وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ} (9) ولذلك يحب إيمانكم رأفة بكم لخلاصكم من النّار وإدخالكم الجنّة {وَما لَكُمْ} أيها النّاس وأي عذر يمنعكم {أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} مما خولكم به من النّعم والحبوب والذهب والفضة دون حول منكم ولا قوة، وأي شيء حدا بكم حتى بخلتم بالعفو من أموالكم على إخوانكم وأقاربكم وفقرأئكم ولم تحصلوا على الثواب العظيم عند ربكم في آخرتكم والثناء الجزيل في الدّنيا من أمثالكم قبل أن تموتوا فتحرموا هذا الثناء والثواب، لأنكم لا بد ميتون وتاركون أموالكم ميراثا لغيركم {وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وما فيها لا يأخذ أحد منه شيئا واعلموا يا عباد اللّه أنه {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ} ومن لم ينفق كما لا يستوون عندكم فلا يستوون عند اللّه بل بينهما بون شاسع {مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} الظفر الأوّل الذي هو مبدأ الفتوحات وهو صلح الحديبية الذي رأى المسلمون فيه حيفا وميلا لما فيه من الشّروط المجحفة ولم يعلموا أن عاقبته خير وأن الانفجار لا يحصل إلّا من الضّيق وأن الفرج لا يكون غالبا إلّا بعد الشّدة واليسر بعد العسر ولذلك سماء اللّه فتحا وفيه بشارة إلى فتح مكة له صلى الله عليه وسلم وهو الفتح العظيم، ولهذا قال بعضهم إن هذه الآية تشير إلى فتح مكة اعلموا أنه لا يستوي منكم من قام بالإنفاق {وَقاتَلَ} قبله ممن أنفق وقاتل بعده إذ قد لا تكون حاجة ماسة بعد الفتح بسبب ما يفتحه اللّه عليهم من البلاد ويقيض عليهم من أبواب الرّزق وما يفيضه عليهم من المال بعد ذلك فلم يحتاجوا إليكم {أُولئِكَ} المقاتلون المنفقون حال الضّيق والشّدة والقلة والحاجة {أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا} بعد الظّفر وكثرة المسلمين والمال {وَكُلًّا} من الفريقين {وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى} المنزلة الحسنة التي لا أحسن منها وهي الجنّة ولكنها درجات متفاوتة بحسب الأعمال {وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} (10) نزلت هذه الآية في أبي بكر الصّديق لأنه أول من أسلم وأول من أنفق وأول من ذب عن رسول اللّه بنفسه وماله وأولها في حادثة الغار وآخرها في واقعة تبوك.
روى البغوي بإسناد التغلبي عن ابن عمر قال «كنت عند رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعنده أبو بكر وعليه عباءة قد خللها في صدره بخلال، فنزل جبريل فقال مالي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال فقال أنفق ماله عليّ قبل الفتح، قال فإن اللّه عز وجل يقول اقرأ عليه السلام وقل له أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط يا أبا بكر فقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يا أبا بكر إن اللّه يقرؤك السّلام ويقول لك أراض أنت عني في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال أبو بكر أأسخط على ربي إني على ربي راض إني على ربي راض»، وهنا يقول المولوية إنه رضي اللّه عنه قام وفتل على رجل واحدة فرحا بما سمعه عن ربه ولذلك جعلوا الفتلة بطريقتهم ولكن لم أقف على ما يؤيده.
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} عن طيب نفس.
والمراد في هذا القرض الإنفاق في سبيل اللّه وسمي قرضا ليدل على التزام الجزاء {فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} (11) زيادة على المضاعفة والأجر الكريم المفضي لدخول صاحبه إلى دار الكرامة عند ربه مع الشّهداء والصّالحين.
وأعلم أن القرض لا يكون حسنا إلّا إذا جمع فيه أحد عشر خصلة:
1- أن يكون في المال الحلال.
2- أن يقرضه وهو محتاج إليه على حبه.
3- أن يكون للأحوج.
4- أن يكتمه ولا يتبعه بمن ولا أذى.
5- أن يقصد به وجه اللّه ابتغاء مرضاته.
6 – أن لا يرائي به النّاس ولا يقصد به السّمعة والصّيت.
7 أن يستحقر ما يقرضه للّه مهما كان كثيرا بالنسبة لما أعده اللّه لما بمقابلته من الثواب.
8-أن يكون من أحسن ماله لقوله تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} الآية 92 من آل عمران المارة.
9- أن لا يرى حين تصدق غنى لنفسه وذلا للفقير.
10- أن يكون عن طيب نفس ورغبة فيما أعده اللّه لمثله.
11- أن يحب أن يرزقه اللّه أكثر مما عنده لينفق أكثر مما أنفق.
12- على اللّه أن يتقبلها منه ويثيب عليها ثوابا مضاعفا.
واعلم أن الخلل الذي يحصل في الثلاثة الأوّل لا لعدم ثوابه بل لكونه يكون أقل أجرا لأن من أقرض من أحسن ماله أو أقرض وهو محتاج إليه أو أقرض غير الأحوج فله الجزاء الحسن عند اللّه أيضا لما فيه من قضاء حاجة المستقرض وهو المقصود من القرض قال تعالى أنظر أيها الإنسان {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} يوم القيامة {يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ} على الصّراط المستقيم جزاء أعمالهم الحسنة وتقول لهم الملائكة {بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ} تدخلونها حال كونكم مكرمين {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} وتكونون أبدا {خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} في ذلك اليوم العظيم {يَوْمَ يَقول الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ} لهم من قبل الملائكة {ارْجِعُوا وَراءَكُمْ} لا تدنسوا للمؤمنين ارجعوا إلى الدّنيا واعملوا صالحا ليكون لكم مثل نورهم وهذا على سبيل الهتكم إذ لا سبيل إلى الرّجوع ارجعوا {فَالْتَمِسُوا نُورًا} لأنفسكم فيرجعون إلى الموقف وهو المحل الذي صاحب المؤمنين منه نورهم ليطلبوا مثله وعند وصولهم صد كلّ منهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ} وبين المؤمنين {بِسُورٍ} عظيم بدلالة التنكير فيه وهو لا أعظم منه في الآخرة كما يقولون الآن (سورماجينو) لا أعظم منه في الدّنيا وهو الذي عملته فرنسا وتحصنت به من أعدائها الألمان، وقد بالغوا في تحصينه حتى اتكلوا عليه وهو مهما كان في القوة فلا يشبه أو يقاس بسور الآخرة، لأن هذا قد يأتي يوم ينهار بنفسه أو بقوة الأعداء المحاربين لهم وهم الآن الألمان ولا ندري بعد ذلك من هم، أما ذاك فلأنه من أعمال الآخرة وهي بما فيها باقية ثابتة، وهذا من أعمال الدّنيا وهي بما فيها فانية.
وهذا السّور العظيم {لَهُ بابٌ} عظيم بنسبة عظمه {باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} الجنّة لأنها من رحمة اللّه {وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} (13) النّار لأنها من عذاب اللّه، فلما رأى ذلك المنافقون صاروا {يُنادُونَهُمْ} أي المؤمنين يقولون لهم {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الدّنيا {قالوا بَلى وَلكِنَّكُمْ} أيها المنافقون {فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} فيها بالكفر وتماديتم في الطّغيان {وَتَرَبَّصْتُمْ} تأخرتم عن الإيمان والتوبة {وَارْتَبْتُمْ} في نبوة محمد وكتابه في هذا اليوم {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ} الباطلة التي كنتم تنتظرونها أن تقع بالمؤمنين {حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} (14) الشيطان بخداعه حتى متم على ما كنتم عليه من النّفاق {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} عن أنفسكم مثل الدّنيا إذ يجوز فيها الفداء عن النّفس بالمال، لأن حالة الآخرة غير حالة الدّنيا ولا يقبل منكم الآن إيمان أيضا ولا توبة لفوات وقتهما {وَلا} يقبل أيضا فدية ولا توبة {مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ} أنتم أيها المنافقون والكافرون والمشركون {النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ} جميعا لأنكم في الكفر سواء، وعذابكم مختلف، المنافق أشد من الكافر، والكافر أخف من المشرك، فهي دركات متفاوتة كما أن الجنّة درجات يا لها من درجات متفاوتة أيضا، يقول أهلها حينما يرى أولئك الخبثاء ادخلوها فهي مثواكم {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (15) النار لأهلها، قال تعالى بعد هذا البيان لذي بينه من أحوال أهل الجنّة وأهل النّار {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا} بألسنتهم {أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} المتلو عليهم فيؤمنوا إيمانا حقيقيا خالصا محضا تنشرّ به قلوبهم عن رغبة ويقين، لأن الايمان إذا لم تخالط بشاسته الظّاهرة اعتقادا جازما وإيقانا قلبيا لا يعتد به ولا ينفع به صاحبه لهذا يقول اللّه تعالى أما حان لهم أن يخشعوا لذكري {وَ} يخضعوا إلى {ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} على رسولهم من قبلي بعد ما أرادوا من الآيات البينات الموجبة لخشوعهم وخضوعهم، ألا فلينقادوا ويخبتوا {وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ} إرسال الرّسول إليهم وإنزال الكتاب عليهم وهم اليهود والنّصارى الّذين سوّفوا وأسرفوا {فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ} فيما بينهم وبين أنبيائهم حتى زالت عنهم الرّوعة التي كانوا يجدونها عند سماع تلاوة كتابهم، وقد خلت قلوبهم من الخشوع الذي كانوا يحسون به فاتبعوا الأهواء {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} فلم يبق يؤثر فيها الوعظ ولا التذكير {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} (16) متجاوزون حدود اللّه بسبب تلك القسوة التي ألبست قلوبهم فمنعتها من أن تخضع لسماع ذكر اللّه، فيا أيها النّاس {اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} كما أنه يحيي الإنسان والحيوان بعد الموت فلأن يحيي القلوب التي أماتتها القسوة من باب أولى إذا رجعت إلى اللّه وأنابت إليه {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ} الدالة على ذلك فيما تقدم من الذكر وفصّلنا لكم كيفية إحياء الأرض الميتة بالمطر، وإحياء القلوب بالذكر {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} (17) حكمتنا فتركنون إليها وتعملون بما يفضي إليها، قال الكلبي ومقاتل إن هذه الآية نزلت في المنافقين، وذلك أنهم قالوا لسلمان الفارسي حدثنا في التوراة، فنزل أولا نحن نقص عليك أحسن القصص الآية الثالثة من سورة يوسف ج 2، فكفوا عنه، ثم سألوه ثانيا فأنزل اللّه: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحديث} الآية 23 من الزمر ج 2 أيضا، ثم سألوه ثالثا فنزلت هذه الآية.
قال محمود الآلوسي رحمه اللّه يكاد يصح نزولها في المنافقين، ثم صوّب نزولها في المؤمنين حينما قدموا المدينة وأصابوا لين العيش وفتروا عما كانوا عليه من العبادة، فعوتبوا في هذه الآية على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن.
وعليه يكون نزول هذه الآية بالسنة الأولى من الهجرة، فتكون من أول ما نزل في المدينة، وليس بسديد، لأن أول ما نزل سورة البقرة وبعدها الأنفال فآل عمران فالأحزاب إلخ ما أثبتناه هنا، أو الثالثة عشرة من البعثة التي هي آخر نزول القرآن في مكة فتكون السّورة أو الآية وحدها مكية وليس كذلك لأن السّورة كلها مدنية نزلت في المدينة يوم الثلاثاء في السّنة السّابعة من الهجرة ووضعت في محلها من القرآن بإشارة من الرّسول ودلالة من الأمين جبريل عليهما الصلاة والسّلام وفاقا لما هو عند اللّه في لوحه المحفوظ وعلمه الأزلي، لذلك يبعد الركون إلى ما صوبه الآلوسي رحمه اللّه.