فصل: تفسير الآيات (4- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



الثالث تسبيح في بطون الدياجر، والخلوة: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا}.
الرّابع تسبيح في الابتداءِ، والانتهاءِ، حال العبادة: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ}.
الخامس تسبيح مقترن بالطُّلوع، والغروب لأَجل الشَّهادة {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ}.
السّادس تسبيح دائم لأَجل الرّضا والكرامة {فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى}.
السّابع: تسبيح مقترِن بذكر العظمة: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ}.
الثَّامن: تسبيح بشكر النعمة: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى}.
التَّاسع: تسبيح لطلب المغفرة: {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ} قال صلى الله عليه وسلم: «ما أُوحى إِلىَّ أَن اجمعِ المال وكن من التّاجرين، ولكن أُوحى إِلى أَن سبّح بحمد ربّك وكن من السّاجدين، واعبد ربّك حتى يَأْتيك اليقين».
وأَمّا الأَربعة التي للأَنبياءِ فالأَوّل لزكريّا علامةً على ولادة يحيى: {قال رَبِّ اجْعَلْ لِّي آيَةً} إِلى قوله: {وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ}.
الثاني: في وصيّته لقومه على محافظة وظيفة التسبيح: {فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيًّا}.
الثالث: في موافقة الجبال، والظباءِ، والحيتان، والطيور لداود في التسبيح: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ}.
الرَّابع: في نجاة يونس من ظلمات البحر وبطن الحوت ببركة التسبيح {فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ}.
وأَمّا الثلاثة التي لخواصّ المؤمنين، فالأَوّل في أَمر الله تعالى لهم بالجمع بين الذكر والتسبيح دائمًا: {اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}.
الثاني: في ثناءِ الحقّ تعالى على قوم إِذا ذُكر الله عندهم سجدوا له وسبّحوا: {خَرُّواْ سُجَّدًا وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}.
الثالث: في أُناس يختلُون في المساجد.
ويواظبون على التسبيح والذكر، {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ}.
وأَمّا الثلاثة التي في الحيوانات.
والجمادات، فالأَول: في أَنَّ كلّ نوع من الموجدات مشتغِل بنوع من التسبيحات: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَاكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
الثاني: في أَنَّ الطُّيور في الهواءِ مصطفَّة لأَداءِ وِرْد التسبيح: {وَالطَّيْرُ صَآفَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ}.
الثَّالث: أَنّ حَمَلة العرش والكرسىّ في حال الطواف بالعرش والكرسىّ مستغرقون في التسبيح والاستغفار: {الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ}، {وَتَرَى الْمَلاَئِكَةَ حَآفِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ}.
وأَمّا الستَّة التي للعامّة فالأَوّل: على العموم في تسبيح الحقّ على الإِحياءِ والإِماتة: {سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} إِلى قوله: {يُحْيى وَيُمِيتُ}.
الثاني: في أَنَّ كلّ شيء في تسبيح الحقّ على إِخراج أَهل الكفر، وإِزعاجهم {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ} إِلى قوله: {هُوَ الذي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ}.
الثَّالث: أَنَّ الكلّ في التسبيح، ومَن خالف قوله فعله مستحِقّ للذمّ والشكاية: {سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ} إِلى قوله: {لِمَ تَقولونَ مالاَ تَفْعَلُونَ}.
الرّابع: في أَنَّ الكلّ في التسبيح للقدس والطَّهارة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} إِلى قوله: {المَلِكِ القُدُّوسِ}.
الخامس: في أَنَّ الكلّ في التسبيح على تحسين الخِلْقة والصّورة: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ} إِلى قوله: {وصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ}.
السادس: في الملامة والتعيير من أَصحاب ذلك النسيان بعضِهم لبعض من جهة التقصير في تسبيح الحقّ تعالى: {أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ}.
الحادي والثلاثون: خاصّ بالنبىّ- صلى الله عليه وسلم- في الأَمر بالجمع بين التوكُّل والتسبيح: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ}. اهـ.

.تفسير الآيات (4- 6):

قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الصانع للشيء عالمًا به، دل على علمه وما تقدم من وصفه بقوله: {هو} أي وحده {الذي خلق السماوات} وجمعها لعلم العرب بتعددها {والأرض} أي الجنس الشامل للكل، أفردها لعدم توصلهم إلى العلم بتعددها {في ستة أيام} سنًا للتأني وتقريرًا للأيام التي أوترها سابعها الذي خلق فيه الإنسان الذي دل خلقه باسمه {الجمعة} على أنه المقصود بالذات وبأنه السابع على أنه نهاية المخلوقات- انتهى.
ولما كان تمكن الملك من سرير الملك كناية عن انفراده بالتدبير وإحاطة قدرته وعلمه، وكان ذلك هو روح الملك، دل عليه منبهًا على عظمته بأداة التراخي فقال: {ثم استوى} أي أوجد السواء وهو العدل إيجاد من هو شديد العناية {على العرش} المحيط بجميع الموجودات بالتدبير المحكم للعرش وما دونه ومن دونه ليتصور للعباد أن العرش منشأ التدبير، ومظهر التقدير، كما يقال في ملوكنا: جلس فلان على سرير الملك، بمعنى أنه انفرد بالتدبير، وقد لا يكون هناك سرير فضلًا عن جلوس.
ولما كان المراد بالاستواء الانفراد بالتدبير، وكان التدبير لا يصح إلا بالعلم والقدرة، كشفه بقوله دالًا على أن علمه بالخفايا كعلمه بالجلايا: {يعلم ما يلج} أي يدخل دخولًا يغيب به {في الأرض} أي من النبات وغيره من أجزاء الأموات وغيرها وإن كان ذلك بعيدًا من العرش، فإن الأماكن كلها بالنسبة إليه على حد سواء في القرب والبعد {وما يخرج منها} كذلك، وفي التعبير بالمضارع دلالة على ما أودع في الخافقين من القوى فصار بحيث يتجدد منهما ذلك بخلقه تجدد استمرار إلى حين خرابهما.
ولما قرر ذلك فيما قد يتوهم بعده لبعده عن العرش بسفوله تنبيهًا على التنزه عن التحيز فكان أولى بالتقديم، أتبعه قسيمه وهو جهة العلو تعميمًا للعمل بسائر الخلق فقال: {وما ينزل من السماء} ولم يجمع لأن المقصود حاصل بالواحدة مع إفهام التعبير بها الجنس السافل للكل، وذلك من الوحي والأمطار والحر والبرد وغيرهما من الأعيان والمنافع التي يوجدها سبحانه من مقادير أعمار بني آدم وأرزاقهم وغيرها من جميع شؤونهم {وما يعرج} أي يصعد ويرتقي ويغيب {فيها} كالأبخرة والأنوار والكواكب والأعمال وغيرها.
ولما كان من يتسع ملكه يغيب عنه علم بعضه لبعده عنه، عرف أنه لا مسافة أصلًا بينه وبين شيء من الأشياء فقال: {وهو معكم} أي أيها الثقلان المحتاجان إلى التهذيب بالعلم والقدرة المسببين عن القرب {أين ما كنتم} فهو عالم بجميع أموركم وقادر عليكم تعالى عن اتصال بالعلم ومماسة، أو انفصال عنه بغيبة أو مسافة، قال أبو العباس ابن تيمية في كتابه الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان: لفظ (مع) لا يقتضي في لغة العرب أن يكون أحد الشيئين مختلطًا بالآخر لقوله: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} [التوبة: 119] وقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار} ولفظ (مع) جاءت في القرآن عامة وخاصة، فالعامة {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم} [المجادلة: 7] فافتتح الكلام بالعلم واختتمه بالعلم، ولهذا قال ابن عباس- رضى الله عنهما- والضحاك وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل: هو معهم بعلمه، وأما المعية الخاصة فقوله تعالى: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] وقوله تعالى لموسى وهارون عليهما السلام: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 46] وقال: {إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا} [التوبة: 40] يعني النبي- صلى الله عليه وسلم- وأبو بكر الصدّيق- رضى الله عنه ـ، فهو مع موسى وهارون عليهما السلام دون فرعون، ومع محمد- صلى الله عليه وسلم- وصاحبه- رضى الله عنه- دون أبي جهل وغيره من أعدائه، ومع الذين اتقوا والذين هم محسنون دون الظالمين المعتدين، فلو كان معنى المعية أنه بذاته في كل مكان تناقض الخبر الخاص والخبر العام، بل المعنى أنه مع هؤلاء بنصره وتأييده دون أولئك، وقوله تعالى: {وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله} [الزخرف: 84] أي هو إله في السماء وإله في الأرض كما قال تعالى: {وله المثل الأعلى في السماوات والأرض وهو العزيز الحكيم} [الروم: 27] وكذلك في قوله تعالى: {وهو الله في السماوات وفي الأرض} كما فسره أئمة العلم كأحمد وغيره أنه المعبود في السماوات والأرض.
ولما كانت الأعمال منها ظاهر وباطن، عبر في أمرها باسم الذات دلالة على شمولها بالعلم والقدر وتنبيهًا على عظمة الإحاطة بها وبكل صفة من صفاته فقال: {والله} أي المحيط بجميع صفات الكمال، وقدم الجارّ لمزيد الاهتمام والتنبيه على تحقق الإخاطة كما مضى التنبيه عليه غير مرة وتمثيله بنحو: أعرف فلانًا ولا أعرف غيره؛ فقال: {بما تعملون} أي على سبيل التجدد والاستمرار {بصير} أي عالم بجلائله ودقائقه.
ولما كان صانع الشيء قد لا يكون ملكًا، وكان الملك لا يكمل ملكه إلا بعلم جميع ما يكون في مملكته والقدرة عليه، وكان إنكارهم للبعث إنكارًا لأن يكون ملكًا، أكد ذلك بتكرير الإخبار به فقال: {له} أي وحده {ملك السماوات} وجمع لاقتضاء المقام له {والأرض} أفرد لخفاء تعددها عليهم مع إرادة الجنس، ودل على دوام ملكه وإحاطته بقوله عاطفًا على ما تقديره: فمن الله المبدأ، معبرًا بالاسم الأعظم الجامع لئلا يظن الخصوص بأمور ما تقدم: {وإلى الله} أي الملك الذي لا كفؤ له وحده {ترجع} بكل اعتبار على غاية السهولة {الأمور} أي كلها حسًا بالبعث ومعنى بالإبداء والإفناء، ودل على هذا الإبداء والإفناء بأبدع الأمور وأروقها فقال: {يولج} أي يدخل ويغيب بالنقص والمحو {الّيل في النهار} فإذا قد قصر بعد طوله، وقد انمحى بعد تشخصه وحلوله، فملأ الضياء الأقطار بعد ذلك الظلام {ويولج النهار} الذي عم الكون ضياؤه وأناره لألاؤه {في الّيل} الذي قد كان غاب في علمه، فإذا الظالم قد طبق الآفاق، والطول، الذي كان له قد صار نقصًا.
ولما كان في هذا إظهار أخفى الأشياء حتى يصير في غاية الجلاء، أتبعه علم ما هو عند الناس أخفاء ما يكون فقال: {وهو} أي وحده {عليم} أي بالغ العلم {بذات الصدور} أي ما يصحبها فتخفيه فلا يخرج منها الهمزات على مدى الأيام على كثرة اختلافها وتغيرها وإن خفيت على أصحابها. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ السموات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش}.
وهو مفسر في الأعراف والمقصود منه دلائل القدرة.
ثم قال تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلْجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} وهو مفسر في سبأ، والمقصود منه كمال العلم، وإنما قدم وصف القدرة على وصف العلم، لأن العلم بكونه تعالى قادرًا قبل العلم بكونه تعالى عالمًا، ولذلك ذهب جمع من المحققين إلى أن أول العلم بالله، هو العلم بكونه قادرًا، وذهب آخرون إلى أن أول العلم بالله هو العلم بكونه مؤثرًا، وعلى التقديرين فالعلم بكونه قادرًا متقدم على العلم بكونه عالمًا.
ثم قال تعالى: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه قد ثبت أن كل ما عدا الواجب الحق فهو ممكن، وكل ممكن فوجوده من الواجب، فإذن وصول الماهية الممكنة إلى وجودها بواسطة إفادة الواجب الحق ذلك الوجود لتلك الماهية فالحق سبحانه هو المتوسط بين كل ماهية وبين وجودها، فهو إلى كل ماهية أقرب من وجود تلك الماهية، ومن هذا السر قال المحققون: ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله، وقال المتوسطون: ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله معه، وقال الظاهريون: ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله بعده.
واعلم أن هذه الدقائق التي أظهرناها في هذه المواضع لها درجتان إحداهما: أن يصل الإنسان إليها بمقتضى الفكرة والروية والتأمل والتدبر والدرجة الثانية: أن تتفق لنفس الإنسان قوة ذوقية وحالة وجدانية لا يمكن التعبير عنها، وتكون نسبة الإدراك مع الذوق إلى الإدراك لا مع الذوق، كنسبة من يأكل السكر إلى من يصف حلاوته بلسانه.
المسألة الثانية:
قال المتكلمون: هذه المعية إما بالعلم وإما بالحفظ والحراسة، وعلى التقديرين فقد انعقد الإجماع على أنه سبحانه ليس معنا بالمكان والجهة والحيز، فإذن قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} لابد فيه من التأويل وإذا جوزنا التأويل في موضع وجب تجويزه في سائر المواضع.
المسألة الثالثة:
اعلم أن في هذه الآيات ترتيبًا عجيبًا، وذلك لأنه بين قوله: {هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن} كونه إلهًا لجميع الممكنات والكائنات، ثم بين كونه إلهًا للعرش والسموات والأرضين.
ثم بين بقوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} معينه لنا بسبب القدرة والإيجاد والتكوين وبسبب العلم وهو كونه عالمًا بظواهرنا وبواطننا، فتأمل في كيفية هذا الترتيب، ثم تأمل في ألفاظ هذه الآيات فإن فيها أسرارًا عجيبة وتنبيهات على أمور عالية.
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5)}.
أي إلى حيث لا مالك سواه، ودل بهذا القول على إثبات المعاد.
{يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)}.
وهذه الآيات قد تقدم تفسيرها في سائر السور، وهي جامعة بين الدلالة على قدرته، وبين إظهار نعمه، والمقصود من إعادتها البعث على النظر والتأمل، ثم الاشتغال بالشكر. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش}.
تقدّم في (الأعراف) مستوفًى.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض} أي يدخل فيها من مطر وغيره {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من نبات وغيره {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من رزق ومطر ومَلَك {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} يصعد فيها من ملائكة وأعمال العباد {وَهُوَ مَعَكُمْ} يعني بقدرته وسلطانه وعلمه {أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} يبصر أعمالكم ويراها ولا يخفى عليه شيء منها.
وقد جمع في هذه الآية بين {استوى عَلَى العرش} وبين {وَهُوَ مَعَكُمْ} والأخذ بالظاهرين تناقض فدل على أنه لابد من التأويل، والإعراضُ عن التأويل اعتراف بالتناقض.