فصل: قال أبو حيان في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والأجر الكريم الذي يقرض به رضى وإقبال، وهذا معنى الدعاء: يا كريم العفو، أي أن مع عفوه رضى وتنعيمًا وعفو البشر ليس كذلك. اهـ.

.قال أبو حيان في الآيات السابقة:

{آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ}.
لما ذكر تعالى تسبيح العالم له، وما احتوى عليه من الملك، والتصرف، وما وصف به نفسه من الصفات العلا، وختمها بالعالم بخفيات الصدور، أمر تعالى عباده المؤمنين بالثبات على الإيمان وإدامته، والنفقة في سبيل الله تعالى.
قال الضحاك: نزلت في غزوة تبوك.
{مستخلفين فيه}: أي ليست لكم بالحقيقة، وإنما انتقلت إليكم من غيركم.
وكما وصلت إليكم تتركونها لغيركم، وفيه تزهيد فيما بيد الناس، إذ مصيره إلى غيره، وليس له منه إلا ما جاء في الحديث: «يقول ابن آدم: مالي مالي، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت أو لبست فأبليت أو تصدقت فأمضيت» وقيل لأعرابي: لمن هذه الإبل؟ فقال: هي لله تعالى عندي.
أو يكون المعنى: إنه تعالى أنشأ هذه الأموال، فمتعكم بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى.
ثم ذكر تعالى ما للمؤمن المنفق من الأجر، ووصفة بالكرم ليصرعه في أنواع الثواب.
قيل: وفيه إشارة إلى عثمان بن عفان، حيث بذل تلك النفقة العظيمة في جيش العسرة، ثم قال: {وما لكم لا تؤمنون بالله}، وهو استفهام على سبيل التأنيب والإنكار: أي كيف لا تثبتون على الإيمان؟ ودواعي ذلك موجودة، وذلك ركزة فيكم من دلائل العقل.
وموجب ذلك من السمع في قوله: {والرسول يدعوكم} لهذا الوصف الجليل.
وقد تقدم أخذ الميثاق عليكم بالإيمان، فدواعي الإيمان موجودة، وأسبابه حاصلة، فلا مانع منه، ولا عذر في تركه.
و{لا تؤمنون} حال، كما تقول: ما لك لا تقوم تنكر عليه انتفاء قيامه؟ {والرسول}: الواو واو الحال، فالجملة بعده حال، وقد أخذ حال ثالثة، وهذا الميثاق قيل: هو الذي أخذ عليهم حين الإخراج من ظهر آدم عليه الصلاة والسلام.
وقيل: ما نصب من الأدلة وركز في العقول من النظر فيها.
{إن كنتم مؤمنين}: شرط وجوابه محذوف، أي إن كنتم مؤمنين لموجب مّا، فهذا هو الموجب لإيمانكم، أو إن كنتم ممن يؤمن، فما لكم لا تؤمنون والحالة هذه؟ وهي دعاء الرسول وأخذ الميثاق.
وقال الطبري: إن كنتم مؤمنين في حال من الأحوال فالآن.
وقرأ الجمهور: {وقد أخذ} مبنيًا للفاعل، {ميثاقكم} بالنصب؛ وأبو عمرو: مبنيًا للمفعول، {ميثاقكم} رفعًا.
وقال ابن عطية: في قوله: {إن كنتم مؤمنين} وإنما المعنى أن قوله: {والرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم وقد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين} يقتضي أن يقدر بأثره، فأنتم في رتب شريفة وأقدار رفيعة.
{إن كنتم مؤمنين}: أي إن دمتم على ما بدأتم به.
ولما ذكر توطئة ما يوجب الإيمان دعاء الرسول إياهم للإيمان، ذكر أنه تعالى هو المنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ما دعا به إلى الإيمان، وذلك الآيات البينات المعجزات، ليخرجكم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، أي الله تعالى، إذ هو المخبر عنه، أو الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه أقرب.
وقرئ في السبعة: {ينزل} مضارعًا، فبعض ثقل وبعض خفف.
وقراءة الحسن: بالوجهين؛ وزيد بن علي والأعمش: أنزل ماضيًا، ووصف نفسه تعالى بالرأفة والرحمة تأنيسًا لهم.
ولما كان قد أمرهم بالإيمان والإنفاق، ثم ترك تأنيبهم على ترك الإيمان مع حصول موجبه، أنبهم على ترك الإنفاق في سبيل الله مع قيام الداعي لذلك، وهو أنهم يموتون فيخلفونه.
ونبه على هذا الموجب بقوله: {ولله ميراث السماوات والأرض} وهذا من أبلغ البعث على الإنفاق.
وأن لا تنفقوا تقديره: في أن لا تنفقوا، فموضعه جر أو نصب على الخلاف، وأن ليست زائدة، بل مصدرية.
قال الأخفش في قوله: {وما لنا أَن لا نقاتل} إنها زائدة عاملة تقديره عنده: وما لنا لا نقاتل، فلذلك على مذهبه في تلك هنا تكون أن، وتقديره: وما لكم لا تنفقون، وقد رد مذهبه في كتب النحو.
{لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل}، قيل: نزلت في أبي بكر رضي الله تعالى عنه، إذ كان أول من أسلم وهاجر وأنفق رضي الله تعالى عنه، وكذا من تابعه في السبق في ذلك، ولذلك قال: {أولئك أعظم درجة}.
وقيل: نزلت بسبب أن ناسًا من الصحابة أنفقوا نفقات جليلة حتى قيل: إن هؤلاء أعظم أجرًا من كل من أنفق.
وهذه الجملة تضمنت تباين ما بين المنفقين.
وقرأ الجمهور: {من قبل الفتح}؛ وزيد بن علي، قيل: بغير من والفتح مكة، وهو المشهور، وقول قتادة وزيد بن أسلم ومجاهد.
وقال أبو سعيد الخدري والشعبي: هو فتح الحديبة، وقد تقدم في أول سورة الفتح كونه فتحًا، ورفعه أبو سعيد إلى النبي صلى الله عليه وسلم: «إن أفضل ما بين الهجرتين فتح الحديبة».
والظاهر أن {من} فاعل {لا يستوي}، وحذف مقابله، وهو من أنفق من بعد الفتح وقاتل، لوضوح المعنى.
{أولئك}: أي الذين أنفقوا قبل الفتح وقبل انتشار الإسلام وفشوّه واستيلاء السلمين على أم القرى، وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين جاء في حقهم قوله صلى الله عليه وسلم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» وأبعد من ذهب إلى الفاعل بلا يستوي ضمير يعود على الإنفاق، أي لا يستوي، هو الإنفاق، أي جنسه، إذ منه ما هو قبل الفتح وبعده؛ ومن أنفق مبتدأ، وأولئك مبتدأ خبره ما بعده، والجملة في موضع خبر من، وهذا فيه تفكيك للكلام، وخروج عن الظاهر لغير موجب.
وحذف المعطوف لدلالة المقابل كثيرة، فأنفق لا سيما المعطوف الذي يقتضيه وضع الفعل، وهو يستوي.
وقرأ الجمهور: {وكلًا} بالنصب، وهو المفعول الأول لوعد.
وقرأ ابن عامر وعبد الوارث من طريق المادر أي: {وكل} بالرفع والظاهر أنه مبتدأ، والجملة بعده في موضع الخبر، وقد أجاز ذلك الفراء وهشام، وورد في السبعة، فوجب قبوله؛ وإن كان غيرهما من النحاة قد خص حذف الضمير الذي حذف من مثل وعد بالضرورة.
وقال الشاعر:
وخالد تحمد ساداتنا ** بالحق لا تحمد بالباطل

يريده: تحمده ساداتنا، وفر بعضهم من جعل وعد خبرًا فقال: {كل} خبر مبتدأ تقديره: وأولئك كل، و{وعد} صفة، وحذف الضمير المنصوب من الجملة الواقعة صفة أكثر من حذفه منها إذا كانت خبرًا، نحو قوله:
وما أدري أغيرهم تناء ** وطول العهد أم مال أصابوا

يريد: أصابوه، فأصابوه صفة لمال، وقد حذف الضمير العائد على الموصوف والحسنى: تأنيث الأحسن، وفسره مجاهد وقتادة بالجنة.
والوعد يتضمن ذلك في الآخرة، والنصر والغنيمة في الدنيا.
{والله بما تعملون خبير}: فيه وعد ووعيد.
وتقدم الكلام على مثل قوله: {من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له}، إعرابًا وقراءة وتفسيرًا، في سورة البقرة.
وقال ابن عطية: هنا الرفع يعني في يضاعفه على العطف، أو على القطع والاستئناف.
وقرأ عاصم: فيضاعفه بالنصب بالفاء على جواب الاستفهام، وفي ذلك قلق.
قال أبو علي، يعني الفارسي: لأن السؤال لم يقع على القرض، وإنما وقع السؤال على فاعل القرض، وإنما تنصب الفاء فعلًا مردودًا على فعل مستفهم عنه، لكن هذه الفرقة، يعني من القراء، حملت ذلك على المعنى، كأن قوله: {من ذا الذي يقرض} بمنزلة أن لو قال: أيقرض الله أحد فيضاعفه؟ انتهى.
وهذا الذي ذهب إليه أبو علي من أنه إنما تنصب الفاء فعلًا مردودًا على فعل مستفهم عنه ليس بصحيح، بل يجوز إذا كان الاستفهام بأدواته الاسمية نحو: من يدعوني فأستجيب له؟ وأين بيتك فأزورك؟ ومتى تسير فأرافقك؟ وكيف تكون فأصحبك؟ فالاستفهام هنا واقع عن ذات الداعي، وعن ظرف المكان وظرف الزمان والحال، لا عن الفعل.
وحكى ابن كيسان عن العرب: أين ذهب زيد فنتبعه؟ وكذلك: كم مالك فنعرفه؟ ومن أبوك فنكرمه؟ بالنصب بعد الفاء.
وقراءة فيضاعفه بالنصب قراءة متواترة، والفعل وقع صلة للذي، والذي صفة لذا، وذا خبر لمن.
وإذا جاز النصب في نحو هذا، فجوازه في المثل السابقة أحرى، مع أن سماع بن كيسان ذلك محكيًا عن العرب يؤيد ذلك.
والظاهر أن قوله: {وله أجر كريم} هو زيادة على التضعيف المترتب على القرض، أي وله مع التضعيف أجر كريم. اهـ.

.قال أبو السعود في الآيات السابقة:

{ءَامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} أي جعلكم خلفاءَ في التصرفِ فيهِ من غيرِ أنْ تملكوه حقيقةً عبر عمَّا بأيديهم من الأموالِ والأرزاقِ بذلكَ تحقيقًا للحقِّ وترغيبًا لهم في الإنفاقِ، فإنَّ من علَم أنَّها الله عزَّ وجلَّ وإنَّما هُو بمنزلةِ الوكيلِ يَصرِفها إلى ما عيّنه الله تعالى من المصارفِ هانَ عليه الإنفاقُ أو جعلكم خلفاء ممَّن قبلكَم فيما كَانَ بأيديهم بتوريثِه إيَّاكُم فاعتبرُوا بحالِهم حيثُ انتقلَ منهم إليكُم وسينتقلُ منكُم إلى مَنْ بعدكُم فلا تبخلُوا به {فالذين ءامَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ} حسبمَا أُمروا به {لَهُمْ} بسببِ ذلكَ {أَجْرٌ كَبِيرٌ} وفيِه من المُبالغاتِ ما لا يَخفْى حيثُ جعلَ الجملةَ إسميةً، وأُعيدَ ذكرُ الإيمانِ والإنفاقِ وكُررَ الإسنادُ وفُخم الأجرُ بالتنكير ووصفَ بالكبيرِ.
وقوله عزَّ وجلَّ: {وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} استئنافٌ مسوقٌ لتوبيخِهم على ترك الإيمانِ حسبَما أمروا به بإنكارِ أنْ يكونَ لَهمُ في ذلك عذرٌ ما في الجملةِ على أنَّ لا تؤمنونَ حالٌ من الضميرِ في لكُم والعاملُ ما فيه من مَعْنى الاستقرار أيْ أيُّ شيءٍ حصلَ لكُم غيرَ مؤمنينَ، على توجيه الإنكارِ والنفي إلى السببِ فقطْ مع تحقيق المسببِ لا إلى السببِ والمسببِ جميعًا كَما في قوله تعالى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِى} فإنَّ همزةَ الاستفهامِ كَما تكونُ تارةً لإنكارِ الواقعِ كَما في أتضربُ أباكَ وأخرى لإنكار الوقوعِ كما في أأضربُ أبي كذلكَ ما الاستفهاميةُ قد تكونُ لإنكارِ سببِ الواقعِ ونفيهِ فقطْ كما فيما نحنُ فيهِ وفي قوله تعالى: {مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا} فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ محُققًا فإنَّ كلًا من عدمِ الإيمانِ وعدمِ الرجاءِ أمرٌ محققٌ قد أنكرَ ونفيَ سببُه وقد تكونُ لإنكارِ سببِ الوقوعِ ونفيهِ فيسريانِ إلى المسببِ أيضًا كَما في قوله تعالى: {وَمَا لِىَ لاَ أَعْبُدُ} إلى آخرهِ فيكونُ مضمونُ الجملةِ الحاليةِ مفروضًا قطعًا فإنَّ عدمَ العبادةِ أمرٌ مفروضٌ حتمًا قد أنكرَ ونُفيَ سببُه فانتفَى نفسُه أيضًا. وقوله تعالى: {والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ} حالٌ من ضميرِ لا تُؤمنون مفيدةٌ لتوبيخِهم على الكُفرِ معَ تحققِ ما يُوجبُ عدمَهُ بعدَ توبيخِهم عليهِ مع عدمِ ما يُوجبه، أيْ وأيُّ عذرٍ في تركِ الإيمانِ والرسولُ يدعُوكم إليهِ وينبهكم عليهِ. وقوله تعالى: {وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} حالٌ من مفعولِ يدعُوكم أيْ وقد أخذَ الله تعالى ميثاقَكُم بالإيمانِ من قبلُ وذلك بنصب الأدلةِ والتمكينِ من النظرِ. وقرئ {وقَدْ أُخذَ} مبنيًا للمفعولِ برفعِ {ميثاقكُم} {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجبِ ما فإنَّ هذَا موجبٌ لا موجبَ وراءَهُ. {هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ} حسبَما يعنُّ لكُم منَ المصالحِ {ءايات بَيّنَاتٍ} واضحاتٍ {لِيُخْرِجَكُمْ} أي الله تعالى أو العبدُ بها {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من ظلمات الكفرِ إلى نور الإيمانِ {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} حيثُ يهديكُم إلى سعادةِ الدارينِ بإرسالِ الرسولِ وتنزيلِ الآياتِ بعد نصبِ الحُججِ العقليةِ.
وقوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ في سَبِيلِ الله} توبيخٌ لهم على تركِ الإنفاقِ المأمورِ به بعدَ توبيخِهم على ترك الإيمانِ بإنكار أنْ يكونَ لهم في ذلكَ أيضًا عذرٌ من الأعذارِ. وحذفُ المفعولِ لظهورِ أنَّه الذي بُيِّنَ حالُه فيما سبقَ وتعيينُ المُنفَقِ فيهِ لتشديدِ التوبيخِ، أيْ وأيُّ شيءٍ لكُم في أنْ لا تنفقُوا فيمَا هُو قربةٌ إلى الله تعالى ما هُو له في الحقيقةِ وإنَّما أنتُم خلفاؤُه في صرفِه إلى ما عيَّنهُ من المصارفِ. وقوله: {وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السموات والأرض} حالٌ من فاعلِ لا تنفقُوا ومفعولِه مؤكدةٌ للتوبيخِ فإنَّ تركَ الإنفاقِ بغير سببٍ قبيحٌ منكرٌ ومع تحقق ما يوجبُ الإنفاقَ أشدُّ في القبحِ وأدخلُ في الإنكارِ، فإنَّ بيانَ بقاءِ جميعِ ما في السمواتِ والأرضِ من الأموالِ بالآخرةِ لله عزَّ وجلَّ من غيرِ أنْ يبقَى من أصحابِها أحدٌ أقوى في إيجابِ الإنفاقِ عليهم من بيان أنَّها لله تعالى في الحقيقةِ وهم خُلفاؤه في التصرف فيها كأنَّه قيلَ وما لكُم في ترك إنفاقِها في سبيلِ الله والحالُ أنَّه لا يبقَى لكُم منها شيءٌ بل تَبْقى كلُّها لله تعالى، وإظهارُ الاسمِ الجليلِ في موقع الإضمارِ لزيادة التقريرِ وتربية المهابةِ.
وقوله تعالى: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} بيانٌ لتفاوت درجاتِ المنفقينِ حسبَ تفاوتِ أحوالِهم في الإنفاقِ بعدَ بيانِ أنَّ لهم أجرًا كبيرًا على الإطلاقِ حثًَّا لهم على تحرِّي الأفضلِ، وعطفُ القتالِ على الإنفاقِ للإيذانِ بأنَّه من أهمِّ موادِّ الإنفاقِ مع كونِه في نفسِه من أفضلِ العباداتِ وأنه لا يخلُو من الإنفاقِ أصلًا. وقسيمُ مَنْ أنفقَ محذوفٌ لظهورِه ودلالةِ ما بعدَهُ عليهِ وقرئ {قبلَ الفتحِ} بغير مِنْ والفتحُ فتحُ مكَة {أولئك} إشارةٌ إلى مَنْ أنفقَ والجمعُ بالنظرِ إلى مَعْنى مَنْ كما أنَّ أفرادَ الضميرينِ السابقينِ بالنظرِ إلى لفظِها، وما فيهِ من مَعْنى البُعد مع قُربِ العهدِ بالمشارِ إليهِ للإشعارِ ببُعدِ منزلتِهم وعلوِّ طبقاتِهم في الفضلِ، ومحلُّه الرفعُ على الابتداءِ أي أولئكَ المنعوتونَ بذينكَ النعتينِ الجميلينِ {أَعْظَمُ دَرَجَةً} وأرفعُ منزلةً {مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا} لأنَّهم إنما فعلُوا ما فعلُوا من الإنفاق والقتالِ قبل عزةِ الإسلامِ وقوةِ أهلِه عند كمالِ الحاجةِ إلى النصرة بالنفسِ والمالِ وهم السابقونَ الأولونَ من المهاجرينَ والأنصارِ الذينَ قال فيهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «لو أنفقَ أحدُكم مثلَ أحدٍ ذهبًا ما بلغَ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَهُ» وهؤلاءِ فعلُوا ما فعلُوا بعد ظهورِ الدينِ ودخولِ الناسِ فيه أفواجًا وقلةِ الحاجةِ إلى الإنفاقِ والقتالِ {وَكُلًا} أي وكلَّ واحدٍ من الفريقينِ {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبةَ الحُسنى وهي الجنةُ لا الأولينَ فقطْ. وقرئ {وكلٌّ} بالرفعِ على الابتداءِ أي وكلٌّ وعدَهُ الله تعالى: {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} بظواهرِه وبواطنهِ فيجازيكُم بحسبِه وقيلَ نزلتْ الآيةُ في أبي بكرٍ رضيَ الله تعالى عنه فإنَّه أولُ مَنْ آمنَ وأولُ من أنفقَ في سبيلِ الله وخاصمَ الكفَّارَ حتى ضُربَ ضربًا أشرفَ به على الهلاكِ.
وقوله تعالى: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا}.
ندبٌ بليغٌ من الله تعالى إلى الإنفاق في سبيلِه بعد الأمرِ به والتوبيخِ على تركِه وبيانِ درجاتِ المنفقينَ أي مَنْ ذَا الذي ينفقَ مالَه في سبيلِه تعالى رجاءَ أنْ يعوضَهُ فإنَّه كمنْ يُقرضُه وحُسنُ الإنفاقِ بالإخلاصِ فيه وتحرِّي أكرمِ المالِ وأفضلِ الجهاتِ {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} بالنصب على جوابِ الاستفهامِ باعتبارِ المَعْنى كأنَّه قيلَ أيقرضُ الله أحدٌ فيضاعفَهُ له أي فيعطيهِ أجرَهُ أضعافًا {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وذلكَ الأجرُ المضمومُ إليهِ الأضعافُ كريمٌ في نفسِه حقيقٌ بأنْ يتنافسَ فيه المتنافسونَ وإنْ لم يُضاعفْ فكيفَ وقد ضُوعفَ أضعافًا كثيرة. وقرئ بالرفعِ عطفًا على {يقرضُ} أو حملًا على تقديرِ مبتدأٍ أيْ فهُو يضاعفُه، وقرئ {يُضعفَهُ} بالرفعِ والنصبِ. اهـ.