فصل: تفسير الآية رقم (281):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تفسير الآية رقم (281):

قوله تعالى: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من المعلوم أنه لا يدفعه حجة كان التقدير: فامتثلوا ما أمرتم به واجتنبوا ما نهيتم عنه، فعطف عليه تخويفًا من يوم العرض عليه والمجازاة بين يديه فقال- وقال الحرالي: لما أنهي الخطاب بأمر الدين وعلنه وأمر الآخرة على وجوهها وإظهار حكمتها المرتبطة بأمر الدنيا وبين أمر الإنفاق والربا الذي هو غاية أمر الدين والدنيا في صلاحهما وأنهى ذلك إلى الموعظة بموعود جزائه في الدنيا والآخرة أجمل الموعظة بتقوى يوم الرجعة إلى إحاطة أمره ليقع الختم بأجمل موعظة وأشملها ليكون انتهاء الخطاب على ترهيب الأنفس لتجتمع عزائمها على ما هو ملاك أمرها من قبول صلاح دينها ودنياها ومعادها من خطاب الله سبحانه وتعالى لها فختم ذلك بكمال معناه بهذه الآية كما أنها هي الآية التي ختم بها التنزيل أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هو في الشكاية وهي آخر آية أنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم في مقابلة {اقرأ باسم ربك} [العلق: 1] الذي هو أول منزل النبوة و{يا أيها المدثر} [المدثر: 1] الذي هو أول منزل الرسالة فكان أول الأمر نذارة وآخره موعظة تبعث النفس على الخوف وتبعث القلب على الشوق من معنى ما انختم به أمر خطاب الله سبحانه وتعالى في آية: {مالك يوم الدين} [الفاتحة: 4] انتهى- فقال تعالى: {واتقوا يومًا} أي في غاية العظم {ترجعون فيه} حسًا بذواتكم كما أنتم في الدنيا ومعنى بجميع أموركم رجوعًا ظاهرًا لا يحجبه شيء من الأسباب ولا يحول دونه عارض ارتياب {إلى الله} الذي لا يحصر عظمته وصف ولا يحيط بها حد، فيكون حالكم بعد النقلة من الدنيا كحالكم قبل البروز إليها من البطن لا تصرف لكم أصلًا ولا متصرف فيكم إلا الله ويكون حالكم في ذلك اليوم الإعسار، لأنه لا يمكن أحد أن يكافئ ما لله سبحانه وتعالى عليه من نعمه، فمن نوقش الحساب عذب؛ فإن كنتم تحبون المجاوزة عنكم هنالك فتجاوزوا أنتم عن إخوانكم اليوم، وتصدقوا ما دمتم قادرين على الصدقة، واتقوا النار في ذلك اليوم ولو بشق تمرة؛ وأشار سبحانه وتعالى إلى طول وقوفهم ذلك الموقف في مقام الهيبة وتمادي حبسهم في مشهد الجلال والعظمة بأداة التراخي في قوله: {ثم} قال الحرالي وقيل: «يا رسول الله! أين يكون الناس {يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات} [إبراهيم: 48]؟ قال: في الظلمة دون الجسر» وقال صلى الله عليه وسلم: «يقيمون في الظلمة ألف سنة» وورد عن علي رضي الله تعالى عنه في تفصيل مواقف يوم الجزاء أن الخلق يوقفون على قبورهم ألف سنة ويساقون إلى المحشر ألف سنة، ويوقفون في الظلمة ألف سنة؛ ثم يكون انشقاق السماوات السبع وتبديل الأرض وما شاء الله سبحانه وتعالى من أمره انتظارًا لمجيئه؛ ففي عبرة مقاله والله سبحانه وتعالى أعلم أن ذلك يكون ستة آلاف سنة وأنها كما بنيت في ستة أيام تهدم في ستة أيام {كما بدأنا أول خلق نعيده} [الأنبياء: 104]، فيكون ذلك تسعة أيام؛ ويكون مجيئه في اليوم العاشر الذي هو يوم عاشوراء ذلك اليوم الذي تكرر مجيء أمره فيه في يوم الدنيا- ثم وصف صلى الله عليه وسلم المواقف إلى منتهاها- انتهى.
ولما كان إيقاف الإنسان على كل ما عمل من سر وعلن في غاية الكراهة إليه فضلًا عن جزائه على كل شيء منه لا بالنسبة إلى موقف معين بني للمفعول قوله: {توفى} أي تعطى على سبيل الوفاء {كل نفس ما كسبت} من خير وشر.
قال الحرالي: جاء بصيغة فعل المشعر بجري العمل على غير تكلف وتحمل، ففي إشعاره أنها توفى ما كسبت من الخير وما كونت له من الشر وأن ما تكلفته من الشر وفي دخلتها كراهية ربما غفر لها حيث لم تكن توفى ما كسبت وما اكتسبت كما قال في الآية التي بعدها {لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت} [البقرة: 286] فكان مكتسبها عليها وربما غفر لها فإنها وفيت ما كسبته من الشر واشتمل عليه ظاهرها وباطنها حتى يسرت له- انتهى.
ولما كانت عادة الناس أنه إذا بقي شيء يسير وقع في محل المسامحة وكان اليسير يختلف باختلاف الأصل فالألف مثلًا يتسامح فيه بمائة مثلًا بيّن أن الأمر عنده على غير ذلك فقال: {وهم لا يظلمون} شيئًا من الأشياء ولو قلّ، وهذا إشارة إلى العدل بين عباده قال الحرالي: وهذه الآية ختم للتنزيل وختم لتمام المعنى في هذه السورة التي هي سنام القرآن وفسطاطه وختم لكل موعظة وكل ختم، فهو من خواص المحمدية الجامعة المفصلة من سورة الحمد المشيرة إلى تفاصيل عظيم أمر الله في حقه وفي خلقه وفيما بينه وبين خلقه- انتهى. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

اعلم أن هذه الآية في العظماء الذين كانوا يعاملون بالربا وكانوا أصحاب ثروة وجلال وأنصار وأعوان وكان قد يجري منهم التغلب على الناس بسبب ثروتهم، فاحتاجوا إلى مزيد زجر ووعيد وتهديد، حتى يمتنعوا عن الربا، وعن أخذ أموال الناس بالباطل، فلا جرم توعدهم الله بهذه الآية، وخوفهم على أعظم الوجوه. اهـ.
وقال الفخر:
قال ابن عباس: هذه الآية آخر أية نزلت على الرسول عليه الصلاة والسلام، وذلك لأنه عليه السلام لما حج نزلت {يَسْتَفْتُونَكَ} [النساء: 127] وهي آية الكلالة، ثم نزل وهو واقف بعرفة {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} [المائدة: 3] ثم نزل: {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله} [البقرة: 281] فقال جبريل عليه السلام: يا محمد ضعها على رأس ثمانين آية ومائتي آية من البقرة، وعاش رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدها أحدا وثمانين يومًا، وقيل: أحدًا وعشرين وقيل: سبعة أيام، وقيل: ثلاث ساعات. اهـ.

.قال القرطبي:

قيل: إن هذه الآية نزلت قبل موت النبيّ صلى الله عليه وسلم بتسع ليال ثم لم ينزل بعدها شيء؛ قاله ابن جُريج.
وقال ابن جبير ومقاتل: بسبع ليال.
وروي بثلاث ليال.
وروي أنها نزلت قبل موته بثلاث ساعات، وأنه عليه السَّلام قال: «اجعلوها بين آية الربا وآية الديْن» وحكى مكّي أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «جاءني جبريل فقال اجعلها على رأس مائتين وثمانين آية». قلت: وحكي عن أبي بن كعب وابن عباس وقتادة أن آخر ما نزل: {لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ} إلى آخر الآية.
والقول الأوّل أعرف وأكثر وأصح وأشهر.
ورواه أبو صالح عن ابن عباس قال: آخر ما نزل من القرآن {واتقوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} فقال جبريل للنبيّ صلى الله عليه وسلم: «يا محمد ضعها على رأس ثمانين ومائتين من البقرة».
ذكره أبو بكر الأنباريّ في «كتاب الردّ» له؛ وهو قول ابن عمر رضي الله عنه أنها آخر ما نزل، وأنه عليه السَّلام عاش بعدها أحدًا وعشرين يومًا، على ما يأتي بيانه في آخر سورة {إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله والفتح} [النصر: 1] إن شاء الله تعالى. اهـ.

.قال الفخر:

انتصب {يَوْمًا} على المفعول به، لا على الظرف، لأنه ليس المعنى: واتقوا في هذا اليوم، لكن المعنى تأهبوا للقائه بما تقدمون من العمل الصالح، ومثله قوله: {فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الولدان شِيبًا} [المزمل: 17] أي كيف تتقون هذا اليوم الذي هذا وصفه مع الكفر بالله. اهـ.

.قال القرطبي:

الآية وعظ لجميع الناس وأمر يخص كل إنسان.
و{يَوْمًا} منصوب على المفعول لا على الظرف.
{تُرْجَعُونَ فِيهِ إلَى اللَّهِ} من نعته.
وقرأ أبو عمرو بفتح التاء وكسر الجيم؛ مثل {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ} [الغاشية: 26] واعتبارًا بقراءة أبيّ {يومًا تصِيرون فيه إلى الله}. والباقون بضم التاء وفتح الجيم؛ مثل {ثُمَّ ردوا إلى الله} [الأنعام: 28].
{وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي} [الكهف: 36] واعتبارًا بقراءة عبد الله: {يومًا تردون فِيهِ إلى اللَّهِ} وقرأ الحسن {يرجعون} بالياء، على معنى يرجع جميع الناس.
قال ابن جِني: كأنّ الله تعالى رفق بالمؤمنين على أن يواجههم بذكر الرجعة، إذ هي مما ينفطر لها القلوب فقال لهم: {وَاتَّقُوا يَوْمًا} ثم رجع في ذكر الرجعة إلى الغيبة رِفْقًا بهم.
وجمهور العلماء على أن هذا اليوم المحذّر منه هو يوم القيامة والحساب والتوفية.
وقال قوم: هو يوم الموت.
قال ابن عطية: والأوّل أصح بحكم الألفاظ في الآية.
وفي قوله: {إلَى اللَّهِ} مضاف محذوف، تقديره إلى حكم الله وفصل قضائه. اهـ.

.قال أبو حيان:

قال الجمهور والمراد بهذا اليوم يوم القيامة، وقال قوم: هو يوم الموت، والأول أظهر لقوله: {ثم توفى كل نفس ما كسبت} والمعنى إلى حكم الله وفصل قضائه. اهـ.

.قال الفخر:

قال القاضي: اليوم عبارة عن زمان مخصوص، وذلك لا يتقي، وإنما يتقي ما يحدث فيه من الشدة والأهوال واتقاء تلك الأهوال لا يمكن إلا في دار الدنيا بمجانبة المعاصي وفعل الواجبات، فصار قوله: {واتقوا يَوْمًا} يتضمن الأمر بجميع أقسام التكاليف. اهـ.
وقال الفخر:
الرجوع إلى الله تعالى ليس، المراد منه ما يتعلق بالمكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى، وليس المراد منه الرجوع إلى علمه وحفظه، فإنه معهم أينما كانوا لكن كل ما في القرآن من قوله: {تُرْجَعُونَ إِلَى الله} له معنيان الأول: أن الإنسان له أحوال ثلاثة على الترتيب.
فالحالة الأولى: كونهم في بطون أمهاتهم، ثم لا يملكون نفعهم ولا ضرهم، بل المتصرف فيهم ليس إلا الله سبحانه وتعالى.
والحالة الثانية: كونهم بعد البروز عن بطون أمهاتهم، وهناك يكون المتكفل بإصلاح أحوالهم في أول الأمر الأبوين، ثم بعد ذلك يتصرف بعضهم في البعض في حكم الظاهر.
والحالة الثالثة: بعد الموت وهناك لا يكون المتصرف فيهم ظاهرًا في الحقيقة إلا الله سبحانه، فكأنه بعد الخروج عن الدنيا عاد إلى الحالة التي كان عليها قبل الدخول في الدنيا، فهذا هو معنى الرجوع إلى الله والثاني: أن يكون المراد يرجعون إلى ما أعد الله لهم من ثواب أو عقاب، وكلا التأويلين حسن مطابق للفظ. اهـ.
وقال الفخر:
المراد أن كل مكلف فهو عند الرجوع إلى الله لابد وأن يصل إليه جزاء عمله بالتمام، كما قال: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ} [الزلزلة: 7، 8] وقال: {إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ في صَخْرَةٍ أَوْ في السموات أَوْ في الأرض يَأْتِ بِهَا الله} [لقمان: 16] وقال: {وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حاسبين} [الأنبياء: 47] وفي تأويل قوله: {مَّا كَسَبَتْ} وجهان الأول: أن فيه حذفًا والتقدير جزاء ما كسبت والثاني: أن المكتسب هو ذلك الجزاء، لأن ما يحصله الرجل بتجارته من المال فإنه يوصف في اللغة بأنه مكتسبه، فقوله: {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} أي توفى كل نفس مكتسبها، وهذا التأويل أولى، لأنه مهما أمكن تفسير الكلام بحيث لا يحتاج فيه إلى الإضمار كان أولى. اهـ.
وقال الفخر:
الوعيدية يتمسكون بهذه الآية على القطع بوعيد الفساق، وأصحابنا يتمسكون بها في القطع بعدم الخلود، لأنه لما آمن فلابد وأن يصل ثواب الإيمان إليه، ولا يمكن ذلك إلا بأن يخرج من النار ويدخل الجنة. اهـ.
وقال الفخر:
{وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} وفيه سؤال وهو أن قوله: {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} لا معنى له إلا أنهم لا يظلمون، فكان ذلك تكريرًا.
وجوابه: أنه تعالى لما قال: {توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ} كان ذلك دليلًا على إيصال العذاب إلى الفساق والكفار، فكان لقائل أن يقول: كيف يليق بكرم أكرم الأكرمين أن يعذب عبيده فأجاب عنه بقوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} والمعنى أن العبد هو الذي أوقع نفسه في تلك الورطة لأن الله تعالى مكنه وأزاح عذره، وسهل عليه طريق الاستدلال، وأمهله فمن قصر فهو الذي أساء إلى نفسه، وهذا الجواب إنما يستقيم على أصول المعتزلة، وأما على أصول أصحابنا فهو أنه سبحانه مالك الخلق، والمالك إذا تصرف في ملكه كيف شاء وأراد لم يكن ظلمًا، فكان قوله: {وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ} بعد ذكر الوعيد إشارة إلى ما ذكرناه. اهـ.