فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله تعالى: {بُشْرَاكُمُ} أي: يقال لهم: بشراكم {جنات} أي دخولُ جنات.
وقد جاءت بحمد اللَّه آثار بتبشير هذه الأُمَّةِ المحمديَّةِ، وخَرَّجَ ابن ماجة قال: أخبرنا جُبَارة بن المغلِّس، قال: حدثنا عبد الأعلى، عن أبي بردة، عن أبيه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إذَا جَمَعَ اللَّهُ الخَلاَئِقَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، أَذِنَ لاٌّمَّةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم في السُّجُودِ، فَسَجَدُوا طَوِيلًا، ثُمَّ يُقال: ارْفَعُوا رُؤُوسَكُمْ، فَقَدْ جَعَلْنَا عِدَتَكُمْ فِدَاءَكُمْ مِنَ النَّارِ»، قال ابن ماجه: وحدَّثنا جُبَارَةُ بْنُ المُغَلِّسِ، حدثنا كِثِيرُ بن سليمان: عن أنس بن مالك، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «إنَّ هذه الأُمَّةَ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ، عَذَابُهَا بِأَيْدِيهَا، فَإذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ دُفِعَ إلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ رَجُلٌ مِنَ المُشْرِكِينَ فَيُقال: هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ»، وفي (صحيح مسلم): «دَفَعَ اللَّهُ لِكُلِّ مُسْلِمٍ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا فَيَقول: هذا فِدَاؤُكَ مِنَ النَّارِ» انتهى من (التذكرة).
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَقول المنافقون} قيل: {يَوْمَ} هو بدل من الأول، وقيل: العامل فيه (اذكر)، قال: ويظهر لي أَنَّ العاملَ فيه قوله تعالى: {ذلك هُوَ الفوز العظيم} ويجيء معنى الفوز أَفْخَمَ؛ كأَنَّهُ يقول: إنَّ المؤمنين يفوزون بالرحمة يومَ يعتري المنافقين كذا وكذا، لأَنَّ ظهورَ المرء يومَ خمول عَدُوِّه ومُضَادِّهِ أَبْدَعُ وأَفْخَمُ، وقول المنافقين هذه المقالةَ المحكية، هو عند انطفاء أنوارهم، كما ذكرنا قبل، وقولهم: (انْظُرُونَا) معناه: انتظرونا، وقرأ حمزة وحده: {انظرونا} بقطع الألف وكسر الظاء ومعناه أَخِّرُونا؛ ومنه: {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} ومعنى قولهم أَخِّرونا، أي: أخِّروا مشيَكم لنا؛ حَتَّى نلتحق فنقتبسَ من نوركم، واقتبس الرجل: أخذ من نور غيره قَبَسًا، قال الفخر: القَبَسُ: الشعلة من النار والسراج، والمنافقون طَمِعُوا في شيء من أنوار المؤمنين، وهذا منهم جهل؛ لأَنَّ تلك الأنوار نتائج الأعمال الصالحة في الدنيا، وهم لم يقدموها، قال الحسن: يُعْطَى يومَ القيامة كُلُّ أحد نورًا على قَدْرِ عمله، ثم يؤخذ من حجر جهنم ومِمَّا فيها من الكلاليب والحسك ويُلْقَى على الطريق، ثم تمضي زمرة من المؤمنينَ، وُجُوهُهُم كالقمر ليلةَ البدر، ثم تمضي زمرة أُخرى كأضوأ كوكب في السماء، ثم على ذلك، ثم تغشاهم ظلمة تُطْفِىءُ نورَ المنافقين، فهنالك يقول المنافقون للذين آمنوا: {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ}، انتهى.
وقوله تعالى: {قِيلَ ارجعوا وَرَاءَكُمْ} يحتمل أنْ يكون من قول المؤمنين لهم، ويحتمل أنْ يكون من قول الملائكة، والقول لهم: {فالتمسوا نُورًا}: هو على معنى التوبيخ لهم، أي: إنَّكم لا تجدونه، ثم أعلم تعالى أَنَّهُ يضرب بينهم في هذه الحال بسورٍ حاجز، فيبقى المنافقون في ظُلْمَةٍ وعذاب.
وقوله تعالى: {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة} أي: جهة المؤمنين {وظاهره}: جهة المنافقين، والظاهر هنا: البادي؛ ومنه قول الكُتَّابِ: من ظاهر مدينة كذا، وعبارة الثعلبيِّ: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ}: وهو حاجز بين الجنة والنار، قال أبو أمامة الباهليُّ: فيرجعون إلى المكان الذي قُسِّمَ فيه النور فلا يجدون شيئًا فينصرفون إليهم، وقد ضُرِبَ بينهم بسور، قال قتادة: حائط بين الجنة والنار، له باب {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة}، يعني: الجنة، {وظاهره مِن قِبَلِهِ العذاب} يعني النار، انتهى، قال ص: قال أبو البقاء: الباء في {بِسُورٍ} زائدة، وقيل: ليست بزائدة، قال أبو حيان: والضمير في {بَاطِنُهُ} عائدٌ على الباب، وهو الأظهر لأَنَّهُ الأقرب، وقيل: على سور، أبو البقاء: والجملة صفة لـ:(باب) أول (سور)، انتهى.
وقوله تعالى: {ينادونهم} معناه: ينادي المنافقون المؤمنين: {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ}: في الدنيا، فيردّ المؤمنون عليهم: {بلى}: كنتم معنا، ولكن عَرَّضْتُمْ أنفسكم للفتنة، وهي حُبُّ العاجل والقتال عليه، قال مجاهد: فتنتم أنفسكم بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} معناه هنا: بإيمانكم فأبطأتم به، حَتَّى مُتُّم، وقال قتادة: معناه: تربصتم بِنَا وبمحمد صلى الله عليه وسلم الدوائرَ، وشككتم، والارتياب: التشكك، والأماني التي غرتهم هي قولهم: سَيَهْلَكُ محمد هذا العام، سَتَهْزِمُهُ قريش، ستأخذه الأحزاب... إلى غير ذلك من أمانيهم، وطول الأمل: غرار لكل أحد، وأمر اللَّه الذي جاء هو: الفتح وظهور الإسلام، وقيل: هو موتهم على النفاق المُوجِبِ للعذاب، و{الغرور}: الشيطان بإجماع المتأولين، وينبغي لكل مؤمن أَنْ يعتبر هذه الآيةَ في نفسه، وتسويفَه في توبته، واعلم أيها الأخ أَنَّ الدنيا غَرَّارة للمقبلين عليها، فإنْ أردت الخلاص والفوز بالنجاة، فازهدْ فيها، وأقبلْ على ما يعنيك من إصلاح دينك والتزود لآخرتك، وقد روى ابن المبارك في (رقائقه) عن أبي الدرداء أَنَّهُ قال يعني لأصحابه: لَئِنْ حَلَفْتُم لي على رجل منكم أَنَّه أزهدكم، لأحلفنَّ لكم أنَّه خيركم، وروى ابن المبارك بسنده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يَبْعَثُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتعالى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِهِ كَانَا عَلَى سِيرَةٍ وَاحِدَةٍ، أَحَدُهُمَا مَقْتُورٌ عَلَيْهِ، وَالآخَرُ مَوَسَّعٌ عَلَيْهِ فَيُقْبِلُ المَقْتُورُ عَلَيْهِ إلَى الجَنَّةِ، وَلاَ يَنْثَنِي عَنْهَا حَتَّى يَنْتَهِيَ إلَى أَبْوَابِهَا، فَيَقول حَجَبَتُهَا: إلَيْكَ إلَيْكَ! فَيَقول: إذَنْ لاَ أَرْجِعَ، قال: وَسَيْفُهُ في عُنُقِهِ فَيَقول: أُعْطِيتُ هذا السَّيْفَ في الدُّنْيَا أُجَاهِدُ بِهِ، فَلَمْ أَزَلْ مُجَاهِدًا بِهِ حتى قُبِضْتُ وَأَنَا على ذَلِكَ، فَيَرْمِي بِسَيْفِهِ إلَى الخَزَنَةِ، وَيَنْطَلِقُ، لاَ يُثْنُونَهُ وَلاَ يَحْبِسُونَهُ عَنِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا، فَيَمْكُثُ فِيهَا دَهْرًا، ثُمَّ يَمُرُّ بِهِ أَخُوهُ المُوَسَّعُ عَلَيْهِ فَيَقول لَهُ: يَا فُلاَنُ، مَا حَبَسَكَ؟! فَيَقول: مَا خُلِّيَ سَبِيلِي إلاَّ الآن، وَلَقَدْ حُبِسْتُ مَا لَوْ أَنَّ ثَلاَثَمِائَةِ بِعِيرٍ أَكَلَتْ خَمْطًا، لاَ يَرِدْنَ إلاَّ خِمْسًا وَرَدْنَ على عِرْقِي لَصَدَرْنَ مِنْهُ رِيًّا» انتهى.
وقوله تعالى: {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} الآية: استمرارٌ في مخاطبة المنافقين؛ قاله قتادة وغيره.
وقوله تعالى: {هِىَ مولاكم} قال المفسرون: معناه: هي أولى بكم، وهذا تفسير بالمعنى، وإنَّما هي استعارة؛ لأَنَّها من حيثُ تَضُمُّهم وتباشِرُهم هي تواليهم وتكون لهم مكانَ المولى، وهذا نحو قول الشاعر: الوافر:
................ ** تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

اهـ.

.قال أبو السعود:

{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات}.
ظرفٌ لقوله تعالى وله أجرٌ كريمٌ أو لقوله تعالى فيضاعفَهُ أو منصوبٌ بإضمارٍ اذكُرْ تفخيمًا لذلك اليومِ. وقوله تعالى: {يسعى نُورُهُم} حالٌ من مفعولِ تَرَى قيلَ نورَهم الضياءُ الذي يُرَى {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} وقيلَ: هو هُداهُم وبأيمانِهم كتبَهم أي يسعَى إيمانُهم وعملهم الصالُح بينَ أيديِهم وفي أيمانِهم كتبُ أعمالِهم، وقيلَ هو القرآن وعنِ ابنِ مسعودٍ رضيَ الله تعالى عنْهُ: (يُؤتَون نورَهُم على قدرِ أعمالهم فمنهُم مَنْ يُؤتى نوره كالنخلة ومنهم مَن يُؤتَى كالرجل القائمِ وأدناهُم نورًا مَنْ نورُه على إبهامِ رجلهِ ينطفىءُ تارةً ويلمعُ أُخرَى). قال الحسنُ: يستضيئونَ به على الصراطِ. وقال مقاتلٌ: يكونُ لهم دليلًا إلى الجنَّةِ {بُشْرَاكُمُ اليوم جنات} مقدرٌ بقول هو حالٌ أو استئنافٌ أيْ يقال لهم بُشراكُم أي ما تبشرونَ بهِ جنَّاتٌ أو بُشراكم دخولُ جنَّاتٍ {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذلك} أي ما ذُكرَ من النُّورِ والبُشرى بالجناتِ المخلدةِ {هُوَ الفوز العظيم} الذي لا غايةَ وراءَهُ وقرئ ذلكَ الفوز العظيمُ.
{يَوْمَ يَقول المنافقون والمنافقات} بدلٌ مِن يومَ تَرَى {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا} أي انتظرونَا يقولونَ ذلكَ لما أنَّ المؤمنينَ يُسرَع بِهم إلى الجنَّةِ كالبرقِ الخاطفِ على ركابٍ تزفُّ بهم وهؤلاءِ مشاةٌ أو انظروا إلينَا فإنَّهم إذا نظرُوا إليهم استقبلُوهم بوجوهِهم فيستضيئونَ بالنُّورِ الذي بينَ أيديِهم. وقرئ أَنِظرُونا من النَّظِرةِ وهي الإمهالُ جعلَ اتئادَهم في المُضيِّ إلى أنْ يلحقُوا بهم إنظارًا لهم {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي نستضىءْ منه وأصلُه اتخاذُ القبسِ. {قِيلَ} طَردًا لهم وتهكمًا بهِم من جهة المؤمنينَ أو جهة الملائكةِ {ارجعوا وَرَاءكُمْ} أي إلى الموقف {فالتمسوا نُورًا} فإنَّه من ثمَّ يُقتبسُ أو إلى الدُّنيا فالتمسُوا النورَ بتحصيل مباديِه من الإيمان والأعمالِ الصالحةِ أو ارجعوا خائبينَ خاسئينَ فالتمسُوا نورًا آخرَ وقد علمُوا أنْ لا نورَ وراءَهُم وإنما قالوه تخييبًا لهم أَوْ أرادُوا بالنورِ ما وراءَهُم من الظُّلمةِ الكثيفةِ تهكمًا بهم {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} بينَ الفريقينِ {بِسُورٍ} أي حائطٍ، والباءُ زائدةٌ {لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ} أي باطنُ السُّورِ أو البابِ وهو الجانبُ الذي يلي الجنَّةَ {فِيهِ الرحمة وظاهره} وهو الطرفُ الذي يَلي النَّارَ {مِن قَبْلِهِ} من جهتِه {العذاب} وقرئ فضَرَبَ على البناءِ للفاعلِ.
{ينادونهم} استئنافٌ مبنيٌّ على السؤالِ كأنَّه قيلَ فماذَا يفعلونَ بعد ضربِ السُّورِ ومشاهدةِ العذابِ فقيلَ يُنادونَهم {أَلَمْ نَكُن} في الدُّنيا {مَّعَكُمْ} يريدونَ به موافقتَهم لهُم في الظَّاهرِ {قالواْ بلى} كنتُم معنَا بحسبِ الظاهرِ {ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محنتمُوها بالنفاقِ وأهلكتمُوها {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنينَ الدوائرَ {وارتبتم} في أمرِ الدِّينِ {وَغرَّتْكُمُ الأمانى} الفارغةُ التي من جُمْلتها الطمعُ في انتكاس أمرِ الإسلامِ {حتى جَاء أَمْرُ الله} أي الموتُ {وَغَرَّكُم بالله} الكريمِ {الغرور} أي غرَّكُم الشيطانُ بأنَّ الله عفوٌّ كريمٌ لا يُعذبكم. وقرئ الغُرورُ بالضمِّ {فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ} فداءٌ وقرئ تُؤخذُ بالتاءِ {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ} أي ظاهرًا وباطنًا {مِنَ النار} لا تبرحُونَها أبدًا {هِىَ مولاكم} أي أَوْلَى بكُم وحقيقتُه مكانُكُم الذي يُقال فيهِ هو أَوْلى بكُم كما يقال هو مِئْنةُ الكرمِ أي مكانٌ لقول القائلِ إنَّه لكريمٌ أو مكانُكم عن قريبٍ من الولِي وهو القُربُ أو ناصركُم على طريقةِ قوله:
تحيَّةُ بينِهم ضَربٌ وَجِيْعُ

أو متوليكُم تتولاَّ كم كَما توليتُم موجباتِها {وَبِئْسَ المصير} أي النَّارُ. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات}.
ظرف لما تعلق به {له} [الحديد: 11] أوله أو لقوله تعالى: {فَيُضَاعِفَهُ} [الحديد: 11] أو منصوب بإضمار اذكر تفخيمًا لذلك اليوم، والرؤية بصرية والخطاب لكل من تتأتى منه أو لسيد المخاطبين صلى الله عليه وسلم، وقوله عز وجل: {يسعى نُورُهُم} حال من مفعول ترى والمراد بالنور حقيقته على ما ظهر من شموس الأخبار وإليه ذهب الجمهور والمعنى يسعى نورهم إذا سعوا.
{بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} أخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود أنه قال: «يؤتون نورهم على قدر أعمالهم يمرون على الصراط منهم من نوره مثل الجبل ومنهم من نوره مثل النخلة وأدناهم نورًا من نوره على إبهامه يطفأ مرة ويقد أخرى» وظاهره أن هذا النور يكون عند المرور على الصراط، وقال بعضهم: يكون قبل ذلك ويستمر معهم إذا مروا على الصراط، وفي الأخبار ما يقتضيه كما ستسمعه قريبًا إن شاء الله تعالى، والمراد أنه يكون لهم في جهتين جهة الإمام وجهة اليمين وخصا لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، وفي (البحر) الظاهر أن النور قسمان: نور بين أيديهم يضيء الجهة التي يؤمونها.
ونور بأيمانهم يضيء ما حوليهم من الجهات، وقال الجمهور: إن النور أصله بأيمانهم والذي بين أيديهم هو الضوء المنبسط من ذلك، وقيل: الباء بمعنى عن أي وعن أيمانهم والمعنى في جميع جهاتهم، وذكر الأيمان لشرفها انتهى، ويشهد لهذا المعنى ما أخرج ابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه عن عبد الرحمن بن جبير بن نضير أنه سمع أبا ذر وأبا الدرداء قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة وأول من يؤذن له فيرفع رأسه فأرفع رأسي فأنظر بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي فأعرف أمتي بين الأمم فقيل: يا رسول الله وكيف تعرفهم من بين الأمم ما بين نوح عليه السلام إلى أمتك؟ قال: غرّ محجلون من أثر الوضوء ولا يكون لأحد غيرهم وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود وأعرفهم بنورهم الذي يسعى بين أيديهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم» وظاهر هذا الخبر اختصاص النور بمؤمني هذه الأمة وكذا إيتاء الكتب بالأيمان وبعض الأخبار يقتضي كونه لكل مؤمن، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال: «تبعث ظلمة يوم القيامة فما من مؤمن ولا كافر يرى كفه حتى يبعث الله تعالى بالنور للمؤمنين بقدر أعمالهم» الخبر.
وأخرج عنه الحاكم وصححه وابن أبي حاتم من وجه آخر وابن المبارك والبيهقي في الأسماء والصفات خبرًا طويلًا فيه أيضًا ما هو ظاهر في العموم.
وكذا ما أخرج ابن جرير والبيهقي في (البعث) عن ابن عباس قال: بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله تعالى نورًا فلما رأى المؤمنون النور توجهوا نحوه وكان النور دليلًا لهم من الله عز وجل إلى الجنة، ولا ينافي هذا الخبر كونهم يمرون بنورهم على الصراط كما لا يخفى، وكذا إيتاء الكتب بالايمان، ففي هداية المريد لجوهرة التوحيد ظاهر الآيات والأحاديث عدم اختصاصه يعني أخذ الصحف بهذه الأمة وإن تردد فيه بعض العلماء انتهى.
ويمكن أن يقال: إن ما يكون من النور لهذه الأمة أجلى من النور الذي يكون لغيرها أو هو ممتاز بنوع آخر من الامتياز، وأما إيتاء الكتب بالأيمان فعله لكثرته فيها بالنسبة إلى سائر الأمم تعرف به، وفي هذا المطلب أبحاث أخر تذكر إن شاء الله تعالى في محلها، وقيل: أريد بالنور القرآن، وقال الضحاك: النور استعارة عن الهدى والرضوان الذي هم فيه، وقرأ سهل بن شعيب السهمي.
وأبو حيوة {وبأيمانهم} بكسر الهمزة، وخرج ذلك أبو حيان على أن الظرف يعني بين أيديهم متعلق بمحذوف والعطف عليه بذلك الاعتبار أي كائنًا بين أيديهم وكائنًا بسبب إيمانهم وهو كما ترى، ولعله متعلق بالقول المقدر في قوله تعالى: {بُشْرَاكُمُ اليوم جنات} أي وبسبب إيمانهم يقال لهم ذلك، وجملة القول، إما معطوفة على ما قبل أو استئناف أو حال ويجوز على الحالية تقدير الوصف منه أي مقولا لهم، والقائل الملائكة الذين يتلقونهم.
والمراد بالبشرى مايبشر به دون التبشير والكلام على حذف مضاف أي ما تبشرون به دخول جنات يصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، ويصح بدونه أي ما تبشرون به جنات، وما قيل: البشارة لاتكون بالأعيان فيه نظر، وتقدير المضاف لا يغني عن تأويل البشرى لأن التبشير ليس عين الدخول، وجملة قوله تعالى: {تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار} في موضعه الصفة لجنات، وقوله سبحانه: {خالدين فِيهَا} حال من جنات، قال أبو حيان: وفي الكلام التفات من ضمير الخطاب في {بُشْرَاكُمُ} إلى ضمير الغائب في {خالدين} ولو أجرى على الخطاب لكان التركيب خالدًا أنتم فيها: {ذلك هُوَ الفوز العظيم} يحتمل أن يكون من كلامه تعالى فالإشارة إلى ما ذكر من النور والبشرى بالجنات، ويحتمل أن يكون من كلام الملائكة عليهم السلام المتلقين لهم، فالإشارة إلى ما هم فيه من النور وغيره أو إلى الجنات بتأويل ما ذكر أو لكونها فوزًا على ما قيل، وقرئ ذلك الفوز بدون {هُوَ}.
{يَوْمَ يَقول المنافقون والمنافقات} بدل من {يَوْمَ تَرَى} [الحديد: 12]، وجوز أن يكون معمولًا لا ذكر.
وقال ابن عطية: يظهر لي أن العامل فيه {ذلك هو الفوز العظيم} [الحديد: 12]، ويكون معنى الفوز عليه أعظم كأنه قيل: إن المؤمنين يفوزون يوم يعتري المنافقين والمنافقات كذا وكذا لأن ظهور المرء يوم خمول عدوه مضادة أبدع وأفخم، وتعقبه في (البحر) بأن ظاهره تقريره أن يوم منصوب بالفوز وهو لا يجوز لأنه مصدر قد وصف قبل أخذ متعلقاته فلا يجوز إعماله ولو أعمل وصفه وهو العظيم لجاز أي الفوز الذي عظم أي قدره يوم انتهى، وفي عدم جواز إعمال مثل هذا المصدر في مثل هذا المعمول خلاف، ثم إن تعلق هذا الظرف بشيء من تلك الجملة خلاف الظاهر {لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا} أي انتظرونا {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به.
وقيل: فيأخذوا شيئًا منه يكون معهم تخيلوا تأتّى ذلك فقالوه، وأصل الاقتباس طلب القبس أي الجذوة من النار، وجوز أن يكون المعنى انظروا إلينا نقتبس إلخ لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به فانظرونا على الحذف والايصال لأن النظر بمعنى مجرد الرؤية يتعدى بإلى فإن أريد التأمل تعدى بفي لكن حمل الآية على ذلك خلاف الظاهر؛ وقولهم: للمؤمنين ذلك لأنهم في ظلمة لا يذرون كيف يمشون فيها، وروى أنه يكون ذلك على الصراط.