فصل: قال الطبري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الطبري:

{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وإنما وصفه الله بالاستقامة، لأنه صواب لا خطأ فيه. وقد زعم بعض أهل الغباء، أنه سمّاه مستقيمًا، لاستقامته بأهله إلى الجنة. وذلك تأويل لتأويل جميع أهل التفسير خلاف، وكفى بإجماع جميعهم على خلافه دليلا على خطئه.
وقوله: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} إبانة عن الصراط المستقيم، أيُّ الصراط هو؟ إذْ كان كلّ طريق من طرُق الحق صراطًا مستقيمًا. فقيل لمحمد صلى الله عليه وسلم: قُلْ يا محمد: اهدنا يا ربنا الصراط المستقيم، {صراط الذين أنعمت عليهم}، بطاعتك وعبادتك، من مَلائكتك وأنبيائك والصديقين والشهداء والصالحين.
وذلك نظير ما قال ربنا جلّ ثناؤه في تنزيله: {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا وَإِذًا لآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [سورة النساء: 66- 69].
قال أبو جعفر: فالذي أمِر محمد صلى الله عليه وسلم وأمّتُه أن يسألوا ربَّهم من الهداية للطريق المستقيم، هي الهداية للطريق الذي وَصف الله جلّ ثناؤه صفتَه. وذلك الطريق، هو طريق الذي وَصفهم الله بما وصفهم به في تنزيله، ووعد من سَلكه فاستقام فيه طائعًا لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أن يورده مواردهم، والله لا يخلف الميعاد.
قال أبو جعفر: وفي هذه الآية دليل واضح على أنّ طاعة الله جَلّ ثناؤه لا ينالها المُطيعون إلا بإنعام الله بها عليهم، وتوفيقه إياهم لها. أوَ لا يسمعونه يقول: {صراط الذين أنعمت عليهم} فأضاف كلّ ما كان منهم من اهتداء وطاعة وعبادة إلى أنه إنعام منه عليهم؟
فإن قال قائل: وأين تمام هذا الخبر؟ وقد علمتَ أنّ قول القائل لآخر: {أنعمت عليك} مقتضٍ الخبرَ عمَّا أنعمَ به عليه، فأين ذلك الخبرُ في قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم}؟ وما تلك النعمة التي أنعمها عليهم؟
قيل له: قد قدّمنا البيان- فيما مضى من كتابنا هذا- عن إجراء العرب في منطقها ببعضٍ من بعض، إذا كان البعضُ الظاهر دالا على البعض الباطن وكافيًا منه. فقوله: {صراط الذين أنعمتَ عليهم} من ذلك. لأن أمرَ الله جل ثناؤه عبادَه بمسألته المعونةَ، وطلبهم منه الهدايةَ للصراط المستقيم، لما كان متقدّمًا قولَه: {صراطَ الذين أنعمت عليهم} الذي هو إبانة عن الصراط المستقيم وإبدال منه- كان معلومًا أن النعمة التي أنعم الله بها على من أمَرنا بمسألته الهدايةَ لطريقهم، هو المنهاجُ القويمُ والصراطُ المستقيم، الذي قد قدّمنا البيان عن تأويله آنفًا، فكان ظاهرُ ما ظهر من ذلك- مع قرب تجاور الكلمتين- مغنيًا عن تكراره.
كما قال نابغة بني ذبيان:
كأَنَّك مِنْ جِمالِ بَنِي أُقَيْشٍ ** يُقَعْقَعُ خَلْفَ رِجْلَيْهِ بشَنِّ

يريد: كأنك من جمال بني أقيش، جمل يُقعقع خلف رجليه بشنّ، فاكتفى بما ظهر من ذكر الجمال الدال على المحذوف، من إظهار ما حذف. وكما قال الفرزدق بن غالب:
تَرَى أَرْباقَهُمْ مُتَقَلِّدِيها ** إِذا صَدِئَ الحديدُ عَلَى الكُمَاةِ

يريد: متقلديها هم، فحذف هم، إذ كان الظاهرُ من قوله أرباقَهُم، دالا عليها.
والشواهد على ذلك من شعر العرب وكلامها أكثر من أن تحصى. فكذلك ذلك في قوله: {صراط الذين أنعمت عليهم}. اهـ.. بتصرف يسير.

.قال الماوردي:

وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمُ} خمسة أقاويل: أحدها: أنهم الملائكة.
والثاني: أنهم الأنبياء.
والثالث: أنهم المؤمنون بالكتب السالفة.
والرابع: أنهم المسلمون وهو قول وكيع. والخامس: هم النبي صلى الله عليه وسلم، ومَنْ معه مِنْ أصحابه، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد.
وقرأ عمر بن الخطاب وعبد الله بن الزبير: {صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. اهـ.

.قال البيضاوي:

{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} بدل من الأول بدل الكل، وهو في حكم تكرير العامل من حيث إنه المقصود بالنسبة، وفائدته التوكيد والتنصيص على أن طريق المسلمين هو المشهود عليه بالاستقامة على آكد وجه وأبلغه لأنه جعل كالتفسير والبيان له فكأنه من البين الذي لا خفاء فيه أن الطريق المستقيم ما يكون طريق المؤمنين. وقيل: {الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} الأنبياء، وقيل: النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه وقيل: أصحاب موسى وعيسى عليهما الصلاة والسلام قبل التحريف والنسخ. وقرئ: {صراط مِنْ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} والإنعام: إيصال النعمة، وهي في الأصل الحالة التي يستلذها الإنسان فأطلقت لما يستلذه من النعمة وهي اللين، ونعم الله وإن كانت لا تحصى كما قال: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} تنحصر في جنسين: دنيوي وأخروي.
والأول قسمان: وهبي وكسبي والوهبي قسمان: روحاني كنفخ الروح فيه وإشراقه بالعقل وما يتبعه من القوى كالفهم والفكر والنطق، وجسماني كتخليق البدن والقوى الحالة فيه والهيئات العارضة له من الصحة وكمال الأعضاء والكسبي تزكية النفس عن الرذائل وتحليتها بالأخلاق السنية والملكات الفاضلة، وتزيين البدن بالهيئات المطبوعة والحلى المستحسنة وحصول الجاه والمال.
والثاني: أن يغفر له ما فرط منه ويرضى عنه ويبوئه في أعلى عليين مع الملائكة المقربين أبد الآبدين. والمراد هو القسم الأخير وما يكون وصلة إلى نيله من الآخرة فإن ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن والكافر. اهـ.

.قال القرطبي:

{صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} صراط بدل من الأوّل بدل الشيء من الشيء؛ كقولك: جاءني زيد أبوك.
ومعناه: أدِم هدايتنا، فإن الإنسان قد يُهدَى إلى الطريق ثم يُقطع به.
وقيل: هو صراط آخر، ومعناه العلم بالله جلّ وعزّ والفهم عنه؛ قاله جعفر بن محمد.
ولغة القرآن: {الَّذِين} في الرفع والنصب والجر؛ وهُذَيل تقول: اللّذُون في الرفع، ومن العرب من يقول: اللذو، ومنهم من يقول: الذي؛ وسيأتي.
وفي: {عليهم} عشر لغات؛ قرئ بعامتها: {عليهُمْ} بضم الهاء وإسكان الميم.
{وعليهِم} بكسر الهاء وإسكان الميم.
و{عليهِمِي} بكسر الهاء والميم وإلحاق ياء بعد الكسرة.
و{عليهِمُو} بكسر الهاء وضم الميم وزيادة واو بعد الضمة.
و{عليهُمُو} بضم الهاء والميم كلتيهما وإدخال واو بعد الميم.
و{عليهُمُ} بضم الهاء والميم من غير زيادة واو.
وهذه الأوجه الستة مأثورة عن الأئمة من القرّاء.
وأوجه أربعة منقولة عن العرب غير محكية عن القرّاء: {عليهُمِي} بضم الهاء وكسر الميم وإدخال ياء بعد الميم؛ حكاها الأخفش البصري عن العرب.
و{عليهُمِ} بضم الهاء وكسر الميم من غير زيادة ياء.
و{عليهِمُ} بكسر الهاء وضم الميم من غير إلحاق واو.
و{عليهِمِ} بكسر الهاء والميم ولا ياء بعد الميم.
وكلها صواب؛ قاله ابن الأنباري.

.فائدة: في قراءة: {صراط مَن أنعمت عليهم}:

قرأ عمر بن الخطاب وابن الزبير رضي الله عنهما: {صراط مَن أنعمت عليهم}.
واختلف الناس في المُنْعَم عليهم؛ فقال الجمهور من المفسرين: إنه أراد صراط النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.
وانتزعوا ذلك من قوله تعالى: {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقًا} [النساء: 69].
فالآية تقتضي أن هؤلاء على صراط مستقيم، وهو المطلوب في آية الحمد؛ وجميع ما قيل إلى هذا يرجع، فلا معنى لتعديد الأقوال والله المستعان.

.فائدة: بيان خطأ اعتقاد القدرية والمعتزلة والإمامية: أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه:

في هذه الآية ردّ على القَدَرية والمعتزلة والإمامية، لأنهم يعتقدون أن إرادة الإنسان كافية في صدور أفعاله منه، طاعةً كانت أو معصيةً؛ لأن الإنسان عندهم خالق لأفعاله، فهو غير محتاج في صدورها عنه إلى ربه؛ وقد أكذبهم الله تعالى في هذه الآية إذ سألوه الهداية إلى الصراط المستقيم؛ فلو كان الأمر إليهم والاختيار بيدهم دون ربهم لما سألوه الهداية، ولا كرروا السؤال في كل صلاة؛ وكذلك تضرعهم إليه في دفع المكروه؛ وهو ما يناقض الهداية حيث قالوا: {صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضالين}.
فكما سألوه أن يهديهم سألوه ألاّ يُضلّهم، وكذلك يدعون فيقولون: {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا} [آل عمران: 8] الآية. اهـ.. بتصرف يسير.

.قال أبو حيان:

{صراط الذين}:
اسم موصول، والأفصح كونه بالياء في أحواله الثلاثة، وبعض العرب يجعله بالواو وفي حالة الرفع، واستعماله بحذف النون جائز، وخص بعضهم ذلك بالضرورة، إلا أن كان لغير تخصيص فيجوز في غيرها، وسمع حذف أل منه فقالوا: الذين، وفيما تعرف به خلاف ذكر في النحو، ويخص العقلاء بخلاف الذي، فإنه ينطلق على ذي العلم وغيره.
{أنعمت} النعمة: لين العيش وخفضه، ولذلك قيل للجنوب النعامي للين هبوبها، وسميت النعامة للين سهمها: نعم إذا كان في نعمة، وأنعمت عينه أي سررتها، وأنعم عليه بالغ في التفضيل عليه، أي والهمزة في أنعم بجعل الشيء صاحب ما صيغ منه، إلا أنه ضمن معنى التفضل، فعدى بعلى، وأصله التعدية بنفسه.
أنعمته أي جعلته صاحب نعمة، وهذا أحد المعاني التي لأفعل، وهي أربعة وعشرون معنى، هذا أحدها.
والتعدية، والكثرة، والصيرورة، والإعانة، والتعريض، والسلب، وإصابة الشيء بمعنى ما صيغ منه، وبلوغ عدد أو زمان أو مكان، وموافقة ثلاثي، وإغناء عنه، ومطاوعة فعل وفعل، والهجوم، ونفي الغريزة، والتسمية، والدعاء، والاستحقاق، والوصول، والاستقبال، والمجيء بالشيء والتفرقة مثل ذلك أدنيته وأعجبني المكان، وأغد البعير وأحليت فلانًا، وأقبلت فلانًا، واشتكيت الرجل، وأحمدت فلانًا، وأعشرت الدراهم، وأصبحنا، وأشأم القوم، وأحزنه بمعنى حزنه، وأرقل، وأقشع السحاب مطاوع قشع الريح السحاب، وأفطر مطاوع فطرته، وأطلعت عليهم، وأستريح، وأخطيته سميته مخطئًا، وأسقيته، وأحصد الزرع، وأغفلته وصلت غفلتي إليه، وافقته استقبلته بأف هكذا مثل هذا.
وذكر بعضهم أن أفعل فعل، ومثل الاستقبال أيضًا بقولهم: أسقيته أي استقبلته بقولك سقيًا لك، وكثرت جئت بالكثير، وأشرقت الشمس أضاءت، وشرقت طلعت.
التاء المتصلة بأنعم ضمير المخاطب المذكر المفرد، وهي حرف في أنت، والضميران فهو مركب.