فصل: قال ابن جزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: الظاهر العالي على كل شيء الغالب له من ظهر عليه إذا علاه وغلبه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه {وَهُوَ بِكُلّ شيء عَلِيمٌ}.
{هُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض في سِتَّةِ أَيَّامٍ} عن الحسن: من أيام الدنيا ولو أراد أن يجعلها في طرفة عين لفعل ولكن جعل الستة أصلًا ليكون عليها المدار {ثُمَّ استوى} استولى {عَلَى العرش يَعْلَمُ مَا يَلِجُ في الأرض} ما يدخل في الأرض من البذر والقطر والكنوز والموتى {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} من النبات وغيره {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السماء} من الملائكة والأمطار {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} من الأعمال والدعوات {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} بالعلم والقدرة عمومًا وبالفضل والرحمة خصوصًا {والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} فيجازيكم على حسب أعمالكم {لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور يُولِجُ الليل في النهار} يدخل الليل في النهار بأن ينقض من الليل ويزيد في النهار {وَيُولِجُ النهار في الليل وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور}.
{ءامِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَأَنفِقُواْ} يحتمل الزكاة والإنفاق في سبيل الله {مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني أن الأموال التي في أيديكم إنما هي أموال الله بخلقه وإنشائه لها وإنما مولكم إياها للاستمتاع بها وجعلكم خلفاء في التصرف فيها فليست هي بأموالكم في الحقيقة، وما أنتم فيها إلا بمنزلة الوكلاء والنواب، فأنفقوا منها في حقوق الله تعالى، وليهن عليكم الإنفاق منها كما يهون على الرجل الإنفاق من مال غيره إذا أذن له فيه، أو جعلكم مستخلفين ممن كان قبلكم فيما في أيديكم بتوريثه إياكم وسينقله منكم إلى من بعدكم فاعتبروا بحالهم ولا تبخلوا به {فالذين ءامَنُواْ} بالله ورسله {مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} هو حال من معنى الفعل في {مَالَكُمْ} كما تقول: مالك قائمًا؟ بمعنى ما تصنع قائمًا أي ومالكم كافرين بالله.
والواو في {والرسول يَدْعُوكُمْ} واو الحال فهما حالان متداخلتان، والمعنى وأي عذر لكم في ترك الإيمان والرسول يدعوكم {لِتُؤْمِنُواْ بِرَبّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ ميثاقكم} وقبل ذلك قد أخذ الله ميثاقكم بقوله: {أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ} [الأعراف: 172] أو بما ركب فيكم من العقول ومكنكم من النظر في الأدلة، فإذا لم تبق لكم علة بعد أدلة العقول وتنبيه الرسول فما لكم لا تؤمنون؟ {إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} لموجب ما فإن هذا الموجب لا مزيد عليه {أُخِذَ ميثاقكم} أبو عمرو.
{هُوَ الذي يُنَزّلُ على عَبْدِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {ءايات بَيّنَاتٍ} يعني القرآن {لِيُخْرِجَكُمْ} الله تعالى أو محمد بدعوته {مِنَ الظلمات إِلَى النور} من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان {وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءوفٌ} بالمد والهمزة: حجازي وشامي وحفص {رَّحِيمٌ} الرأفة أشد الرحمة {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ} في أن لا تنفقوا {فِى سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض} يرث كل شيء فيهما لا يبقى منه باقٍ لأحد من مال وغيره يعني وأي غرض لكم في ترك الإنفاق في سبيل الله والجهاد مع رسوله والله مهلككم فوارث أموالكم؟ وهو من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل الله.
ثم بين التفاوت بين المنفقين منهم فقال: {لاَ يَسْتَوِى مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وقاتل} أي فتح مكة قبل عز الإسلام وقوة أهله ودخول الناس في دين الله أفواجًا، ومن أنفق من بعد الفتح فحذف لأن قوله: {مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ} يدل عليه {أولئك} الذين أنفقوا قبل الفتح وهم السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار الذين قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: «لو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه» {أَعْظَمُ دَرَجَةً مّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وقاتلوا وَكُلًا} أي كل واحد من الفريقين {وَعَدَ الله الحسنى} أي المثوبة الحسنى وهي الجنة مع تفاوت الدرجات.
{وَكُلًا} مفعول أول لـ: {وَعْدُ} و{الحسنى} مفعول ثانٍ.
{وَكُلٌّ}: شامي أي وكل وعده الله الحسنى نزلت في أبي بكر رضي الله عنه لأنه أول من أسلم وأول من أنفق في سبيل الله وفيه دليل على فضله وتقدمه {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} فيجازيكم على قدر أعمالكم.
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} بطيب نفسه والمراد الإنفاق في سبيله واستعير لفظ القرض ليدل على التزام الجزاء {فَيُضَاعِفَهُ لَهُ} أي يعطيه أجره على إنفاقه أضعافًا مضاعفة من فضله {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أي وذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه.
{فيضعّفُهُ} مكي {فيضعفَهُ} شامي {فَيُضَاعِفَهُ}: عاصم وسهل {فيضاعفُهُ} غيرهم.
فالنصب على جواب الاستفهام، والرفع على فهو يضاعفه أو عطف على {يُقْرِضُ} {يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات} ظرف لقوله: {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} أو منصوب بإضمار (اذكر) تعظيمًا لذلك اليوم {يسعى} يمضي {نُورُهُم} نور التوحيد والطاعات.
وإنما قال: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وبأيمانهم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين كما أن الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم، فيجعل النور في الجهتين شعارًا لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومروا على الصراط يسعون سعي بسعيهم ذلك النور وتقول لهم الملائكة {بُشْرَاكُمُ اليوم جنات} أي دخول جنات لأن البشارة تقع بالأحداث دون الجثث {تَجْرِى مِن تَحْتِهَا الأنهار خالدين فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم}.
{يَوْمَ يَقول} هو بدل من {يَوْمَ تَرَى} {المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ ءامَنُواْ انظرونا} أي انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبروق الخاطفة.
{أَنظُرُونَا} حمزة من النظرة وهي الإمهال جعل اتئادهم في المضي إلى أن يلحقوا بهم إنظارًا لهم {نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} نصب منه وذلك أن يلحقوا بهم فيستنيروا به {قِيلَ ارجعوا وَرَاءكُمْ فالتمسوا نُورًا} طرد لهم وتهكم بهم أي تقول لهم الملائكة، أو المؤمنون ارجعوا إلى الموقف إلى حيث أعطينا هذا النور فالتمسوه هنالك فمن ثم يقتبس، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورًا بتحصيل سببه وهو الإيمان {فَضُرِبَ بَيْنَهُم} بين المؤمنين والمنافقين {بِسُورٍ} بحائط حائل بين شق الجنة وشق النار.
قيل: هو الأعراف {لَهُ} لذلك السور {بَابٍ} لأهل الجنة يدخلون منه {بَاطِنُهُ} باطن السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة {فِيهِ الرحمة} أي النور أو الجنة {وظاهره} ما ظهر لأهل النار {مِن قِبَلِهِ} من عنده ومن جهته {العذاب} أي الظلمة أو النار {ينادونهم} أي ينادي المنافقون المؤمنين {أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} يريدون مرافقتهم في الظاهر {قالواْ} أي المؤمنون {بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} محنتموها بالنفاق وأهلكتموها {وَتَرَبَّصْتُمْ} بالمؤمنين الدوائر {وارتبتم} وشككتم في التوحيد {وَغرَّتْكُمُ الأمانى} طول الآمال والطمع في امتداد الأعمار {حتى جَاء أَمْرُ الله} أي الموت {وَغَرَّكُم بالله الغرور} وغركم الشيطان بأن الله عفو كريم لا يعذبكم أو بأنه لا بعث ولا حساب.
{فاليوم لاَ يُؤْخَذُ} وبالتاء: شامي {مّنكُمْ} أيها المنافقون {فِدْيَةٌ} ما يفتدى به {وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ مَأْوَاكُمُ النار} مرجعكم {هِىَ مولاكم} هي أولى بكم وحقيقة مولاكم محراكم أي مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما يقال: هو مئنة للكرم أي مكان لقول القائل إنه لكريم {وَبِئْسَ المصير} النار. اهـ.

.قال ابن جزي:

{سَبَّحَ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض}.
هذا التسبيح المذكور هنا وفي أوائل سائر السور المسبحات يحتمل أن يكون حقيقة، أو أن يكون بلسان الحال؛ لأن كل ما في السموات والأرض دليل على وجود الله وقدرته، وحكمته، والأول أرجح لقوله: {ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44]، وذكر التسبيح هنا وفي الحشر والصف بلفظ سبح الماضي، وفي الجمعة والتغابن بلفظ يسبحُ المضارع، وكل واحد منهما يقتضي الدوام.
{هُوَ الأول والآخر} أي ليس لوجوده بداية ولا لبقائه نهاية {والظاهر والباطن} أي الظاهر للعقول بالأدلة، والبراهين الدالة على الباطن، الذي لا تدركه الأبصار، أو الباطن الذي لا تصل العقول إلى معرفة كنة ذاته، وقيل: الظاهر: العالي على كل شيء فهو من قولك: ظهرت على الشيء إذا علوت عليه، والباطن الذي بطن كل شيء أي علم باطنه، والأول أظهر وأرجح. ودخلت الواو بين هذه الصفات لتدل على أنه تعالى جامع لها، مع اختلاف معاينها، وفي ذلك مطابقة لفظية، وهي من أحسن أدوات البيان.
{ثُمَّ استوى عَلَى العرش} قد ذكر في [الأعراف: 53] وكذلك ما بعده {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ} يعني أنه حاضر مع كل أحد بعلمه وإحاطته. وأجمع العلماء على تأويل هذه الآية بذلك.
{يُولِجُ الليل} ذكر في [الحج: 61، ولقمان: 29].
{وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} يعني الإنفاق في سبيل الله وطاعته، وروي أنها نزلت في الإنفاق في غزوة تبوك، وعلى هذا روي أن قوله: {فالذين آمنوا منكم وأنفقوا} نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه، فإنه جهز جيش العسرة يومئذ، ولفظ الآية مع ذلك عام وحكمها باق لجميع الناس، وقوله: مستخلفين فيه يعني أن الأموال التي بأيديكم إنما هي أموال الله؛ لأنه خلقها، ولكنه متَّعكم بها وجعلكم خلفاء بالتصرف فيها، فأنتم فيها بمنزلة الوكلاء، فلا تمنعوها من الإنفاق فيما أمركم مالكها أن تنفقوها فيه، ويحتمل أن يكون {جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ} عمن كان قبلكم فورثتم عنه الأموال، فأنفقوها قبل أن تخلفوها لمن بعدكم، كما خلفها لكم من كان قبلكم، والمقصود على كل وجه: تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا.
{وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله} معناه أي شيء يمنعكم من الإيمان، والرسول يدعوكم إليه بالبراهين القاطعة والمعجزات الظاهرة؟ فقوله: {وَمَا لَكُمْ} استفهام يراد به الإنكار، و{لاَ تُؤْمِنُونَ} في موضع الحال من معنى الفعل الذي يقتضيه ما لكم. في قوله: {الرسول يَدْعُوكُمْ} {وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ} يحتمل أن يكون هذا الميثاق ما جعل في العقول من النظر الذي يؤدي إلى الإيمان، أو يكون الميثاق الذي أخذه على بني آدم؛ حين أخرجهم من ظهر آدم، وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم؟ قالوا: بلى.
{هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ} يعني سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم، والعبودية هنا للتشريف والاختصاص، والآيات هنا القرآن: {وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} الآية: معناه أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله؟ والله يرث ما في السموات والأرض إذا فني أهلها. ففي ذلك تحريض على الإنفاق وتزهيد في الدنيا {لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ} الفتح هنا فتح مكة، وقيل: صلح الحديبية، والأول أظهر وأشهر، ومعنى الآية التفاوت في الأجر والدرجات؛ بين من أنفق في سبيل الله وقاتل قبل فتح مكة، وبين من أنفق وقاتل بعد ذلك، فإن الإسلام قبل الفتح كان ضعيفًا، والحاجة إلى الانفاق والقتال كانت أشد، ويؤخذ من الآية أن من أنفق في شدة أعظم أجرًا ممن أنفق في حال الرخاء، وفي الآية حذف دل عليه الكلام تقديره: لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل مع من أنفق من بعد الفتح وقاتل. ثم حذف ذلك لدلالة قوله: {أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ} وفي هذا المعنى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تسبوا أصحابي فلو أنفق أحدكم مثل أحد ذهبًا ما بلغ مدّ أحدهم ولا نصيفه»، يعني السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار وخاطب بذلك من جاء بعدهم من سائر الصحابة، ويدخل في الخطاب كل من يأتي إلى يوم القيامة {وَكُلًا وَعَدَ الله الحسنى} أي كل واحدة من الطائفتين الذين أنفقوا وقاتلوا قبل الفتح وبعده؛ وعدهم الله الجنة.
{مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} ذكر في [البقرة: 245].
{يَوْمَ تَرَى} العامل في الظرف آجر كريم أو تقدير اذكر {يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم} قيل: إن هذا النور استعارة يراد به الهدى والرضوان، والصحيح هو قول الجمهور أنه حقيقة، وقد روي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالمعنى على هذا أن المؤمنين يكون لهم يوم القيامة نور يضيء قدَّامهم وعن يمين كل واحد منهم. وقيل: يكون أصله في أيمانهم يحملونه فينبسط نوره قدامهم، وروي أن نور كل أحد على قدر إيمانه، فمنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يضيء ما قرب من قدميه، ومنهم من يضيء مرة ويهمُّ بالإطفاء مرة، قال ابن عطية: ومن هذه الآية أخذ الناس مشي المعتَق بالشمعة قُدَّام معتِقه إذا مات {بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ} أي يقال لهم ذلك.
{يَوْمَ يَقول المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} {يَوْمَ} بدل من يوم ترى أو متعلق بالفوز العظيم، أو بمحذوف: تقديره اذكر ومعنى الآية: أن كل مؤمن مظهر للإيمان يعطى يوم القيامة نورًا فيبقى نور المؤمنين وينطفئ نور المنافقين، فيقول المنافقون للمؤمنين، {انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ} أي نأخذ منه ونستضيء به. ومعنى انظرونا: انتظرونا. وذلك لأن المؤمنين يسرعون إلى الجنة كالبرق الخاطف، والمنافقون ليسوا كذلك. ويحتمل أن يكون من النظر أي انظروا إلينا، لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم فاستضاؤوا بنورهم. ولكن يضعف هذا لأن نظر إذا كان بمعنى النظر بالعين يتعدى بإلى، وقرئ انظرونا بهمزة قطع ومعناه أخرونا أي أمهلونا في مشيكم حتى نحلقكم {قِيلَ ارجعوا وَرَاءَكُمْ فالتمسوا نُورًا} يحتمل أن يكون هذا من قول المؤمنين، أو قول الملائكة ومعناه الطرد للمنافقين، والتهكم بهم؛ لأنهم قد علموا أن ليس وراءهم نور، {وَرَاءَكُمْ} ظرف العامل فيه {ارجعوا} وقيل: إنه لا موضع له من الإعراب، وأنه كما لو قال: ارجعوا ومعنى هذا الرجوع، ارجعوا إلى الموقف فالتمسوا فيه النور، أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا النور بتحصيل الإيمان أو ارجعوا خائبين، وتنحوا عنا فالتمسوا نورًا آخر، فلا سبيل لكم إلى هذا النور {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ} أي ضرب بين المؤمنين والمنافقين بسور يفصل بينهم، وفي ذلك السور باب لأهل الجنة يدخلون منه وقيل: إن هذا السور هو الأعراف وهو سور بين الجنة والنار. وقيل: هو الجدار الشرقي من بيت المقدس، وهذا بعيد {بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب} باطنه هو جهة المؤمنين، وظاهره هو جهة المنافقين وهي خارجة. كقوله ظاهر المدينة أي خارجها. والضمير في باطنه وظاهره يحتمل أن يكون للسور أو للباب والأول أظهر.
{يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين فيقولون لهم: ألم نكن معكم في الدنيا؟ يريدون إظهارهم الإيمان {فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أي أهلكتموها وأظللتموها بالنفاق {وَتَرَبَّصْتُمْ} أي أبطأتم بإيمانكم وقيل: تربصتم الدوائر بالنبي صلى الله عليه وسلم وبالمسلمين {وارتبتم} أي شككتم في الإيمان {وَغرَّتْكُمُ الأماني} أي طول الأمل والتمني، ومن ذلك أنهم كانوا يتمنون أن يهلك النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، أو يهزمون إلى غير ذلك من الأماني الكاذبة {حتى جَاءَ أَمْرُ الله} أي الفتح وظهور الإسلام، أو موت المنافقين على الحال الموجبة للعذاب {الغرور} هو الشيطان {هِيَ مَوْلاَكُمْ} أي هو أولى بكم وحقيقة المولى الولي الناصر، فكان هذا استعارة منه، أي لا وليّ لكم تأوون إليه إلا النار. اهـ.

.قال البيضاوي:

سورة الحديد مدنية وقيل مكية وآيها تسع وعشرون آية.
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
{سَبَّحَ للَّهِ مَا في السموات والأرض}.
ذكر ها هنا وفي (الحشر) و(الصف) بلفظ الماضي، وفي (الجمعة) و(التغابن) بلفظ المضارع إشعارًا بأن من شأن ما أسند إليه أن يسبحه في جميع أوقاته، لأنه دلالة جِبِلِّية لا تختلف باختلاف الحالات، ومجيء المصدر مطلقًا في (بني إسرائيل) أبلغ من حيث إنه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كل شيء وفي كل حال، وإنما عدي باللام وهو متعد بنفسه مثل نصحت له في نصحته إشعارًا بأن إيقاع الفعل لأجل الله وخالصًا لوجهه. {وَهُوَ العزيز الحكيم} حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح.
{لَّهُ مُلْكُ السموات والأرض} فإنه الموجد لها والمتصرف فيها. {يُحْيِي وَيُمِيتُ} استئناف أو خبر لمحذوف {وَهُوَ على كُلّ شَىْءٍ} من الإِحياء والإِماتة وغيرهما. {قَدِيرٌ} تام القدرة.