فصل: قال القاسمي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



تنبيه:
التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدين وقد يكون في أحكام الدنيا فأمّا التقدّم في أحكام الدين فقالت عائشة «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننزل الناس منازلهم وأعظم المنازل مرتبة الصلاة» وقد قال صلى الله عليه وسلم في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» وقال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» وقال: «فليؤمكما أكبركما» وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين فمن قدّم في الدين قدّم في الدنيا، وفي الحديث «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا» وفي الحديث: «ما أكرم شاب شيخًا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه».
ثم رغب في الإنفاق بقوله تعالى: {من} وأكد بالإشارة بقوله تعالى: {ذا} لأجل ما للنفوس من الشح {الذي يقرض الله} أي: يعطي الذي له جميع صفات الجلال والإكرام شبه ذلك بالقرض على سبيل المجاز لأنه إذا أعطى المستحق ما له لوجه الله تعالى فكأنه أقرضه إياه {قرضًا حسنًا} أي: طيبًا خالصًا مخلصًا فيه متحرياّ به أفضل الوجوه من غير منّ وكدر بتسويف وغيره {فيضاعفه له} أي: يؤتي أجره من عشرة إلى أكثر من سبعمئة كما ذكره في البقرة إلى ما شاء الله تعالى من الأضعاف، وقيل: القرض الحسن أن يقول: سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل، وقال الحسن: التطوع بالعبادات، وقرأ ابن عامر وعاصم بنصب الفاء بعد العين والباقون بالرفع وقرأ ابن كثير وابن عامر بغير ألف بعد الضاد وتشديد العين، والباقون بألف بعد الضاد وتخفيف العين {وله} أي: للمقرض زيادة على ذلك {أجر} لا يعلم قدره إلا الله تعالى وهو معنى وصفه بقوله تعالى: {كريم} أي: حسن طيب زاك تامّ وقوله تعالى: {يوم} ظرف لقوله تعالى: {وله أجر كريم} أو منصوب بإضمار أذكر أي: واذكر يوم {ترى} أي: بالعين {المؤمنين والمؤمنات} أي: الذين صار الإيمان لهم صفة راسخة {يسعى نورهم} أي: ما يوجب نجاتهم وهدايتهم إلى الجنة {بين أيديهم وبأيمانهم} لأن السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم ووراء ظهورهم فيجعل النور في الجهتين شعار لهم وآية لأنهم هم الذين بحسناتهم سعدوا وبصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنة ومرّوا على الصراط يسعون يسعى معهم ذلك النور حبيبًا لهم ومتقدّمًا، والأوّل: نور الإيمان والمعرفة والأعمال المقبولة، والثاني: نور الإنفاق لأنه بالإيمان نبه عليه الرازي وقال قتادة: ذكر لنا أنّ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم: «قال من المؤمنين من يضيء نوره من المدينة إلى عدن ودون ذلك حتى أنّ من المؤمنين من لا يضيء نوره إلا موضع قدميه». وقال عبد الله بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم وأدناهم نورًا نوره على إبهامه فيطفأ مرة ويتقد أخرى ويقول لهم الذين يتلقونهم من الملائكة: {بشراكم اليوم} أي: بشارتكم العظيمة في جميع ما يستقبلكم من الزمان.
تنبيه:
{بشراكم اليوم} مبتدأ واليوم ظرف وقوله تعالى: {جنات} خبره على حذف مضاف أي: دخول جنات وهو المبشر به ثم وصفها بما لا تكمل اللذة إلا به بقوله: {تجري من تحتها الأنهار} ثم آمنهم من خوف الانقطاع بقوله تعالى: {خالدين فيها} أي: خلودًا لا آخر له لأنّ الله تعالى أورثهم ذلك فلا يورث عنه لأنّ الجنة لا موت فيها {ذلك} أي: هذا الأمر العظيم المتقدّم من النور والبشرى بالجنات المخلدة {هو الفوز العظيم} أي: الذي ملأ بعظمته جميع جهاتهم.
ولما شرح تعالى حال المؤمنين في موقف القيامة أتبع ذلك بشرح حال المنافقين بقوله: {يوم يقول المنافقون والمنافقات} وهم المظهرون الإيمان المبطنون الكفر.
تنبيه:
يوم بدل من يوم ترى أو منصوب بأذكر {للذين آمنوا} أي: ظاهرًا وباطنًا {انظرونا} أي: انتظرونا لأنه يسرع بهم إلى الجنة كالبرق الخاطف على ركائب تزف بهم وهؤلاء مشاة، أو انظروا إلينا لأنهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم والنور بين أيديهم فيستضيئون به، وقرأ حمزة: بقطع الهمزة في الوصل وكسر الظاء والباقون بوصل الهمزة ورفع الظاء، وأما الوقف على آمنوا والابتداء بانظرونا فحمزة على حاله كما يقرأ في الوصل، والباقون بضم همزة الوصل في الابتداء والظاء على حالها من الضم {نقتبس} أي: نستضيء {من نوركم} أي: هذا الذي نراه لكم ولا يلحقنا منه شيء كما كنا في الدنيا نرى إيمانكم بما نرى من ظواهركم ولا نتعلق من ذلك بشيء، {جزاء وفاقًا} [النبأ].
وذلك لأنّ الله تعالى يضيء للمؤمنين نورًا على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضًا نورًا خديعة لهم وهو قوله تعالى: {وهو خادعهم} [التحريم].
فبينما هم يمشون إذ بعث الله ريحًا وظلمة فأطفأت نور المنافقين فذلك قوله تعالى: {يوم لا يخزى الله النبي والذين آمنوا معه} الآية مخافة أن يسلبوا نورهم كما سلب نور المنافقين والقبس الشعلة من النار أو السراج، قال ابن عباس وأبو إمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة؛ قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء ثم يعطون نورًا يمشون فيه؛ وقال الكلبي: بل يستضيء المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور فإذا سبقهم المؤمنون وبقوا في الظلمة قالوا للمؤمنين: {انظرونا نقتبس من نوركم} قيل لهم جوابًا لسؤالهم؛ قال ابن عباس يقول لهم المؤمنون: أي: قول ردّ وتوبيخ وتهكم وتنديم {ارجعوا وراءكم} أي: ارجعوا إلى الموقف حيث أعطينا النور {فالتمسوا نورًا} هناك فمن ثم يقتبس أو ارجعوا إلى الدنيا فالتمسوا نورًا بتحصيل سببه وهو الإيمان أو ارجعوا خائبين وتنحوا عنا والتمسوا نورًا آخر فلا سبيل لكم إلى هذا النور، وقد علموا أن لا نور وراءهم وإنما هو تخييب وإقناط لهم، وقال قتادة: تقول لهم الملائكة: ارجعوا وراءكم من حيث جئتم، وقرأ هشام والكسائي: بضم القاف والباقون بكسرها.
ولما كان التقدير فرجعوا أو فأقاموا في الظلمة سبب عنه وعقب قوله تعالى: {فضرب بينهم} أي: بين المؤمنين والمنافقين {بسور} أي: حائط حائل بين شق الجنة وشق النار {له} أي: لذلك السور {باب} موكل به حجاب لا يفتحون إلا لمن أذن له الله تعالى من المؤمنين لما يهديهم إليه من نورهم الذي بين أيديهم بشفاعة أو نحوها {باطنه} أي: ذلك السور أو الباب وهو الشق الذي يلي الجنة من جهة الذين آمنوا جزاء لإيمانهم الذي هو غيب {فيه الرحمة} وهي ما لهم من الكرامة لأنه يلي الجنة التي هي ساترة تبطن من فيها بأشجارها وبأستارها كما كانت بواطنهم ملآنة رحمة {وظاهره} أي: ما ظهر لأهل النار {من قبله} أي: من عنده ومن جهته {العذاب} وهو الظلمة والنار لأنه يليها لاقتصار أهلها على الظواهر من غير أن يكون لهم نفوذ إلى باطن، وروي عن عبد الله بن عمر أنّ السور الذي ذكر الله تعالى في القرآن هو سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد وظاهره من قبله العذاب وادي جهنم.
وقال ابن سريج: كان كعب يقول: في الباب الذي يسمى باب الرحمة في بيت المقدس إنه الباب الذي قال الله تعالى: {فضرب بينهم بسور له باب} الآية، وقيل: السور عبارة عن منع المنافقين عن طلب المؤمنين {ينادونهم} أي: ينادي المنافقون الذين آمنوا ويترققون لهم {ألم نكن معكم} أي: في الدنيا نصلي ونصوم فنستحق المشاركة فيما صرتم إليه بسبب ذلك الذي كنا معكم فيه {قالوا} أي: الذين آمنوا {بلى} أي: كنتم معنا في الظاهر {ولكنكم فتنتم أنفسكم} أهلكتموها بالنفاق والكفر واستعملتموها في المعاصي والشهوات وكلها فتنة {وتربصتم} أي: بالإيمان والتوبة وبمحمد صلى الله عليه وسلم وقلتم: يوشك أن يموت فنستريح منه {وارتبتم} أي: شككتم في الدين وفي نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وفيما وعدكم به {وغرّتكم الأمانيّ} أي: ما تتمنون من الإرادات التي معها شهوة عظيمة من الأطماع الفارغة التي لا سبب لها غير شهوة النفس إياها بما كنتم تتوقعون لنا من دوائر السوء {حتى جاء أمر الله} أي: قضاء الملك المتصف بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له ولا خلف وقرأ قالون وأبو عمرو بإسقاط الهمزة الأولى مع المدّ والقصر، وقرأ ورش وقنبل بتسهيل الثانية، وأيضًا لهما إبدالها والباقون بتحقيقهما، وأمال الألف بعد الميم حمزة وابن ذكوان، والباقون بالفتح وإذا وقف حمزة وهشام أبدلا الهمزة الثانية مع المدّ والتوسط والقصر {وغرّكم بالله} أي: الملك الذي له جميع العظمة {الغرور} أي: من لا صنع له إلا الكذب وهو الشيطان فإنه يزين لكم بغروره التسويف ويقول: إنّ الله غفور رحيم وعفو كريم وماذا عسى أن تكون ذنوبكم عنده وهو عظيم ومحسن وحليم ونحو ذلك فلا يزال حتى يوقع الإنسان فإذا أوقعه واصل عليه مثل ذلك حتى يتمادى فإذا تمادى صار الباعث له حينئذ من قبل نفسه فصار طوع يده {فاليوم} أي: بسبب أفعالكم تلك {لا يؤخذ منكم فدية} أي: نوع من أنواع الفداء وهو البدل والعوض للنفس على أي حال كان من قلة أو كثرة لأنّ الإله غني وقد فات محل العمل الذي شرعه لكم لانقياد أنفسكم، وقرأ ابن عامر بالتاء الفوقية على التأنيث والباقون بالتحتية على التذكير {ولا من الذين كفروا} أي: الذين أظهروا كفرهم ولم يستروه كما سترتموه أنتم لمساواتكم لهم في الكفر، وإنما عطف الكافر على المنافق وإن كان المنافق كافرًا في الحقيقة لأنّ المنافق أبطن الكفر والكافر أظهره فصار غير المنافق فحسن عطفه على المنافق {مأواكم النار} أي: منزلكم ومسكنكم لا مقر لكم غيرها تحرقكم كما كنتم تحرقون قلوب الأولياء بإقبالكم على الشهوات وإضاعة حقوق ذوي الحاجات، وقرأ حمزة والكسائي بالإمالة محضة، وقرأ ورش بالفتح وبين اللفظين، والباقون بالفتح، وورش لا يبدل هذه الهمزة ثم أكد ذلك بقوله تعالى: {هي} أي: لا غيرها {مولاكم} أي: هي أولى بكم وأنشد قول لبيد:
فغدت كلا الفرجين تحسب أنه ** مولى المخافة خلفها وأمامها

والشاهد في مولى المخافة فمولى بمعنى أولى والفرجان الجانبان وهو الخلف والقدام وهو وصف بقرة وحشية أي: غدت على حالة كلا جانبيها مخوف وحقيقته في الآية محراكم بحاء مهملة وراء أي: مكانكم الذي يقال فيه هو أولى بكم كما قيل هو مئنة للكرم أي: مكان، كقول القائل: إنه لكريم، ويجوز أن يراد هي ناصركم، أي: لا ناصر لكم غيرها، والمراد: نفي الناصر على البنات، وقيل: تتولاكم كما توليتم في الدنيا أعمال أهل النار.
ولما كان التقدير بئس المولى هي عطف عليه قوله تعالى: {وبئس المصير} أي: هذه النار. اهـ.

.قال القاسمي:

سورة الحديد:
{بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}.
{سبح لله ما فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: أظهر كل موجود تنزيهه عن الشريك والولد، وكل مالا يليق به، وآذن بانفراده في ألوهيته، وتدبيره وعلمه وقدرته؛ فإن من شاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على حال من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه، ولا تنتهي غاياته، فبالضرورة يقضي بأن هذا الترتيب المحكَم هو أثرُ خالق واحد، مدبر لنظامه، مريد لسيره في سننه، كما بسطناه في (دلائل التوحيد).
{وَهُوَ الْعَزِيزُ} أي: القويّ الذي يقهر كل ما في السماوات والأرض {الْحَكِيمُ} أي: الذي رتب نظام كل موجود على ترتيب حكمي.
{لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} أي: سلطانهما، ونفوذ الأمر فيهما {يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي: يوجد ما يشاء من الحيوان والنبات كيفما شاء، ويميته بعد بلوغه أجله فيفنيه {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي: تام القدرة، فلا يتعذر عليه شيء أراده من إحياء وإماته وغيرهما.
{هُوَ الْأَوَّلُ} أي: السابق على كل موجود، من حيث إنه موجده ومحدثه {وَالآخِرَ} أي: الباقي بعد فناء كل شيء {وَالظَّاهِرُ} أي: وجوده بالأدلة الدالة عليه. وقال ابن جرير: أي: الظاهر على كل شيء من دونه، وهو العالي فوق كل شيء فلا شيء أعلى منه {وَالْبَاطِنُ} أي: باحتجابه بذاته وماهيته، أو العالم بباطن كل شيء. قال ابن جرير: أي: الباطن جميع الأشياء فلا شيء أقرب إلى شيء منه، كما قال: {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ} [ق: 16]، {وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي: تام العلم، فلا يخفى عليه شيء.
وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم: «اللهم ربَّ السماوات السبع ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، فالق الحب والنوى، لا إله إلا أنت، أعوذ بك من شر كل ذي شر أنت آخذ بناصيته، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدَّين وأغننا من الفقر» رواه مسلم وغيره.
{هُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} قال القاشانيّ: أي: من الأيام الإلهية، وقيل المعهودة، والله أعلم.
{ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} قال ابن جرير: أي: هو الذي أنشأ السماوات السبع والأرضين، فدبّرهن وما فيهن، ثم استوى على عرشه فارتفع عليه وعلا.
{يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ} أي: من خلقه، كالأموات والبذور والحيوانات {وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا} أي: كالزروع {وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء} أي: من الأمطار والثلوج والبرَد والأقدار والأحكام {وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا} أي: من الملائكة والأعمال وغيرها {وهو معكم اينما كنتم} قال ابن جرير: أي: وهو شاهد لكم، أينما كنتم، يعلَمكُم ويعلم أعمالكم ومتقلبكم ومثواكم، وهو على عرشه فوق سماواته السبع.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في (شرح حديث النزول): لفظ المعية في سورة الحديد والمجادلة، في آيتيهما، ثبت تفسيره عن السلف بالعلم، وقالوا: هو معهم بعلمه. وقد ذكر الإمام ابن عبد البر وغيره، أن هذا إجماع من الصحابة والتابعين لهم بإحسان، ولم يخالفهم أحد يعتدّ بقوله، وهو مأثور عن ابن عباس والضحاك ومقاتل بن حيان وسفيان الثوري وأحمد بن حنبل وغيرهم. قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية: هو على العرش وعلمه معهم، وهكذا عمن ذكر معه. وقد بسط الإمام أحمد الكلام على المعية في (الرد على الجهمية). ولفظ المعية في كتاب الله جاء عامًا كما في هاتين الآيتين، وجاء خاصًا كما في قوله تعالى: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل: 128]، وقوله: {إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى} [طه: 46]، وقوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} [التوبة: 40]، فلو كان المراد بذاته مع كل شيء، لكان التعميم يناقض التخصيص، فإنه قد علم أن قوله: {لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا} أراد به تخصيصه وأبا بكر، دون عدوهّم من الكفار. وكذلك قوله: {إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ} خصهم بذلك دون الظالمين والفجار. وأيضًا فلفظ المعية، ليست في لغة العرب، ولا شيء من القرآن أن يراد بها اختلاط إحدى الذاتين بالأخرى، كما في قوله: {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ} [الفتح: 29]، وقوله: {فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [النساء: 146]، وقوله: {اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] وقوله: {وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ} [الأنفال: 75]، ومثل هذا كثير. وأيضًا فامتنع أن يكون قوله: {وَهُوَ مَعَكُمْ} يدل على أن ذاته مختلطة بذوات الخلق. وأيضًا فإنه افتتح الآية بالعلم، وختمها بالعلم، فكان السياق يدل على أنه أراد أنه عالم به. وقد بُسِط الكلام عليه في موضع آخر، وبيّن أن لفظ المعية في اللغة، وإن اقتضى المصاحبة والمقاربة، فهو إذا كان مع العباد، لم يناف ذلك علوَّه على عرشه، ويكون حكم معيته في كل موطن بحسبه، فمع الخلق كلهم بالعلم والقدرة والسلطان، ويخص بعضهم بالإعانة والنصر والتأييد. انتهى.
وقال الإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي رضي الله عنه في كتاب (ذم التأويل):