فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ ابن كثير بتخفيف الصاد فيهما من التصديق، أي: صدّقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء به {وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضًا حَسَنًا} معطوف على اسم الفاعل في المصدّقين؛ لأنه لما وقع صلة للألف واللام الموصولة حلّ محلّ الفعل، فكأنه قال: إن الذين تصدّقوا وأقرضوا، كذا قال أبو علي الفارسي وغيره.
وقيل: جملة: {وأقرضوا} معترضة بين اسم إن وخبرها، وهو {يضاعف} وقيل: هي صلة لموصول محذوف، أي: والذين أقرضوا، والقرض الحسن عبارة عن التصدق والإنفاق في سبيل الله مع خلوص نية، وصحة قصد، واحتساب أجر.
قرأ الجمهور: {يضاعف لهم} بفتح العين على البناء للمفعول، والقائم مقام الفاعل إما الجار والمجرور، أو ضمير يرجع إلى المصدّقين على حذف مضاف أي: ثوابهم، وقرأ الأعمش: {يضاعفه} بكسر العين وزيادة الهاء.
وقرأ ابن كثير، وابن عامر، ويعقوب: {يضعف} بتشديد العين وفتحها {وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} وهو الجنة، والمضاعفة هنا أن الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف.
{والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ} جميعًا، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول، وخبره قوله: {هُمُ الصديقون والشهداء} الجملة خبر الموصول.
قال مجاهد: كل من آمن بالله ورسله فهو صدّيق.
قال المقاتلان: هم الذين لم يشكوا في الرسل حين أخبروهم ولم يكذّبوهم.
وقال مجاهد: هذه الآية للشهداء خاصة، وهم الأنبياء الذين يشهدون للأمم وعليهم، واختار هذا الفراء، والزجاج.
وقال مقاتل بن سليمان: هم الذين استشهدوا في سبيل الله، وكذا قال ابن جرير، وقيل: هم أمم الرسل يشهدون يوم القيامة لأنبيائهم بالتبليغ، والظاهر أن معنى الآية: إن الذين آمنوا بالله ورسله جميعًا بمنزلة الصدّيقين والشهداء المشهورين بعلوّ الدرجة عند الله، وقيل: إن الصدّيقين هم المبالغون في الصدق حيث آمنوا بالله، وصدّقوا جميع رسله، والقائمون لله سبحانه بالتوحيد.
ثم بيّن سبحانه ما لهم من الخير بسبب ما اتصفوا به من الإيمان بالله ورسله فقال: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} والضمير الأوّل راجع إلى الموصول، والضميران الأخيران راجعان إلى الصدّيقين والشهداء، أي: لهم مثل أجرهم ونورهم، وأما على قول من قال: إن الذين آمنوا بالله ورسله هم نفس الصديقين والشهداء، فالضمائر الثلاثة كلها راجعة إلى شيء واحد، والمعنى: لهم الأجر والنور الموعودان لهم.
ثم لما ذكر حال المؤمنين وثوابهم، ذكر حال الكافرين وعقابهم، فقال: {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا} أي: جمعوا بين الكفر وتكذيب الآيات، والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول باعتبار ما في صلته من اتصافهم بالكفر والتكذيب، وهذا مبتدأ، وخبره {أصحاب الجحيم} يعذبون بها، ولا أجر لهم ولا نور، بل عذاب مقيم وظلمة دائمة.
وقد أخرج ابن مردويه عن أنس عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة سنة من نزول القرآن، فأنزل الله: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ}... الآية».
وأخرج ابن مردويه عن عائشة قالت: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفر من أصحابه في المسجد، وهم يضحكون، فسحب رداءه محمرًا وجهه فقال: «أتضحكون، ولم يأتكم أمان من ربكم بأنه قد غفر لكم، ولقد أنزل عليّ في ضحككم آية: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}» قالوا: يا رسول الله، فما كفارة ذلك؟ قال: «تبكون بقدر ما ضحكتم» وأخرج مسلم، والنسائي، وابن ماجه، وابن المنذر، وابن مردويه عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} إلاّ أربع سنين.
وأخرج نحوه عنه ابن المنذر، والطبراني، والحاكم وصححه، وابن مردويه من طريق أخرى.
وأخرج أبو يعلى، وابن مردويه عنه أيضًا قال: لما نزلت هذه الآية أقبل بعضنا على بعض: أيّ شيء أحدثنا: أيّ شيء صنعنا؟.
وأخرج ابن أبي حاتم، وابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن: {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ}... الآية.
وأخرج ابن أبي شيبة في المصنف عن عبد العزيز بن أبي روّاد أن أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم ظهر فيهم المزاح والضحك، فنزلت هذه الآية {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ}.
وأخرج ابن المبارك عن ابن عباس {اعلموا أَنَّ الله يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} قال: يعني: أنه يلين القلوب بعد قسوتها.
وأخرج ابن جرير عن البراء بن عازب سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «مؤمنو أمتي شهداء» ثم تلا النبيّ صلى الله عليه وسلم {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ}.
وأخرج ابن المنذر عن ابن مسعود قال: كل مؤمن صديق وشهيد.
وأخرج الحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إن الرجل ليموت على فراشه، وهو شهيد، ثم تلا هذه الآية: وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي هريرة نحوه.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس {والذين ءامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون} قال: هذه مفصولة {والشهداء عِندَ رَبّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}.
وأخرج ابن حبان عن عمرو بن مرة الجهني قال: جاء رجل إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله أرأيت إن شهدت أن لا إله إلاّ الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وأدّيت الزكاة، وصمت رمضان، وقمته فممن أنا؟ قال: «من الصدّيقين والشهداء». اهـ.

.تفسير الآية رقم (20):

قوله تعالى: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما ذكر سبحانه حال الفريقين: الأشقياء والسعداء، فتقرر بذلك أمر الآخرة، فعلموا أنها الحيوان الذي لا انقضاء له من إكرام أو هوان، وكان الموجب للهوان فيها إنما هو الإقبال على الدنيا لحضورها ونسيان الآخرة لغيابها، قال منتجًا مما مضى مبينًا لحقيقة ما يرغب فيه المكلف المركب على الشهوة من العاجلة بما نزهه فيه مصدّرًا له بما يوجب غاية اليقظة والحضور: {اعلموا} أي أيها العباد المبتلون، وأكد المعنى بزيادة {ما} لما للناس من الغفلة عنه فقال قاصرًا قصر قلب: {إنما الحيوة الدنيا} أي الحاضرة التي رغبت في الزهد فيها والخروج عنها بالصدقة والقرض الحسن {لعب} أي تعب لا ثمرة له فهو باطل كلعب الصبيان {ولهو} أي شيء يفرح الإنسان به فيلهيه ويشغله عما يعنيه ثم ينقضي كلهو الفتيان، ثم أتبع ذلك عظم ما يلهي في الدنيا فقال: {وزينة} أي شيء يبهج العين ويسر النفس كزينة النسوان، وأتبعها ثمرتها فقال: {وتفاخر} أي كتفاخر الأقران يفتخر بعضهم على بعض.
ولما كان ذلك مخصوصًا بأهل الشهوات قال: {بينكم} أي يجر إلى الترفع الجارّ إلى الحسد والبغضاء، ثم أتبع ذلك ما يحصل به الفخر فقال: {وتكاثر} أي من الجانبين {في الأموال} أي التي لا يفتخر بها إلا أحمق لكونها مائلة {والأولاد} الذين لا يغتر بهم إلا سفيه لأنهم الأعداء، وأن جميع ما ذكر زائل وأن الدنيا آفاتها هائلة، وإنما هي فتنة وابتلاء يظهر بها الشاكر من غيره، ثم إلى ذلك كله قد يكون ذهابه عن قرب فتكون على أضداد ما كان عليه، فيكون أشد في الحسرة، ومطابقة ذلك لما بعده ان الإنسان ينشأ في حجر وليه فيشب ويقوى ويكسب المال والولد وثم تغشاه الناس فيكون بينهم أمور معجبة وأحوال ملهية مطربة، فإذا تم شبابه وأطفأه مجيئه وذهابه وأشكاله وأترابه، أخذ في الانحطاط ولا يزال حتى يشيب ويسقم ويضعف ويهرم وتصيبه النوائب والقوارع والمصائب في ماله وجسمه وأولاده وأصحابه، ثم في آخر ذلك يموت، فإذا قد اضمحل أمره ونسي عما قليل ذكره، وصار ماله لغيره وزينته متمتعًا بها سواه فالدنيا حقيرة وأحقر منها طالبها وأقل منها خطر المزاحم فيها، فما هي إلا جيفة، وطلاب الجيفة ليس لهم خطر، وأخسهم من بخل بها، قال القشيري: وهذه الدنيا المذمومة هي ما يشغل العبد عن الآخر فكل ما يشغله عن الآخرة فهو الدنيا- انتهى.
ولما قرر سبحانه أنها ظل زائل وعرض هائل، وكان بعض الناس يتنبه فيشكر وبعضهم يعمى فيكفر، كان القسم الثاني أكثر لأن وجودها وإقبالها يعمي أكثر القلوب عن حقارتها، ضرب لذلك مثلًا مقررًا لما مضى من وصفها لأن للأمثال في تقرير الأشياء وتصويرها ما ليس لغيرها فقال تعالى: {كمثل} أي هذا الذي ذكرته من أمرها يشبه مثل {غيث} أي مطر حصل بعد جدب وسوء حال.
ولما كان المثل في سياق التحقير للدنيا والتنفير عنها، عبر عن الزارع بما ينفر فقال: {أعجب الكفار} أي الزراع الذين حصل منهم الحرث والبذرة الذي يستره الحارث بحرثه كما ستر الكافر حقيقة أنوار الإيمان لما يحصل من الجحد والطغيان ولا يتناهى إعجاب الزارع إلى حد يلهي عن الله إلا مع الكفر به سبحانه فإن المؤمن وإن أعجبه ذلك يتذكر به قدرة الله سبحانه وتعالى وعظمته وما أعد لأهل طاعته في الآخرة، فيحمله ذلك على الطاعة، فالتعبير بالكفار الذي هو بمعنى الزراع دونه إشارة إلى عظمة ذلك النبات فإنه لا يعجب العارفين به الممارسين له الذين لهم غاية الإقبال على تلك الحرفة فالمنافسة فيها إلا ما يكون منها نهاية في الإعجاب، وإلى أنه لا يعجب أحدًا شيء من الدنيا إعجابًا يركن ويأنس به أنسًا يؤدي إلى ما في الآية من اللهو وما معه إلا لكفر في نفسه أقله كفر النعمة التي من شأنها أن تدعو إلى تذكر الخالق وتذكر الجميل على الشكر، وترك الشكر كفر {نباته} أي نبات ذلك الغيب كما يعجب الكافر في الكفر في الغالب بسط الدنيا له استدراجًا من الله تعالى.
ولما كان الزرع يشيخ بعد مُدَيدة فيضمحل كما هو شأن الدنيا كلها قال: {ثم يهيج} أي يسرع تحركه فيتم جفافه فيحين حصاده {فتراه مصفرًا} أي عقب ذلك بالقرب منه على حالة لا ثمر معها بل ولا نبات، ولذلك قال معبرًا بالكون لأن السياق للتزهيد في الدنيا وأنها ظل زائل لا حقيقة لها: {ثم} أي بعد تناهي جفافه وابيضاضه {يكون} أي كونًا كأنه مطبوع عليه، وأبلغ سبحانه في تقرير اضمحلاله بالإتيان مع فعل الكون هنا للمبالغة لأن السياق لتقرير أن الدنيا عدم وإن كانت في غاية الكثرة والإقبال والمؤاتاة بخلاف ما مضى في الزمر فقال: {حطامًا} كأن الحطامية كانت في جبلته وأصل طبعه.
ولما ذكر الظل الزائل، ذكر أثره الثابت الدائم مقسمًا له على قسمين، فقال عاطفًا على ما تقديره هذا حال الدنيا في سرعة زوالها وتحقق فنائها واضمحلالها: {وفي} أي هذا الذي غر من حال الدنيا وهو في {الآخرة} على أحدهما {عذاب شديد} أي لمن أخذها بغير حقها معرضًا عن ذكر الله لأن الاغترار بها سببه، فكان كأنه هو.
ولما قدم ما هو السبب الأغلب لأن أكثر الخلق هالك، أتبعه الصنف الناجي.
فقال: {ومغفرة} أي لأهل الدرجة الأولى في الإيمان {من الله} أي الملك الأعظم لمن يذكر بما صنعه له في الدنيا عظمته سبحانه وجلاله فتاب من ذنوبه، ورجع إليه في التطهير من عيوبه {ورضوان} لأهل الدرجة العليا وهم من أقبل عليه سبحانه فشكره حق شكره ببذل وسعه فيما يرضيه، فآخر الآية تقسيم للدنيا على الحقيقة لئلا يظن من حصرها فيما ذكر أول الآية أنها لا تكون إلا كذلك، فالمعنى أن الذي ذكره أولًا هو الأغلب لأحوالها وعاقبته النار، وما كان منها من إيمان وطاعة ونظر توحيد لله وتعظيم ومعرفة تؤدي إلى أخذها تزودًا ونظرها اعتبارًا وتعبدًا، فهو آخره لا دنيا، وقد تحرر أن مثل الغيث المذكور الحطام وتارة يعقبه نكد لازم وأخرى سرور دائم، فمن عمل في ذلك عمل الحزمة فحرس الزرع ما يؤذيه وحصده في وقته وعمل فيه ما ينبغي ولم ينس حق الله فيه سره أثره وحمدت عاقبته، ومن أهمل ذلك أعقبه الأسف، وذلك هو مثل الدنيا: من عمل فيها بأمر الله أعقبته حطاميتها سرورًا دائمًا، ومن أهمل ذلك أورثته حزنًا لازمًا، وكما كان التقدير: فما الآخرة لمن سعى لها سعيها وهو مؤمن إلا حق مشهور وسعي مشكور، عطف عليه قوله: {وما الحياة الدنيا} أي لكونها تشغل بزينتها مع أنها زائلة {إلا متاع الغرور} أي لهو في نفسه غرور لا حقيقة له إلا ذلك، لأنه لا يجوز لمن أقبل على التمتع إلا ذلك لأنه لا يسر بقدر ما يضر. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

ولما ذكر أحوال المؤمنين والكافرين ذكر بعده ما يدل على حقارة الدنيا وكمال حال الآخرة فقال: {اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ} وفي الآية مسائل:
المسألة الأولى:
المقصود الأصلي من الآية تحقير حال الدنيا وتعظيم حال الآخرة فقال: الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر، ولا شك أن هذه الأشياء أمور محقرة، وأما الآخرة فهي عذاب شديد دائم أو رضوان الله على سبيل الدوام، ولا شك أن ذلك عظيم.
المسألة الثانية:
اعلم أن الحياة الدنيا حكمة وصواب، ولذلك لما قال تعالى: {إِنّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً قال إِنّي أعلم مَا لا تَعْلَمُونَ} [البقرة: 30] ولولا أنها حكمة وصواب لما قال ذلك، ولأن الحياة خلقه، كما قال: {الذي خَلَقَ الموت والحياة} [الملك: 2] وأنه لا يفعل العبث على ما قال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خلقناكم عَبَثًا} [المؤمنين: 115] وقال: {وَمَا خَلَقْنَا السماء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا باطلا} ولأن الحياة نعمة بل هي أصل لجميع النعم، وحقائق الأشياء لا تختلف بأن كانت في الدنيا أو في الآخرة، ولأنه تعالى عظم المنة بخلق الحياة فقال: {كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنتُمْ أمواتا فأحياكم} [البقرة: 28] فأول ما ذكر من أصناف نعمه هو الحياة، فدل مجموع ما ذكرنا على أن الحياة الدنيا غير مذمومة، بل المراد أن من صرف هذه الحياة الدنيا لا إلى طاعة الله بل إلى طاعة الشيطان ومتابعة الهوى، فذاك هو المذموم، ثم إنه تعالى وصفها بأمور: أولها: أنها {لَعِبٌ} وهو فعل الصبيان الذين يتعبون أنفسهم جدًا، ثم إن تلك المتاعب تنقضي من غير فائدة وثانيها: أنها {لَهُوَ} وهو فعل الشبان، والغالب أن بعد انقضائه لا يبقى إلا الحسرة، وذلك لأن العاقل بعد انقضائه يرى المال ذاهبًا والعمر ذاهبًا، واللذة منقضية، والنفس ازدادت شوقًا وتعطشًا إليه مع فقدانها، فتكون المضار مجتمعة متوالية وثالثها: أنها {زِينَةُ} وهذا دأب النساء لأن المطلوب من الزينة تحسين القبيح، وعمارة البناء المشرف على أن يصير خرابًا، والاجتهاد في تكميل الناقص، ومن المعلوم أن العرضي لا يقاوم الذاتي، فإذا كانت الدنيا منقضية لذاتها، فاسدة لذاتها، فكيف يتمكن العاقل من إزالة هذه المفاسد عنها، قال ابن عباس: المعنى أن الكافر يشتغل طول حياته بطلب زينة الدنيا دون العمل للآخرة، وهذا كما قيل:
حياتك يا مغرور سهو وغفلة.. ورابعها: {تفاخر بينكم} بالصفات الفانية الزائلة، وهو إما التفاخر بالنسب، أو التفاخر بالقدرة والقوة والعساكر وكلها ذاهبة وخامسها: قوله: {وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد} قال ابن عباس: يجمع المال في سخط الله، ويتباهى به على أولياء الله، ويصرفه في مساخط الله، فهو ظلمات بعضها فوق بعض، وأنه لا وجه بتبعية أصحاب الدنيا يخرج عن هذه الأقسام، وبين أن حال الدنيا إذا لم يخل من هذه الوجوه فيجب أن يعدل عنها إلى ما يؤدي إلى عمارة الآخرة، ثم ذكر تعالى لهذه الحياة مثلًا، فقال: {كَمَثَلِ غَيْثٍ} يعني المطر، ونظيره قوله تعالى: