فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثم قال تعالى: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
احتج جمهور الأصحاب بهذا على أن الجنة مخلوقة، وقالت المعتزلة هذه الآية: لا يمكن إجراؤها على ظاهرها لوجهين: الأول: أن قوله تعالى: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} [الرعد: 35] يدل على أن من صفتها بعد وجودها أن لا تفنى، لكنها لو كانت الآن موجودة لفنيت بدليل قوله تعالى: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: 88] الثاني: أن الجنة مخلوقة وهي الآن في السماء السابعة، ولا يجوز مع أنها في واحدة منها أن يكون عرضها كعرض كل السموات، قالوا: فثبت بهذين الوجهين أنه لابد من التأويل، وذلك من وجهين: الأول: أنه تعالى لما كان قادرًا لا يصح المنع عليه، وكان حكيمًا لا يصح الخلف في وعده، ثم إنه تعالى وعد على الطاعة بالجنة، فكانت الجنة كالمعدة المهيأة لهم تشبيهًا لما سيقع قطعًا بالواقع، وقد يقول المرء لصاحبه: (أعدت لك المكافأة) إذا عزم عليها، وإن لم يوجدها، والثاني: أن المراد إذا كانت الآخرة أعدها الله تعالى لهم كقوله تعالى: {ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة} [الأعراف: 50] أي إذا كان يوم القيامة نادى الجواب: أن قوله: {كُلُّ شَيْء هَالِكٌ} عام، وقوله: {أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ} مع قوله: {أُكُلُهَا دَائِمٌ} خاص، والخاص مقدم على العام، وأما قوله ثانيًا: الجنة مخلوقة في السماء السابعة قلنا: إنها مخلوقة فوق السماء السابعة على ما قال عليه السلام في صفة الجنة: «سقفها عرش الرحمن» وأي استبعاد في أن يكون المخلوق فوق الشيء أعظم منه، أليس أن العرش أعظم المخلوقات، مع أنه مخلوق فوق السماء السابعة.
المسألة الثانية:
قوله: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} فيه أعظم رجاء وأقوى أمل، إذ ذكر أن الجنة أعدت لمن آمن بالله ورسله؛ ولم يذكر مع الإيمان شيئًا آخر، والمعتزلة وإن زعموا أن لفظ الإيمان يفيد جملة الطاعات بحكم تصرف الشرع، لكنهم اعترفوا بأن لفظ الإيمان إذا عدي بحرف الباء، فإنه باق على مفهومه الأصلي وهو التصديق، فالآية حجة عليهم، ومما يتأكد به ما ذكرناه قوله بعد هذه الآية: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} يعني أن الجنة فضل لا معاملة، فهو يؤتيها من يشاء من عباده سواء أطاع أو عصى، فإن قيل: فيلزمكم أن تقطعوا بحصول الجنة لجميع العصاة، وأن تقطعوا بأنه لا عقاب لهم؟ قلنا: نقطع بحصول الجنة لهم، ولا نقطع بنفي العقاب عنهم، لأنهم إذا عذبوا مدة ثم نقلوا إلى الجنة وبقوا فيها أبد الآباد، فقد كانت الجنة معدة لهم، فإن قيل: فالمرتد قد آمن بالله، فوجب أن يدخل تحت الآية قلت: خص من العموم، فيبقى العموم حجة فيما عداه.
ثم قال تعالى: {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} زعم جمهور أصحابنا أن نعيم الجنة تفضل محض لا أنه مستحق بالعمل، وهذا أيضًا قول الكعبي من المعتزلة، واحتجوا على صحة هذا المذهب بهذه الآية، أجاب القاضي عنه فقال: هذا إنما يلزم لو امتنع بين كون الجنة مستحقة وبين كونها فضلًا من الله تعالى، فأما إذا صح اجتماع الصفتين فلا يصح هذا الاستدلال، وإنما قلنا: إنه لا منافاة بين هذين الوصفين، لأنه تعالى هو المتفضل بالأمور التي يتمكن المكلف معها من كسب هذا الاستحقاق، فلما كان تعالى متفضلًا بما يكسب أسباب هذا الاستحقاق كان متفضلًا بها، قال: ولما ثبت أن قوله: {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ} لابد وأن يكون مشروطًا بما يستحقه، ولولا ذلك لم يكن لقوله من قبل: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} معنى.
واعلم أن هذا ضعيف لأن كونه تعالى متفضلًا بأسباب ذلك الكسب لا يوجب كونه تعالى متفضلًا بنفس الجنة، فإن من وهب من إنسان كاغدًا ودواة وقلمًا، ثم إن ذلك الإنسان كتب بذلك المداد على ذلك الكاغد مصحفًا وباعه من الواهب، لا يقال: إن أداء ذلك الثمن تفضيل، بل يقال: إنه مستحق، فكذا ههنا، وأما قوله أولًا إنه لابد من الاستحقاق، وإلا لم يكن لقوله من قبل: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ} معنى، فجوابه أن هذا الاستدلال عجيب، لأن للمتفضل أن يشرط في تفضله أي شرط شاء، ويقول: لا أتفضل إلا مع هذا الشرط.
ثم قال تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} والمراد منه التنبيه على عظم حال الجنة، وذلك لأن ذا الفضل العظيم إذا أعطى عطاء مدح به نفسه وأثنى بسببه على نفسه، فإنه لابد وأن يكون ذلك العطاء عظيمًا.
{مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22)}.
قال الزجاج: إنه تعالى لما قال: {سَابِقُواْ إلى مَغْفِرَةٍ} [الحديد: 21] بين أن المؤدي إلى الجنة والنار لا يكون إلا بقضاء وقدر، فقال: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ} والمعنى لا توجد مصيبة من هذه المصائب إلا وهي مكتوبة عند الله، والمصيبة في الأرض هي قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، وغلاء الأسعار، وتتابع الجوع، والمصيبة في الأنفس فيها قولان: الأول: أنها هي: الأمراض، والفقر، وذهاب الأولاد، وإقامة الحدود عليها والثاني: أنها تتناول الخير والشر أجمع لقوله بعد ذلك: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} [الحديد: 23] ثم قال: {إِلاَّ فِي كتاب} يعني مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
هذه الآية دالة على أن جميع الحوادث الأرضية قبل دخولها في الوجود مكتوبة في اللوح المحفوظ.
قال المتكلمون: وإنما كتب كل ذلك لوجوه أحدها: تستدل الملائكة بذلك المكتوب على كونه سبحانه وتعالى عالمًا بجميع الأشياء قبل وقوعها وثانيها: ليعرفوا حكمة الله فإنه تعالى مع علمه بأنهم يقدمون على تلك المعاصي خلقهم ورزقهم وثالثها: ليحذروا من أمثال تلك المعاصي ورابعها: ليشكروا الله تعالى على توفيقه إياهم على الطاعات وعصمته إياهم من المعاصي.
وقالت الحكماء: إن الملائكة الذين وصفهم الله بأنهم هم المدبرات أمرًا، وهم المقسمات أمرًا، إنما هي المبادىء لحدوث الحوادث في هذا العالم السفلي بواسطة الحركات الفلكية والاتصالات الكوكبية، فتصوراتها لانسياق تلك الأسباب إلى المسببات هو المراد من قوله تعالى: {إِلاَّ فِي كتاب}.
المسألة الثانية:
استدل جمهور أهل التوحيد بهذه الآية على أنه تعالى عالم بالأشياء قبل وقوعها خلافًا لهشام بن الحكم، ووجه الاستدلال أنه تعالى لما كتبها في الكتاب قبل وقوعها وجاءت مطابقة لذلك الكتاب علمنا أنه تعالى عالمًا بها بأسرها.
المسألة الثالثة:
قوله: {وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ} يتناول جميع مصائب الأنفس فيدخل فيها كفرهم ومعاصيهم، فالآية دالة على أن جميع أعمالهم بتفاصيلها مكتوبة في اللوح المحفوظ، ومثبتة في علم الله تعالى، فكان الامتناع من تلك الأعمال محالًا، لأن علم الله بوجودها مناف لعدمها، والجمع بين المتنافيين محال، فلما حصل العلم بوجودها، وهذا العلم ممتنع الزوال كان الجمع بين عدمها وبين علم الله بوجودها محالًا.
المسألة الرابعة:
أنه تعالى لم يقل: إن جميع الحوادث مكتوبة في الكتاب، لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية، فإثباتها في الكتاب محال، وأيضًا خصص ذلك بالأرض والأنفس وما أدخل فيها أحوال السموات، وأيضًا خصص ذلك بمصائب الأرض والأنفس لا بسعادات الأرض والأنفس، وفي كل هذه الرموز إشارات وأسرار، أما قوله: {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} فقد اختلفوا فيه، فقال بعضهم: من قبل أن نخلق هذه المصائب، وقال بعضهم: بل المراد الأنفس، وقال آخرون: بل المراد نفس الأرض، والكل محتمل لأن ذكر الكل قد تقدم، وإن كان الأقرب نفس المصيبة لأنها هي المقصود، وقال آخرون: المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات، والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله: {إِنَّا أنزلناه} [يوسف: 2].
ثم قال تعالى: {إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ} وفيه قولان: أحدهما: إن حفظ ذلك على الله هين، والثاني: إن إثبات ذلك على كثرته في الكتاب يسير على الله وإن كان عسيرًا على العباد، ونظير هذه الآية قوله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كتاب إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ} [فاطر: 11].
{لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
هذه اللام تفيد جعل أول الكلام سببًا لآخره، كما تقول: قمت لأضربك فإنه يفيد أن القيام سبب للضرب، وههنا كذلك لأنه تعالى بين أن إخبار الله عن كون هذه الأشياء واقعة بالقضاء والقدر، ومثبتة في الكتاب الذي لا يتغير يوجب أن لا يشتد فرح الإنسان بما وقع، وأن لا يشتد حزنه بما لم يقع، وهذا هو المراد بقوله عليه السلام: «من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب» وتحقيق الكلام فيه أن على مذهب أهل السنة أن وقوع كل ما وقع واجب، وعدم كل ما لم يقع واجب أيضًا لأسباب أربعة أحدها: أن الله تعالى علم وقوعه، فلو لم يقع انقلب العلم جهلًا ثانيها: أن الله أراد وقوعه، فلو لم يقع انقلبت الإرادة تمنيًا ثالثها: أنه تعلقت قدرة الله تعالى بإيقاعه، فلو لم يقع لانقلبت تلك القدرة عجزًا، رابعها: أن الله تعالى حكم بوقوعه بكلامه الذي هو صدق فلو لم يقع لانقلب ذلك الخبر الصدق كذبًا، فإذن هذا الذي وقع لو لم يقع لتغيرت هذه الصفات الأربعة من كمالها إلى النقص، ومن قدمها إلى الحدوث، ولما كان ذلك ممتنعًا علمنا أنه لا دافع لذلك الوقوع، وحينئذ يزول الغم والحزن، عند ظهور هذه الخواطر وهانت عليه المحن والمصائب، وأما المعتزلة فهب أنهم ينازعون في القدرة والإرادة، ولكنهم يوافقون في العلم والخير، وإذا كان الجبر لازمًا في هاتين الصفتين، فأي فرق بين أن يلزم الجبر بسبب هاتين الصفتين وبين أن يلزم بسبب الصفات الأربع، وأما الفلاسفة فالجبر مذهبهم، وذلك لأنهم ربطوا حدوث الأفعال الإنسانية بالتصورات الذهنية والتخيلات الحيوانية، ثم ربطوا تلك التصورات والتخيلات بالأدوار الفلكية التي لها مناهج مقدرة، ويمتنع وقوع ما يخالفها، وأما الدهرية الذين لا يثبتون شيئًا من المؤثرات فهم لابد وأن يقولوا بأن حدوث الحوادث اتفاقي، وإذا كان اتفاقيًا لم يكن اختياريًا، فيكون الجبر لازمًا، فظهر أنه لا مندوحة عن هذا لأحد من فرق العقلاء، سواء أقروا به أو أنكروه، فهذا بيان وجه استدلال أهل السنة بهذه الآية، قالت المعتزلة: الآية دالة على صحة مذهبنا في كون العيد متمكنًا مختارًا، وذلك من وجوه الأول: أن قوله: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ} يدل على أنه تعالى إنما أخبرهم بكون تلك المصائب مثبتة في الكتاب لأجل أن يحترزوا عن الحزن والفرح، ولولا أنهم قادرون على تلك الأفعال لما بقي لهذه اللام فائدة والثاني: أن هذه الآية تدل على أنه تعالى لا يريد أن يقع منهم الحزن والفرح وذلك خلاف قول المجبرة: إن الله تعالى أراد كل ذلك منهم والثالث: أنه تعالى قال بعد هذه الآية: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وهذا يدل على أنه تعالى لا يريد ذلك لأن المحبة والإرادة سواء، فهو خلاف قول المجبرة: إن كل واقع فهو مراد الله تعالى الرابع: أنه تعالى أدخل لام التعليل على فعله بقوله: {لّكَيْلاَ} وهذا يدل على أن أفعال الله تعالى معللة بالغرض، وأقول: العاقل يتعجب جدًا من كيفية تعلق هذه الآيات بالجبر والقدر وتعلق كلتا الطائفتين بأكثرها.
المسألة الثانية:
قال أبو علي الفارسي قرأ أبو عمرو وحده: {بِمَا ءاتاكم} قصرًا، وقرأ الباقون: {ءاتاكم} ممدودًا، حجة أبي عمرو أن: {آتَاكُمُ} معادل لقوله: {فَاتَكُمْ} فكما أن الفعل للغائب في قوله: {فَاتَكُمْ} كذلك يكون الفعل للآني في قوله: {بِمَا ءاتاكم} والعائد إلى الموصول في الكلمتين الذكر المرفوع بأنه فاعل، وحجة الباقين أنه إذا مد كان ذلك منسوبًا إلى الله تعالى وهو المعطي لذلك، ويكون فاعل الفعل في: {ءاتاكم} ضميرًا عائدًا إلى اسم الله سبحانه وتعالى والهاء محذوفة من الصلة تقديره بما آتاكموه.
المسألة الثالثة:
قال المبرد: ليس المراد من قوله: {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا آتاكم} نفي الأسى والفرح على الإطلاق بل معناه لا تحزنوا حزنًا يخرجكم إلى أن تهلكوا أنفسكم ولا تعتدوا بثواب على فوات ما سلب منكم، ولا تفرحوا فرحًا شديد يطغيكم حتى تأشروا فيه وتبطروا، ودليل ذلك قوله تعالى: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ} فدل بهذا على أنه ذم الفرح الذي يختال فيه صاحبه ويبطر، وأما الفرح بنعمة الله والشكر عليها فغير مذموم، وهذا كله معنى ما روى عكرمة عن ابن عباس أنه قال: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبرًا وللخير شكرًا.
واحتج القاضي بهذه الآية على أنه تعالى لا يريد أفعال العباد والجواب عنه أن كثيرًا من أصحابنا من فرق بين المحبة والإرادة فقال: المحبة إرادة مخصوصة، وهي إرادة الثواب فلا يلزم من نفي هذه الإرادة نفي مطلق الإرادة.
{الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
في الآية قولان: الأول: أن هذا بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} [الحديد: 23] كأنه قال: لا يحب المختال ولا يحب الذين يبخلون يريد الذين يفرحون الفرح المطغى فإذا رزقوا مالًا وحظًا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم يبخلون به ولا يكفيهم أنهم بخلوا به بل يأمرون الناس بالبخل به، وكل ذلك نتيجة فرحهم عند إصابته، ثم قال بعد ذلك: {وَمَن يَتَوَلَّ} عن أوامر الله ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتي فإن الله غني عنه القول الثاني: أن قوله: {الذين يَبْخَلُونَ} كلام مستأنف لا تعلق له بما قبله، وهو في صفة اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ويخلوا ببيان نعته، وهو مبتدأ وخبره محذوف دل عليه قوله: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} وحذف الخبر كثير في القرآن كقوله: {وَلَوْ أَنَّ قرآنًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد: 31].
المسألة الثانية:
قال أبو علي الفارسي: قرأ نافع وابن عامر {فَإِنَّ الله الغني الحميد}، وحذفوا لفظ {هُوَ} وكذلك {هُوَ} في مصاحف أهل المدينة والشأم، وقرأ الباقون {هُوَ الغني الحميد} قال أبو علي: ينبغي أن هو في هذه الآية فصلًا لا مبتدأ، لأن الفصل حذفه أسهل، ألا ترى أنه لا موضع للفصل من الإعراب، وقد يحذف فلا يخل بالمعنى كقوله: {إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالًا وَوَلَدًا} [الكهف: 39].
المسألة الثالثة:
قوله: {فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد} معناه أن الله غني فلا يعود ضرر عليه ببخل ذلك البخيل، وقوله: {الحميد} كأنه جواب عن السؤال يذكر ههنا، فإنه يقال: لما كان تعالى عالمًا بأنه يبخل بذلك المال ولا يصرفه إلى وجوه الطاعات، فلم أعطاه ذلك المال؟ فأجاب بأنه تعالى حميد في ذلك الإعطاء، ومستحق للحمد حيث فتح عليه أبواب رحمته ونعمته، فإن قصر العبد في الطاعة فإن وباله عائد إليه. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض}.
قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار.