فصل: قال الزمخشري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال مجاهد: الهدى والبيان، {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قال سعيد بن جبير: بعث النبي صلى الله عليه وسلم جعفرًا رضي الله عنه في سبعين راكبًا للنجاشي يدعوه، فقدم عليه فدعاه فاستجاب له وآمن به، فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته وهم أربعون رجلا: ايذن لنا فنأتي هذا النبيّ صلى الله عليه وسلم فنلمّ به ونجدّف بهؤلاء في البحر؛ فإنا أعلم بالبحر منهم. فقدموا مع جعفر على النبيّ صلى الله عليه وسلم وقد تهيأ النبيّ صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) لوقعة أحد، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة وشدّة الحال استأذنوا النبيّ صلى الله عليه وسلم (عليه السلام) فقالوا: يا رسول الله إنّ لنا أموالا، ونحن نرى ما بالمسلمين من خصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها.. فأذن لهم فانصرفوا وأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين، فأنزل الله سبحانه فيهم {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ} [القصص: 52] إلى قوله: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ} [القصص: 54] فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن قوله: {يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ} [القصص: 54]، فجروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين، أما من آمن منّا بكتابكم وكتابنا فله أجره مرتين ومن لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فأنزل الله سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} فجعل لهم أجرين وزادهم النور والمغفرة ثم قال: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب}، وهكذا قرأها سعيد بن جبير {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} الآية.
وروى حنان عن الكلبي قال: كان هؤلاء أربعة وعشرين رجلا قدموا من اليمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، لم يكونوا يهودًا ولا نصارى، وكانوا على دين الأنبياء فأسلموا، فقال لهم أبو جهل: بئس القوم أنتم والوفد لقومكم. فردّوا عليه: {وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَاءَنَا مِنَ الحق} [المائدة: 84]، فجعل الله سبحانه لهم والمؤمني أهل الكتاب عبد الله بن سلام وأصحابه أجرين اثنين، فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: نحن أفضل منكم لنا أجران ولكم أجر واحد، فأنزل الله سبحانه: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} الآية.
أخبرنا أبو عبد الله بن فنجويه قال: حدّثنا أبو بكر بن مالك قال: حدّثنا عبد الله بن أحمد ابن حنبل قال: حدّثني أبي قال: حدّثنا عبد الرحمن بن سفيان، عن صالح، عن الشعبي، عن أبي بردة، عن أبي موسى، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كانت له أمة فعلّمها فأحسن تعليمها، وأدّبها فأحسن تأديبها، وأعتقها وتزوّجها فله أجران، وعبد أدّى حقّ الله وحقّ مواليه، ورجل من أهل الكتاب آمن بما جاء به موسى أو ما جاء به عيسى وما جاء به محمّد صلى الله عليه وسلم فله أجران».
وقال قتادة: حسد أهل الكتاب المسلمين، فأنزل الله سبحانه هذه الآية.
وقال مجاهد: قالت اليهود: يوشك أن يخرج منا نبيّ يقطع الأيدي والأرجل، فلمّا خرج من العرب كفروا، فأنزل الله سبحانه: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} أي ليعلم {لا} صلة {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} يعني أنّهم لا يقدرون، كقوله: {أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قولا} [طه: 89] وأنشد الفرّاء:
إنّي كفيتك ما تو ** ثق إنْ نجوت إلى الصباحْ

وسلمت من عرض الجنو ** ن من الغدوّ إلى الرواحْ

إن تهبطنّ بلاد قو ** مي يرتعون من الطلاحْ

أي: إنّك تهبطن.
{على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله} الآية.
أخبرني ابن فنجوية قال: حدّثني أبو بكر بن خرجة قال: حدّثنا محمّد بن عبد الله بن سليمان الحضرمي قال: حدّثنا الحسن بن السكن البغدادي، قال: حدّثنا أبو زيد النحوي، عن قيس بن الربيع عن الأعمش، عن عطيّة، عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عزّ وجلّ قسّم الأجر وقسّم العمل، فقيل لليهود، اعملوا، فعملوا إلى نصف النهار، فقيل: لكم نصف قيراط. وقيل للنصارى: اعملوا، فعملوا من نصف النهار إلى العصر، فقيل: لكم قيراط. وقيل للمسلمين: اعملوا، فعملوا من صلاة العصر إلى غروب الشمس بقيراطين. فتكلّم اليهود والنصارى في ذلك، فأنزل الله سبحانه: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ والله ذُو الفضل العظيم}». اهـ.

.قال الزمخشري:

.[سورة الحديد: آية 16]:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}.
{أَلَمْ يَأْنِ} من أنى الأمر يأنى، إذا جاء إناه، أى. وقته. وقرئ: {ألم يئن}، من آن يئين بمعنى: أنى يأنى، وألما يأن، قيل: كانوا مجدبين بمكة، فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه، فنزلت. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس رضى اللّه عنهما: أنّ اللّه استبطأ قلوب المؤمنين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن. وعن الحسن رضى اللّه عنه: أما واللّه لقد استبطأهم وهم يقرؤن من القرآن أقل مما تقرءون. فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسق.
وعن أبى بكر رضى اللّه عنه أنّ هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من أهل اليمامة، فبكوا بكاء شديدا، فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وقرئ: {نزّل} و{نزل}. و{أنزل} {وَلا يَكُونُوا} عطف على {تخشع}، وقرئ بالتاء على الالتفات. ويجوز أن يكون نهيا لهم عن مماثلة أهل الكتاب في قسوة القلوب بعد أن وبخوا، وذلك أنّ بنى إسرائيل كان الحق يحول بينهم وبين شهواتهم، وإذا سمعوا التوراة والإنجيل خشعوا للّه ورقت قلوبهم، فلما طال عليهم الزمان غلبهم الجفاء والقسوة واختلفوا وأحدثوا ما أحدثوا من التحريف وغيره. فإن قلت:
ما معنى {لِذِكْرِ اللَّهِ وَما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ}؟ قلت: يجوز أن يراد بالذكر وبما نزل من الحق: القرآن، لأنه جامع للأمرين: للذكر والموعظة، وأنه حق نازل من السماء، وأن يراد خشوعها إذا ذكر اللّه وإذا تلى القرآن كقوله تعالى: {إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيمانًا} أراد بالأمد: الأجل، كقوله:
... ** إذا انتهى أمده

وقرئ: {الأمدّ}، أي: الوقت الأطول {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين.

.[سورة الحديد: آية 17]:

{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)}.
{اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها} قيل: هذا تمثيل لأثر الذكر في القلوب، وأنه يحييها كما يحيى الغيث الأرض.

.[سورة الحديد: آية 18]:

{إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18)}.
{الْمُصَّدِّقِينَ} المتصدّقين. وقرئ على الأصل. و{المصدّقين} من صدق، وهم الذين صدقوا اللّه ورسوله يعنى المؤمنين. فإن قلت: علام عطف قوله: {وَأَقْرَضُوا}؟ قلت: على معنى الفعل في {المصدّقين}، لأنّ اللام بمعنى الذين، واسم الفاعل بمعنى اصدقوا، كأنه قيل: إنّ الذين اصدقوا وأقرضوا. والقرض الحسن: أنّ يتصدق من الطيب عن طيبة النفس وصحة النية على المستحق للصدقة. وقرئ: {يضعف}، و{يضاعف}، بكسر العين، أي: يضاعف اللّه.

.[سورة الحديد: آية 19]:

{وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)}.
يريد أنّ المؤمنين باللّه ورسله هم عند اللّه بمنزلة الصديقين والشهداء: وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل اللّه {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} أي: مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم. فإن قلت: كيف يسوّى بينهم في الأجر ولا بدّ من التفاوت؟ قلت: المعنى أنّ اللّه يعطى المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله، حتى يساوى أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. ويجوز أن يكون {وَالشُّهَداءُ} مبتدأ، و{لَهُمْ أَجْرُهُمْ} خيره.

.[سورة الحديد: آية 20]:

{اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَالْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوانٌ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20)}.
أراد أنّ الدنيا ليست إلا محقرات من الأمور وهي اللعب واللهو والزينة والتفاخر والتكاثر.
وأما الآخرة فما هي إلا أمور عظام، وهي: العذاب الشديد والمغفرة ورضوان اللّه. وشبه حال الدنيا وسرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث فاستوى واكتهل وأعجب به الكفار الجاحدون لنعمة اللّه فيما رزقهم من الغيث والنبات، فبعث عليه العاهة فهاج واصفرّ وصار حطاما عقوبة لهم على جحودهم، كما فعل بأصحاب الجنة وصاحب الجنتين. وقيل {الْكُفَّارَ}: الزراع. وقرئ: {مصفارا}.

.[سورة الحديد: آية 21]:

{سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)}.
{سابِقُوا} سارعوا مسارعة المسابقين لأقرانهم في المضمار، إلى جنة {عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَالْأَرْضِ} قال السدى: كعرض سبع السماوات وسبع الأرضين، وذكر العرض دون الطول، لأنّ كل ماله عرض وطول فإنّ عرضه أقل من طوله، فإذا وصف عرضه بالبسطة:
عرف أنّ طوله أبسط وأمدّ. ويجوز أن يراد بالعرض: البسطة، كقوله تعالى: {فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ} لما حقر الدنيا وصغر أمرها وعظم أمر الآخرة: بعث عباده على المسارعة إلى نيل ما وعد من ذلك: وهي المغفرة المنجية من العذاب الشديد والفوز بدخول الجنة {ذلِكَ} الموعود من المغفرة والجنة {فَضْلُ اللَّهِ} عطاؤه {يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ} وهم المؤمنون.

.[سورة الحديد: الآيات 22- 24]:

{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}.
المصيبة في الأرض: نحو الجدب وآفات الزروع والثمار. وفي الأنفس: نحو الأدواء والموت فِي كِتابٍ في اللوح {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} يعنى الأنفس أو المصائب {إِنَّ ذلِكَ} إنّ تقدير ذلك وإثباته في كتاب {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} وإن كان عسيرا على العباد، ثم علل ذلك وبين الحكمة فيه فقال {لِكَيْلا تَأْسَوْا}... {وَلا تَفْرَحُوا} يعنى أنكم إذا علمتم أنّ كل شيء مقدر مكتوب عند اللّه قلّ أساكم على الفائت وفرحكم على الآتي، لأنّ من علم أن ما عنده معقود لا محالة: لم يتفاقم جزعه عند فقده، لأنه وطن نفسه على ذلك، وكذلك من علم أنّ بعض الخير واصل إليه، وأن وصوله لا يفوته بحال: لم يعظم فرحه عند نيله {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} لأنّ من فرح بحظ من الدنيا وعظم في نفسه: اختال وافتخر به وتكبر على الناس.
قرئ: {بما آتاكم}. و{أتاكم}، من الإيتاء والإتيان. وفي قراءة ابن مسعود: {بما أوتيتم}. فإن قلت: فلا أحد يملك نفسه- عند مضرة تنزل به، ولا عند منفعة ينالها- أن لا يحزن ولا يفرح.
قلت: المراد: الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر اللّه ورجاء ثواب الصابرين، والفرح المطغى الملهى عن الشكر، فأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام، والسرور بنعمة اللّه والاعتداد بها مع الشكر: فلا بأس بهما {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} بدل من قوله: {كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} كأنه قال: لا يحب الذين يبخلون، يريد: الذين يفرحون الفرح المطغى إذا رزقوا مالا وحظا من الدنيا فلحبهم له وعزته عندهم وعظمه في عيونهم: يزوونه عن حقوق اللّه ويبخلون به، ولا يكفيهم أنهم بخلوا حتى يحملوا الناس على البخل ويرغبوهم في الإمساك ويزينوه لهم، وذلك كله نتيجة فرحهم به وبطرهم عند إصابته {وَمَنْ يَتَوَلَّ} عن أوامر اللّه ونواهيه ولم ينته عما نهى عنه من الأسى على الفائت والفرح بالآتى: فإنّ اللّه غنى عنه. وقرئ: {بالبخل}. وقرأ نافع: {فإنّ اللّه الغنى}، وهو في مصاحف أهل المدينة والشام كذلك.

.[سورة الحديد: آية 25]:

{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)}.
{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا} يعنى الملائكة إلى الأنبياء {بِالْبَيِّناتِ} بالحجج والمعجزات {وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ} أي الوحى {وَالْمِيزانَ} روى أنّ جبريل عليه السلام نزل بالميزان فدفعه إلى نوح وقال: مر قومك يزنوا به {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} قيل: نزل آدم من الجنة ومعه خمسة أشياء من حديد: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وروى: ومعه المر والمسحاة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: أنّ اللّه تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض:
أنزل الحديد، والنار، والماء، والملح. وعن الحسن {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ}: خلقناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ} وذلك أن أوامره تنزل من السماء وقضاياه وأحكامه {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} وهو القتال به {وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ} في مصالحهم ومعايشهم وصنائعهم، فما من صناعة إلا والحديد آلة فيها، أو ما يعمل بالحديد {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ} باستعمال السيوف والرماح وسائر السلاح في مجاهدة أعداء الدين {بِالْغَيْبِ} غائبا عنهم، قال ابن عباس رضى اللّه عنهما: ينصرونه ولا يبصرونه {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} غنى بقدرته وعزته في إهلاك من يريد هلاكه عنهم، وإنما كلفهم الجهاد لينتفعوا به ويصلوا بامتثال الأمر فيه إلى الثواب.

.[سورة الحديد: آية 26]:

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحًا وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)}.
{وَالْكِتابَ} والوحى. وعن ابن عباس: الخط بالقلم، يقال: كتب كتابا وكتابة مِنْهُمْ فمن الذرية أو من المرسل إليهم، وقد دل عليهم ذكر الإرسال والمرسلين. وهذا تفصيل لحالهم، أي: فمنهم مهتد ومنهم فاسق، والغلبة للفساق.

.[سورة الحديد: آية 27]:

{ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)}.
قرأ الحسن: {الإنجيل}، بفتح الهمزة، وأمره أهون من أمر البرطيل والسكينة فيمن رواهما بفتح الفاء، لأنّ الكلمة أعجمية لا يلزم فيها حفظ أبنية العرب. وقرئ: {رآفة}، على: فعالة، أي: وفقناهم للتراحم والتعاطف بينهم. ونحوه في صفة أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم {رُحَماءُ بَيْنَهُمْ}. والرهبانية: ترهبهم في الجبال فارّين من الفتنة في الدين، مخلصين أنفسهم للعبادة، وذلك أنّ الجبابرة ظهروا على المؤمنين بعد موت عيسى، فقاتلوهم ثلاث مرات، فقتلوا حتى لم يبق منهم إلا القليل، فخافوا أن يفتنوا في دينهم، فاختاروا الرهبانية: ومعناها الفعلة المنسوبة إلى الرهبان، وهو الخائف: فعلان من رهب، كخشيان من خشي. وقرئ: {ورهبانية} بالضم، كأنها نسبة إلى الرهبان: وهو جمع راهب كراكب وركبان، وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر: تقديره. وابتدعوا رهبانية {ابْتَدَعُوها} يعنى: وأحدثوها من عند أنفسهم ونذروها {ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم {إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ} استثناء منقطع، أى: ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان اللّه {فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها} كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنه عهد مع اللّه لا يحل نكثه {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} يريد: أهل الرحمة والرأفة الذين اتبعوا عيسى {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} الذين لم يحافظوا على نذرهم. ويجوز أن تكون الرهبانية معطوفة على ما قبلها، و{ابتدعوها}: صفة لها في محل النصب، أي: وجعلنا في قلوبهم رأفة ورحمة ورهبانية مبتدعة من عندهم، بمعنى: وقفناهم للتراحم بينهم ولابتداع الرهبانية واستحداثها، ما كتبناها عليهم إلا ليبتغوا بها رضوان اللّه ويستحقوا بها الثواب، على أنه كتبها عليهم وألزمها إياهم ليتخلصوا من الفتن ويبتغوا بذلك رضا اللّه وثوابه، فما رعوها جميعا حق رعايتها، ولكن بعضهم، فآتينا المؤمنين المراعين منهم للرهبانية أجرهم، وكثير منهم فاسقون. وهم الذين لم يرعوها.