فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

جيء بقوله: {واتقوا يومًا} تذييلًا لهاته الأحكام لأنّه صالح للترهيب من ارتكاب ما نهي عنه والترغيب في فعل ما أمر به أو ندب إليه، لأن في ترك المنهيات سلامة من آثامها، وفي فعل المطلوبات استكثارًا من ثوابها، والكل يرجع إلى اتّقاء ذلك اليوم الذي تُطلب فيه السلامة وكثرة أسباب النجاح. اهـ.

.قال الطبري:

يعني بذلك جل ثناؤه: واحذروا أيها الناس يوما ترجعون فيه إلى الله فتلقونه فيه، أن تردوا عليه بسيئات تهلككم، أو بمخزيات تخزيكم، أو بفاضحات تفضحكم، فتهتك أستاركم، أو بموبقات توبقكم، فتوجب لكم من عقاب الله ما لا قبل لكم به، وإنه يوم مجازاة بالأعمال، لا يوم استعتاب، ولا يوم استقالة وتوبة وإنابة، ولكنه يوم جزاء وثواب ومحاسبة، توفى فيه كل نفس أجرها على ما قدمت واكتسبت من سيئ وصالح، لا تغادر فيه صغيرة ولا كبيرة من خير وشر إلا أحضرت، فوفيت جزاءها بالعدل من ربها، وهم لا يظلمون.
وكيف يظلم من جوزي بالإساءة مثلها، وبالحسنة عشر أمثالها؟!
كلا بل عدل عليك أيها المسيء، وتكرم عليك فأفضل وأسبغ أيها المحسن، فاتقى امرؤ ربه، وأخذ منه حذره، وراقبه أن يهجم عليه يومه، وهو من الأوزار ظهره ثقيل، ومن صالحات الأعمال خفيف، فإنه عز وجل حذر فأعذر، ووعظ فأبلغ. اهـ.

.قال في روح البيان:

اعلم أن الله تعالى جمع في هذه الآية خلاصة ما أنزله في القرآن وجعلها خاتم الوحى والإنزال كما أنه جمع خلاصة ما أنزل من الكتب على الأنبياء في القرآن وجعله خاتم الكتب كما أن النبي عليه السلام خاتم الأنبياء عليهم السلام وقد جمع فيه أخلاق الأنبياء.
فاعلم أن خلاصة جميع الكتب المنزلة وفائدتها بالنسبة إلى الإنسان عائدة إلى معنيين:
أحدهما نجاته من الدركات السفلى.
وثانيهما فوزه بالدرجات العليا فنجاته في خروجه عن الدركات السفلى وهى سبعة الكفر والشرك والجهل والمعاصى والأخلاق المذمومة وحجب الأوصاف وحجاب النفس وفوزه في ترقيه على الدرجات العليا وهى ثمانية المعرفة لله والتوحيد لله والعلم والطاعات والأخلاق الحميدة وجذبات الحق والفناء عن أنانيته والبقاء بهويته فهذه الآية تشير إلى مجموعها إجمالا قوله تعالى: {واتقوا} هي لفظة شاملة لما يتعلق بالسعى الإنسانى من هذه المعانى لأن حقيقة التقوى مجانبة ما يبعدك عن الله ومباشرة ما يقربك إليه دليله قول النبي عليه السلام: «جماع التقوى قول الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}».
فيندرج تحت التقوى على هذا المعنى الخروج عن الدركات السفلى والترقى على الدرجات العليا. اهـ.

.من فوائد عبد الكريم الخطيب في الآية:

{وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ}.
التفسير: الخطاب هنا للمقرضين بالرّبا خاصة وللمؤمنين عامة- وهو دعوة إلى تقوى اللّه، والإعداد ليوم يرجع فيه الناس إلى اللّه، فيوفيهم حسابهم حسب أعمالهم، وما كسبت أيديهم من خير أو شر، ولا يظلم ربك أحدا.

.مبحث في الربا أنواعه وأحكامه:

معناه في اللغة: النّماء والزيادة، يقال: ربا الشيء يربو رباوة وربا، إذا نما وزاد، ومنه الرّبوة، وهى الأرض المرتفعة على ما حولها.
وفى لسان الشريعة، وفى لغة المعاملات: هو عملية دين، يؤدّى عنه مال زيادة على أصل الدين، في المدة التي يظل فيها الدين في ذمة المدين.
ذلك هو أصل الرّبا الذي أدركه الإسلام عند عرب الجاهلية وشهد آثاره السيئة في المجتمع العربي.

.الإسلام والربا:

وكان طبيعيا أن يتدخل الإسلام في هذا الضرب من المعاملات الجائرة، التي تغتال الضعفاء، وتمتص عصارة الحياة فيهم، وتقطع أواصر الرحمة والأخوّة بين الناس والناس.
وقد جاء الإسلام بالحكم القاطع في تحريم الربا في قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَلا تُظْلَمُونَ}.
والربا.. الذي جاء القرآن بتحريمه هو ربا النّسيئة، وهو الذي أشرنا إليه من قبل، والذي يقع بين الدائن والمدين بفرض زيادة على أصل الدين، في مقابل تأجيل دفع الدّين مدة معينة.. إذ النسيئة هي التأخير، يقال نسأ اللّه في أجل فلان: أي مدّه وأطاله.
ولا شك أن في هذه العملية ظلما محققا وقع على المدين من الدائن.. وذلك أن الدائن- وهو صاحب المال الذي هو نعمة من نعم اللّه في يده، وفضل من أفضاله عليه، لم يرع فيه حق اللّه، وحق الفقراء فيه، بالصدقة والإحسان..
وهو إذ لم يفعل هذا، كان من الواجب عليه- ديانة ومروءة- أن يمسكه في يده، ولا يجعل منه أداة يمتص بها البقية الباقية من حياة الفقراء! يقول ابن قيّم الجوزية: إن اللّه لم يدع الأغنياء حتى أوجب عليهم إعطاء الفقراء، فإذا أربى الغنىّ مع الفقير فهو بمنزلة من له على رجل دين فمنعه دينه وظلمه زيادة أخرى- أي زيادة على أصل الدين بالربا- والغريم- أي الفقير- محتاج إلى دينه، الذي أوجبه اللّه له في مال الغنى- وهذا من أشد أنواع الظلم..
فهذا هو أصل الرّبا المستكمل لجميع سيئاته.. ولهذا روى عن ابن عباس أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: «إنما الرّبا في النسيئة» أي في تأخير دفع الدّين نظير الزيادة عليه.

.مداخل إلى الربا:

ومن تمام الحكمة في الشريعة الإسلامية، أنها لا تحفل كثيرا بالصور والأشكال، وإنما تلتفت دائما إلى ماوراء الصور والأشكال من آثار.. وعلى هذه الآثار يكون حكمها على الشيء.. من الحظر، أو الإباحة، أو الوجوب، وغير هذا من الأحكام.
فالخمر- مثلا- مسكر.. فهو حرام لهذه العلة، وهى الإسكار.. وقليل الخمر لا يسكر، ومع هذا فقد تساوى القليل من الخمر مع الكثير، في التحريم..
ونطق لسان الشرع الحكيم فيه: «ما أسكر كثيره فقليله حرام».
ولو أخذنا بمنطق الصورة والشكل، لكان قليل الخمر غير حرام، مادام لم يبلغ بالإنسان مبلغ السكر.
وربما يكون هذا مقبولا في عمليات المنطق، ولكن هل يقبل الواقع هذا؟ وهل تصدقه التجربة؟
التجربة والواقع ينكران أن يقوم حجاز يفصل بين قليل الخمر وكثيره، لتقع جريمة السكر أو لا تقع.. فقد يسكر بعض الناس بهذا القليل، ولا يسكر آخرون بأضعافه.. ثم من ذا الذي يضمن نفسه إذا ألقى في جوفه بقليل الخمر، الذي لا يسكر به، ألّا تمتد يده إلى غير هذا القليل حتى يسكر؟ وإذا استطاع هذا الإنسان أن يردّ نفسه مرة ومئة مرة عن أن يتجاوز حد الإسكار، فهل من الممكن أن يطول به الوقوف عند هذا الحدّ إلى غير حدّ؟ وإذا استطاع إنسان أن يمر بهذه التجربة سالما، فهل ذلك في مقدور الناس جميعا؟
الواقع والتجربة ينقضان هذا، ويؤكدان أن كثيرا من الناس شربوا قليل الخمر مداواة، أو لعبا، فتجاوزوا المداواة واللعب إلى الإدمان، ثم الإغراق في الإدمان! هذا صنيع الإسلام في كل محرم.. إنه يحرّمه ويحرّم الذرائع المؤدية إليه.
وفى الربا.. حرم القرآن الكريم الرّبا، على الصورة التي كانت معروفة له في الجاهلية، وهو ربا النسيئة، ثم جاءت السنّة المطهرة، فحرمت الذرائع المفضية إليه، حتى لا يتخذ الناس من تلك الذرائع مطايا- تنقلهم بقصد أو غير قصد- إلى الربا الصريح!.
ومن الذرائع التي حرّمها الإسلام، وعدّها من الرّبا، إذ كانت بابا يؤدى إليه- هذه الصور من المعاملات:

.1- ربا الفضل:

وهو بيع المتماثلين.. من ذهب أو فضة أو برّ أو تمر أو غير هذا.. بزيادة أحد المثلين على الآخر.. كمن يبيع درهما من الذهب بدرهم وبضعة قراريط من الذهب، وكمن يبيع قدحا من التمر، بقدح ونصف منه.. فهذا بيع متلبّس بالحرمة والإثم.
يقول ابن قيّم الجوزية: ثم إن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم حرّم أشياء، مما يخفى فيها الفساد، لإفضائها إلى الفساد، كما حرم قليل الخمر، لأنه يدعو إلى كثيرها، ومثل ربا الفضل، فإن الحكمة فيه- أي في تحريمه- قد تخفى..
إذ العاقل لا يبيع درهما بدرهمين إلا لاختلاف الصفات، مثل كون الدرهم صحيحا والدرهمين مكسورين، أو الدرهم مصوغا، أو من نقد نافق- أي رائج- ونحو ذلك.. ولهذا خفيت حكمته على ابن عباس ومعاوية، حتى أخبرهما الصحابة الأكابر، كعبادة بن الصامت وأبى سعيد الخدرىّ وغيرهما- بتحريم النبي صلى الله عليه وسلم لربا الفضل.
وقد ألحق الرسول الكريم هذا الضرب من المعاملات بالربا.. إلّا أن يكون مثلا بمثل، ويدا بيد.. يقول الرسول صلوات اللّه وسلامه عليه: «لا تبيعوا الذهب بالذهب إلّا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا الورق بالورق إلا مثلا بمثل ولا تشفّوا بعضها على بعض، ولا تبيعوا منها غائبا بناجز» وفى لفظ: «إلّا وزنا بوزن، مثلا بمثل، سواء بسواء».
وعن أبى سعيد الخدري، رضي الله عنه قال: جاء بلال إلى النبي صلّى اللّه عليه وسلّم بتمر برنىّ. فقال النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «من أين هذا؟» قال بلال: كان عندنا تمر ردىء، فبعت منه صاعين بصاع لمطعم النبي، فقال النبي عند ذلك: «أوه!! عين الرّبا.. لا تفعل، ولكن إذا أردت أن تشترى فبع التمر ببيع آخر، ثم اشتر به».
ولا شك أن مثل هذه المعاملات لا يقصد منها الربا على الوجه المعروف، المراد منه استغلال الفقير المحتاج، وفرض إرادة صاحب المال-الدائن- عليه.. ولكن يمكن أن تجرّ هذه المعاملات إلى ما يجرّ إليه الربا من ضغينة وعداوة.
أما الضغينة والعداوة فتنشآن مما يتكشف عنه الحال بعد عملية بيع المتماثلين مع تفضيل أحدهما عن الآخر، حين يرى أحد المتبايعين- بعد الرجوع إلى ذوى الخبرة- أنه غبن، ولا سبيل إلى الرجوع في عملية البيع. فالمتماثلان، لا يفضل أحدهما الآخر إلا في أمور لا يتعرف عليها إلا أهل النظر والخبرة في هذا الشأن، ومن هنا يقع الغبن، الذي تنتج عنه العداوة والبغضاء، كما ينتج الظلم يأكل أموال الناس بالباطل، عن طريق الربا المعروف، وهو ربا النسيئة.
وقد يقال: إن هذا الذي يقع في بيع المتماثلين مع زيادة أحدهما عن الآخر- يقع أيضا في بيع المتماثلين مثلا بمثل.. إذ لا شك أن المتماثلين لا يتماثلان في جميع الوجوه، وإلا لما كان هناك داع يدعو إلى استبدال هذا بذاك.
ونعم. إنه لابد من فروق بين المتماثلين، حيث يرى كل من صاحبيهما الرغبة فيما في يد الآخر.. ولكن الغالب في المماثلة أن تكون الفروق طفيفة، يمكن أن يحتملها الطرفان بالزيادة أو النقص، ولكن لو فتح باب المفاضلة بين المتماثلين لا تسع مجال الغبن، وتضاعفت مقاديره.. فكان في إباحة بيع المتماثلين مثلا بمثل رفع للحرج على الناس في تبادل المنافع، التي لا غنى لهم عنها، كما كان في تقييد هذه الإباحة بألّا يفضل أحد المثلين الآخر، وزنا أو كيلا- كان في هذا ما يحرس هذه العملية من الغبن الفاحش، لو فتح فيها باب التفاضل!.