فصل: قال نظام الدين النيسابوري:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل} بدل من كل مختال فإن المختال بالمال يضن به غالبًا أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: {وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ الله هُوَ الغنى الحميد} لأن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله غني عنه وعن إنفاقه محمود في ذاته لا يضره الإِعراض عن شكره ولا ينفعه التقرب إليه بشكر من نعمه، وفيه تهديد وإشعار بأن الأمر بالإِنفاق لمصلحة المنفق وقرأ نافع وابن عامر {فَإِنَّ الله الغنى}.
{لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا} أي الملائكة إلى الأنبياء أو الأنبياء إلى الأمم. {بالبينات} بالحجج والمعجزات. {وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب} ليبين الحق ويميز صواب العمل. {والميزان} لتسوى به الحقوق ويقام به العدل كما قال تعالى: {لِيَقُومَ الناس بالقسط} وإنزاله إنزال أسبابه والأمر باعداده، وقيل أنزل الميزان إلى نوح عليه السلام، ويجوز أن يراد به العدل. {لِيَقُومَ الناس بالقسط} لتقام به السياسة وتدفع به الأعداء كما قال: {وَأَنزْلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} فإن آلات الحروب متخذة منه. {ومنافع لِلنَّاسِ} إذ ما من صنعة إلا والحديد آلاتها. {وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ} باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفار والعطف على محذوف دل عليه ما قبله فإنه حال يتضمن تعليلًا، أو اللام صلة لمحذوف أي أنزله ليعلم الله. {بالغيب} حال من المستكن في ينصره. {إِنَّ الله قَوِىٌّ}، على إهلاك من أراد إهلاكه. {عَزِيزٌ} لا يفتقر إلى نصرة وإنما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به ويستوجبوا ثواب الامتثال فيه.
{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وإبراهيم وَجَعَلْنَا في ذُرّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب} بأن استنبأناهم وأوحينا إليهم الكتب. وقيل المراد بالكتب الخط. {فَمِنْهُمْ} فمن الذرية أو من المرسل إليهم وقد دل عليهم {أَرْسَلْنَا}. {مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن الطريق المستقيم والعدول عن السنن القابلة للمبالغة في الذم والدلالة على أن الغلبة للضلال.
{ثُمَّ قَفَّيْنَا على ءاثارهم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ} أي أرسلنا رسولًا بعد رسول حتى انتهى إلى عيسى عليه السلام، والضمير لنوح وإبراهيم ومن أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل لا للذرية، فإن الرسل الملقى بهم من الذرية. {وَآتيْنَاهُ الإِنْجِيلَ} وقرئ بفتح الهمزة وأمره أهون من أمر البرطيل لأنه أعجمي. {وَجَعَلْنَا في قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً} وقرئ: {رآفة} على فعالة. {وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} أي وابتدعوا رهبانية ابتدعوها، أو رهبانية مبتدعة على أنها من المجعولات وهي المبالغة في العبادة والرياضة والانقطاع عن الناس، منسوبة إلى الرهبان وهو المبالغ في الخوف من رهب كالخشيان من خشي، وقرئت بالضم كأنها منسوبة إلى الرهبان وهو جمع راهب كراكب وركبان. {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ} ما فرضناها عليهم. {إِلاَّ ابتغاء رضوان الله} استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها {ابتغاء رضوان الله}. وقيل متصل فإن {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ} بمعنى ما تعبدناهم بها وهو كما ينفي الإِيجاب المقصود منه دفع العقاب ينفي الندب المقصود منه مجرد حصول مرضاة الله، وهو يخالف قوله: {ابتدعوها} إلا أن يقال: {ابتدعوها} ثم ندبوا إليها، أو {ابتدعوها} بمعنى استحدثوها وأتوا بها، أو لأنهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. {فَمَا رَعَوْهَا} أي فما رعوها جميعًا. {حَقَّ رِعَايَتِهَا} بضم التثليث والقول بالاتحاد وقصد السمعة والكفر بمحمد عليه الصلاة والسلام ونحوها إليها. {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا} أتوا بالإِيمان الصحيح ومن ذلك الإِيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وحافظوا حقوقها. {مِنْهُمْ} من المتسمين باتباعه. {أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن حال الاتباع.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا} بالرسل المتقدمة. {اتقوا الله} فيما نهاكم عنه. {وَآمِنُوا بِرَسُولِه} محمد عليه الصلاة والسلام. {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ} نصيبين. {مّن رَّحْمَتِهِ} لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم إيمانكم بمن قبله، ولا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق وإن كان منسوخًا ببركة الإِسلام، وقيل الخطاب للنصارى الذين كانوا في عصره صلى الله عليه وسلم. {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} يريد المذكور في قوله: {يسعى نُورُهُم} أو الهدى الذي يسلك به إلى جناب القدس. {وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
{لّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب} أي ليعلموا و(لا) مزيدة ويؤيده أنه قرئ: {ليعلم} و{لكي يعلم} و{لأن يعلم} بادغام النون في الياء.
{أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شيء مّن فَضْلِ الله} أن هي المخففة والمعنى: أنه لا ينالون شيئًا مما ذكر من فضله ولا يتمكنون من نيله لأنهم لم يؤمنوا برسوله وهو مشروط بالإِيمان به، أو لا يقدرون على شيء من فضله فضلًا عن أن يتصرفوا في أعظمه وهو النبوة فيخصوها بمن أرادوا ويؤيده قوله: {وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء والله ذُو الفضل العظيم} وقيل (لا) غير مزيدة، والمعنى لئلا يعتقد أهل الكتاب أنه لا يقدر النبي والمؤمنون به على شيء من فضل الله ولا ينالونه، فيكون {وَأَنَّ الفضل} عطفًا على {لّئَلاَّ يَعْلَمَ}، وقرئ: {ليلا يعلم} ووجهه أن الهمزة حذفت وأدغمت النون في اللام ثم أبدلت ياء. وقرئ: {ليلا} على أن الأصل في الحروف المفردة الفتح.
عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من قرأ سورة الحديد كتب من الذين آمنوا بالله ورسله أجمعين». اهـ.

.قال نظام الدين النيسابوري:

قوله سبحانه: {ألم يأن للذين آمنوا}.
من أنى الأمر يأني إذا جاء إناه أي وقته. قال جمع من المفسرين: نزل في المنافقين الذين أظهروا الإيمان وفي قلوبهم النفاق المباين للخشوع. وقال آخرون: نزل في المؤمنين المحقين. روى الأعمش أن الصحابة لما قدموا المدينة أصابوا لينًا في العيش ورفاهية فغيروا بعض ما كانوا عليه فعوتبوا بهذه الآية. وعن أبي بكر الصديق أن هذه الآية قرئت بين يديه وعنده قوم من اليمامة فبكوا بكاء شديدًا فنظر إليهم فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. وعن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا وبين أن عوتبنا بهذه الآية إلا أربع سنين. وعن ابن عباس أنه عاتبه على رأس ثلاث عشرة. وقوله: {لذكر الله} من إضافة المصدر إلى الفاعل أي ترق قلوبهم لمواعظ الله التي ذكرها في القرآن {وما نزل من الحق} وأراد أن القرآن جامع للوصفين الذكر والموعظة ولكونه حقًا نازلًا من السماء.
ويجوز أن يكون من إضافة المصدر إلى المفعول أي لذكرهم الله والقرآن كقوله: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا} [الأنفال: 2] ويحتمل أن تكون اللام للتعليل أي يجب أن يورثهم الذكر خشوعًا ولا يكونوا كمن يذكره بالغفلة. ومن قرأ {ولا تكونوا} بالتاء الفوقانية فهي الناهية. ومن قرأ بالياء التحتانية احتمل أن يكون منصوبًا عطفًا على أن {تخشع} و{الأمد} الأجل والأمل أي طالت المدة بين اليهود والنصارى وبين أنبيائهم، أو طالت أعمارهم في الغفلة والأمل البعيد فحصلت القسوة في قلوبهم بسببه فاختلفوا فيما أحدثوا من التحريف والبدع. وقال مقاتل بن سليمان: طال عليهم أمد خروج النبي صلى الله عليه وسلم، أو طال عليهم عهدهم بسماع التوراة والإنجيل فزال وقعهما في قلوبهم قاله القرطبي، وقرئ الأمد بالتشديد أي الوقت الأطول {وكثير منهم فاسقون} خارجون عن دينهم رافضون لما في الكتابين، وفيه إشارة إلى أن عدم الخشوع في أول الأمر يفضي إلى الفسوق في آخر الأمر. قال الحسن: أما والله لقد استبطأ قلوب المؤمنين وهم يقرأون من القرآن أقل مما تقرأون فانظروا في طول ما قرأتم منه وما ظهر فيكم من الفسوق. قوله: {اعلموا أن الله يحيي الأرض} فيه وجهان: الأول أنه تمثيل والمعنى أن القلوب التي ماتت بسبب القساوة فالموظبة على الذكر سبب لعود حياة الخشوع إليها كما يحيي الله الأرض بالغيث، الثاني أنه زجر لأهل الفسق وترغيب في الخشوع لأنه يذكر القيامة وبعث الأموات. ثم استأنف وعد المنفقين ووعيد أضدادهم بقوله: {إن المصدقين} وأصله المتصدقين وعطف عليه قوله: {وأقرضوا الله} لأن الألف واللام بمعنى الذي كأنه قال: إن الذين تصدقوا وأقرضوا. والظاهر أن الأول هو الواجب الثاني هو التطوع لأن تشبيهه بالقرض كالدلالة على ذلك. وأيضًا ذكر الأول بلفظ اسم الفاعل الدال على الاستمرار ينبىء عن الالتزام والوجوب.
ومن قرأ بتشديد الدال فقط فمعناه إن الذين صدقوا الله ورسوله وأقرضوا ويندرج تحت التصديق الإيمان وجميع الأعمال الصالحات إلا أنه أفرد الإنفاق بالذكر تحريضًا عليه كما أنه أفرد الإيمان لتفضيله والترغيب فيه. وقال: {والذين آمنوا بالله ورسله أولئك هم الصديقون} الكاملون في الصدق إذ لا قول أصدق من التوحيد والاعتراف بالرسالة، أوهم الكثير والصدق من حيث إنهم ضموا صدقًا إلى صدق وهو الإيمان بالله والاعتراف بالرسالة، أو هم الكثيرر والصدق من حيث إنهم ضموا صدقًا إلى صدق وهو الإيمان بالله ورسوله أو به وبرسوله رسوله. ثم حث على الجهاد بقوله: {والشهداء} وهو مبتدأ حبره {عند ربهم} وفيه بيان أنهم من الله بمنزلة وسعة وقد بين ثوابهم الجسماني {لهم أجرهم ونورهم} ويجوز أن يكون قوله: {عند ربهم} حالًا أو صفة للشهداء كقوله (مررت على اللئيم يسبني) وما بعده خبر.
وقال الفراء والزجاج: هم الأنبياء لقوله: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد} [النساء: 41] ومن جعل {الشهداء} عطفًا على ما قبله قال: أراد أنهم عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء وهم الذين سبقوا إلى التصديق واستشهدوا في سبيل الله. قال مجاهد: كل مؤمن فهو صديق وشهيد. وقال جار الله: المعنى أن الله يعطي المؤمنين أجرهم ويضاعفه لهم بفضله حتى يساوي أجرهم مع أضعافه أجر أولئك. وقيل: أريد أنهم شهداء عند ربهم على أعمال عباده. وعن الحسن: كل مؤمن فإنه يشهد كرامة ربه. وعن الأصم. إن المؤمن قائم لله تعالى بالشهادة فيما تعبدهم به من الإيمان والطاعة. ثم ذكر ما يدل على حقارة أمور الدنيا وشبهها في سرعة تقضيها مع قلة جدواها بنبات أنبته الغيث ورباه إلى أن يتكامل نشؤه. ومعنى إعجاب الكفار أنهم جحدوا نعمة الله فيه بعد أن راق في نظرهم فبعث الله عليه العاهة فصيره كلا شيء كما فعل بأصحاب الجنتين في (الكهف) وفي (سبأ) وبأصحاب الجنة في (نون). ومن جعل الكفار بمعنى الزراع فظاهر قاله ابن مسعود وصيرورته حطامًا هي عودة إلى كمال حاله في النضج واليبس. ثم عظم أمور الآخرة بتنوين التنكير في قوله: {وفي الآخرة عذاب شديد} للكافرين {ومغفرة من الله ورضوان} للمؤمنين قال سعيد بن جبير: الدنيا متاع الغرور إذا ألهتك عن طلب الآخرة. فأما إذا دعتك إلى طلب رضوان الله ولقائه فنعم المتاع ونعم الوسيلة. ثم حث على المسابقة إلى المغفرة وإلى الجنة وقد مر نصير في (آل عمران) إلا أن البشارة هاهنا أعم لأنه قال هناك {أعدت للمتقين الذين ينفقون} [الآية: 133] إلأى آخره. وههنا قال: {أعدت للذين آمنوا بالله ورسله} ولأن هؤلاء أدون حالًا من أولئك جعل عرض الجنة هنا أقل فقال: {وجنة عرضها كعرض السماء والأرض} فلم يجمع السماء وأدخل حرف التشبيه الدال على أن المشبه أدون حالًا من المشبه به. وفي لفظ {سابقوا} هاهنا إشارة إلى أن مراتب هؤلاء مختلفة بعضها أسبق من بعض كالمسابقة في الخيل وفي لفظ {سارعوا} هنالك رمز إلى أن كلهم مستوون في القرب أومتقاربون لأن المرتبة العليا واحدة وهي مرتبة السابقين المقربين وإنها غاية الرتب الإنسانية فافهم هذه الأسرار فإن ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. قال الزجاج: لما أمرنا بالمسابقة إلى المغفرة بين أن الوصول إلى الجنة والحصول في النار بالقضاء والقدر فقال: {ما أصاب من مصيبة} أي لا يوجد مصيبة {في الأرض} من القحط والوباء والبلاء {ولا في أنفسكم} من المرض والفتن {إلا في كتاب} أي هو مكتوب عند الله في اللوح المحفوظ وإنما قيد المصائب بكونها في الأرض والأنفس لأن الحوادث المطلقة كلها ليست مكتوبة في اللوح لأن حركات أهل الجنة والنار غير متناهية فإثباتها في الكتاب محال ولهذا قال: «جف القلم بما هو كائن إلى يوم الدين» ولم يقل إلى الأبد.
وفي الآية تخصيص آخر وهو أنه لم يذكر أحوال أهل السموات وفيه سر قال أهل البرهان: فصل في هذه السورة وأجمل في (التغابن) فقال: {ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله} [الحديد: 22] والتفصيل بهذه السورة أليق لأنه فصل أحوال الدنيا والآخرة بقوله: {اعلموا إنما الحياة الدنيا} إلى آخره قوله: {من قبل أن نبرأها} من قبل أن نخلق المصائب والأنفس أو الأرض أو المخلوقات {إن ذلك} الإثبات أو الحفظ {على الله يسير} وإن كان عسيرًا على غيره. ثم بين وجه الحكمة في ذلك الإثبات قائلًا {لكيلا تأسوا} أي لكيلا تحزنوا {على ما فاتكم ولا تفرحوا بما آتاكم} نظيره ما ورد في الخبر: من عرف سر الله في القدر هانت عليه المصائب لأنه لما علم وجوب وقوعه من حيث تعلق علم الله وحكمه وقدرته به عرف أن الفائت لا يرده الجزع والمعطى لا يكاد يثبت ويدوم لأنه عرضة للزوال ونهزة للانتقال فلا يشتد به فرحه. روى عكرمة عن ابن عباس: ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ولكن اجعلوا للمصيبة صبرًا وللخير شكرًا أو المراد أنه لم ينف الأسى والفرح على الإطلاق ولكنه نفى ما بلغ الجزع والبطر ولا لوم على ما يخلو منه البشر. والباقي ظاهر وقد مر في النساء. والمقصود أن البخيل يفرح فرحا مطغيًا لحبه المال ليفتخر به ويتكبر على الناس ويحمل غيره على إمساك المال لمقتضى شحه الطبيعي {ومن يتول} عن أوامر الله ونواهيه ولا يعرف حق الله فما أعطاه {فإن الله هو الغني} عن طاعة المطيعين {الحميد} في ذاته وإن لم يحمده الحامدون. وقيل: إن الآية نزلت في اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم وبخلوا ببيان نعته.
ثم أراد أن يبين الغرض من بعثة الرسل المؤيدين بالمعجزات ومن إنزال الكتاب والميزان معهم. يروى أن جبرائيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح فقال: مر قومك يزنوا به. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض. أنزل الحديد والنار والماء والملح. وعن الحسن: إنزالها تهيئتها كقوله: {وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج} [الزمر: 6] وقال قطرب: هو من النزل يقال: أنزل الأمير على فلان نزلًا حسنًا منهم من قال: هو من باب:
علفتها تبنًا وماء باردًا

وللعلماء في المناسبة بين الكتاب والميزان والحديد وجوه.
أحدها أن مدار التكليف على فعل ما ينبغي وترك ما لا ينبغي. والثاني لا يتم بالحديد الذي فيه بأس شديد والأول إما أن يكون من باب الاعتقادات ولن يتم إلا بالكتاب السماوي ولا سيما إذا كان معجزًا. وإما أن يكون من باب المعاملات ولا ينتظم إلا بالميزان فأشرف الأقسام ما يتعلق بالوقة النظرية الروحاينة، ثم ما يتعلق بالعملية الجسمانية، ثم ما يتعلق بالزواجر وقد روعي في الآية هذا النسق. وثانيها المعاملات إما مع الخالق وطريقها الكتاب أو مع الخلق وهم، إما أحباب ويفتقر في نظام أمور تمدنهم إلى الميزان، وإما أعداء فيدفعون بالسيف. وثالثها السابقون يعاملون بمقتضى الكتاب فينصفون ولا ينتصفون ويحترزون عن مواقع الشبهات، والمقتصدون ينصفون وينتصفون فلابد لهم من الميزان، والظالمون ينتصفون من غير إنصاف فلابد لهم من السيوف الزواجر. واربعها أن الإنسان في مقام الحقيقة وهو مقام النفس المطمئنة المقربين لا يسكن إلا بكتاب الله {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} [الرعد: 28] أو هو في مقام الطريقة وهو النفس اللوامة. وأصحاب اليمين لابد لهم من الميزان في معرفة الأخلاق المتوسطة غير المائلة إلى طريق الإفراط والتفريط، أو هو في مقام الشريعة والنفس الأمارة لا تنزجر إلا بحديد المجاهدة وسيف الرياضة. وخامسها السالك إما أن يكون صاحب المكاشفة والوصول فانتبه بميزان الكتاب، أو صاحب الطلب والاستدلال فانتبه بميزان الدليل والحجة، وإن كان صاحب العناد واللجاج فلابد له من الحديد. وسادسها الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوم بالميزان، وميزان العدل والأحوال يعتبر بحديد الرياضة. أو نقول: الأقوال تصحح بالكتاب والأعمال تقوّم بالميزان، والمنحرفون من أحد الموضوعين يولون بالسيف. وسابعها الكتاب للعلماء. والميزان للعوام والسيف للملوك. قال أهل التجارب: في منافع الحديد ما من صناعة إلا والحديد آلة فيها. أو ما يعمل بالحديد بيانه أن أصول الصناعة أربعة: الزراعة والحياكة والبناء والإمارة. أما الزراعة فتحتاج إلى الحديد في كراية الأرض وإصلاحها وحفرها وتنقية آبارها. ثم الحبوب لابد من طحنها وخبزها وكل منهما يحتاج إلى شيء من حديد وأكل الفواكه واللحوم وغيرها يفتقر أيضًا في التغيير والتقطيع إلى الحديد وأما الحياكة فتحتاج إلى آلات الحراثة وإلى آلات الغزل وإلى أدوات الحياكة والخياطة، وأما البناء فلا يكمل الحال فيه إلا بآلات حديدية وأما الإمارة فلا تتم إلا بأسباب الحرب وآلات السياسة فظهر أن أكثر مصالح العالم لا تتم إلا بالحديد ولا يقوم الذهب ولا الجواهر في أكثرها مقام الحديد فلو لم يوجد الذهب والجواهر في الدنيا لم يختل شيء من المهمات ولو لم يوجد الحديد لاختلت المصالح فعند هذا يظهر أثر عناية الله بحال عبيده، فإن كل شيء تكون حاجاتهم إليه أكثر يكون وجوده أسهل. قال بعضهم: