فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قوله جلّ ذكره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا اتَّقُوا اللَّهِ وَءَامَنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَّمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
نزلت في قوم من أهل الكتاب أسلموا.
{كِفْلَيْنِ}: أي نَصِيبَيْنِ؛ نصيبًا على الإيمان بالله، وآخَرَ على تصديقهم وإيمانهم بالرُّسُل.
قوله جل ذكره: {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلَى شيء مِّن فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}.
ومعناه: يعلم أهل الكتاب، و(لا) صلة. أي: ليعلم أهل الكتاب أنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله، فإن الفضل بيد الله. و(اليد) هنا بمعنى: القدرة، فالفضلُ بقدرة الله.
والإشارة في هذا: اتَّقُوا الله بحِفْظِ الأدبِ معه، ولا تأمنوا مَكْرَه أن يَسْلَبكم ما وَهَبَكم من أوقاتكم. وكونوا على حَذَرٍ من بَغَتَاتِ تقديره في تغيير ما أذاقكم من أُنْسِ محبته.
واتَّبِعوا السُّفَراء والرُسُل، وحافظوا على اتِّباعهم حتى يُؤتِيَكُم نصيبين من فضله: عصمةً ونعمةً؛ فالعصمة من البقاء عنه، والنعمة هي البقاء به.
ويقال: يؤتكم نصيبين: نصيبًا من التوفيق في طَلَبِه، ونصيبًا من التحقيق في وجوده. اهـ.

.قال ابن القيم:

قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم نورا تمشون به ويغفر لكم والله غفور رحيم}.
وفي قوله: {تمشون به} إعلام بأن تصرفهم وتقلبهم الذي ينفعهم إنما هو النور وأن مشيهم بغير النور غير مجد عليهم ولا نافع لهم بل ضرره أكثر من نفعه وفيه أن أهل النور هم أهل المشي في الناس ومن سواهم أهل الزمانة والانقطاع فلا مشي لقلوبهم ولا لأحوالهم ولا لأقوالهم ولا لأقدامهم إلى الطاعات وكذلك لا تمشي على الصراط إذا مشت بأهل الأنوار أقدامهم وفي قوله: {تمشون به} نكتة بديعة وهي أنهم يمشون على الصراط بأنوارهم كما يمشون بها بين الناس في الدنيا ومن لا نور له فإنه لا يستطيع أن ينقل قدما عن قدم على الصراط فلا يستطيع المشي أحوج ما يكون إليه. اهـ.

.من فوائد الجصاص في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
وَمِنْ سُورَةِ الْحَدِيدِ:
قوله تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ} الْآيَةَ.
رُوِيَ عَنْ الشَّعْبِيِّ قال: «فَصْلُ مَا بَيْنَ الْهِجْرَتَيْنِ فَتْحُ الْحُدَيْبِيَةِ وَفِيهِ أُنْزِلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ فَتْحٌ هُوَ؟ قال: نَعَمْ عَظِيمٌ».
وَقال سَعِيدٌ عَنْ قَتَادَةَ: (هُوَ فَتْحُ مَكَّةَ) قال أَبُو بَكْرٍ: أَبَانَ عَنْ فَضِيلَةِ الْإِنْفَاقِ قَبْلَ الْفَتْحِ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِعِظَمِ عَنَاءِ النَّفَقَةِ فِيهِ وَكَثْرَةِ الِانْتِفَاعِ بِهِ؛ وَلِأَنَّ الْإِنْفَاقَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ كَانَ أَشَدَّ عَلَى النَّفْسِ لِقِلَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَكَثْرَةِ الْكُفَّارِ مَعَ شِدَّةِ الْمِحْنَةِ وَالْبَلَاءِ وَلِلسَّبْقِ إلَى الطَّاعَةِ.
أَلَا تَرَى إلَى قولهِ: {الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ} وَقولهِ: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ}؟ فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَقْتَضِي تَفْضِيلَهَا.
وقوله تعالى: {فَطَالَ عَلَيْهِمْ الْأَمَدُ} الْآيَةَ.
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كَثْرَةَ الْمَعَاصِي وَمُسَاكَنَتَهَا وَأُلْفَهَا تُقَسِّي الْقَلْبَ وَتُبْعِدُ مِنْ التَّوْبَةِ، وَهُوَ نَحْوُ قولهِ: {كَلًّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
وقوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ} رَوَى الْبَرَاءُ بْنُ عَازِبٍ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «إنَّ كُلَّ مُؤْمِنٍ شَهِيدٌ» لِهَذِهِ الْآيَةِ وَجَعَلَ قولهُ: {وَالشُّهَدَاءُ} صِفَةً لِمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَهُوَ قول عَبْدِ اللَّهِ وَمُجَاهِدٍ وَقال ابْنُ عَبَّاسٍ وَمَسْرُوقٌ وَأَبُو الضُّحَى وَالضَّحَّاكُ: هُوَ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَخَبَرُهُ: {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ}.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} قال أَبُو بَكْرٍ: أَخْبَرَ عَمَّا ابْتَدَعُوهُ مِنْ الْقُرَبِ وَالرَّهْبَانِيَّة، ثُمَّ ذَمَّهُمْ عَلَى تَرْكِ رِعَايَتِهَا بِقولهِ: {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا}.
وَالِابْتِدَاعُ قَدْ يَكُونُ بِالْقول وَهُوَ مَا يُنْذِرُهُ وَيُوجِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِالْفِعْلِ بِالدُّخُولِ فِيهِ، وَعُمُومُهُ يَتَضَمَّنُ الْأَمْرَيْنِ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنَّ كُلَّ مَنْ ابْتَدَعَ قُرْبَةً قولا أَوْ فِعْلًا فَعَلَيْهِ رِعَايَتُهَا، وَإِتْمَامُهَا، فَوَجَبَ عَلَى ذَلِكَ أَنَّ مَنْ دَخَلَ فِي صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ حَجٍّ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْقُرَبِ فَعَلَيْهِ إتْمَامُهَا، وَلَا يَلْزَمُهُ إتْمَامُهَا إلَّا وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ فَيَجِبُ عَلَيْهِ الْقَضَاءُ إذَا أَفْسَدَهَا وَرُوِيَ عَنْ أَبِي أُمَامَةَ الْبَاهِلِيِّ قال: «كَانَ نَاسٌ مِنْ بَنِي إسْرَائِيلَ ابْتَدَعُوا بِدَعًا لَمْ يَكْتُبْهَا اللَّهُ عَلَيْهِمْ ابْتَغَوْا بِهَا رِضْوَانَ اللَّهِ فَلَمْ يَرْعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا، فَعَابَهُمْ اللَّهُ بِتَرْكِهَا فَقال: {وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا} الْآيَةَ». آخِرُ سُورَةِ الْحَدِيدِ. اهـ.

.من فوائد ابن العربي في السورة الكريمة:

قال رحمه الله:
سورة الحديد فِيهَا أَرْبَعُ آيَاتٍ:
الْآيَةُ الْأُولَى قوله تعالى: {هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
وَقَدْ بَيَّنَّا فِي كِتَابِ الْأَمَدِ تَفْسِيرُ هَذِهِ الْأَسْمَاءِ، وَحَقَّقْنَا أَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْآخِرُ بِعَيْنِهِ يَعْنِي لِأَنَّهُ وَاحِدٌ، وَأَنَّ الظَّاهِرَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْبَاطِنُ، وَأَنَّ الْآخِرَ هُوَ الظَّاهِرُ؛ إذْ هُوَ تعالى وَاحِدٌ تَخْتَلِفُ أَوْصَافُهُ، وَتَتَعَدَّدُ أَسْمَاؤُهُ، وَهُوَ تعالى وَاحِدٌ.
قال ابْنُ الْقَاسِمِ: قال مَالِكٌ: لَا يُحَدُّ وَلَا يُشَبَّهُ.
قال ابْنُ وَهْبٍ: سَمِعْت مَالِكًا يَقول: مَنْ قرأ {يَدُ اللَّهِ} وَأَشَارَ إلَى يَدِهِ، وَقرأ عَيْنُ اللَّهِ، وَأَشَارَ إلَى ذَلِكَ الْعُضْوِ مِنْهُ يُقْطَعُ تَغْلِيظًا عَلَيْهِ فِي تَقْدِيسِ اللَّهِ تعالى وَتَنْزِيهِهِ عَمَّا أَشْبَهَ إلَيْهِ، وَشَبَّهَهُ بِنَفْسِهِ، فَتُعْدَمُ نَفْسُهُ وَجَارِحَتُهُ الَّتِي شَبَّهَهَا بِاَللَّهِ، وَهَذِهِ غَايَةٌ فِي التَّوْحِيدِ لَمْ يَسْبِقْ إلَيْهَا مَالِكًا مُوَحِّدٌ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رَوَى الْبُخَارِيُّ عَنْ نَافِعٍ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قال: ذُكِرَ الدَّجَّالُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقال: «إنَّهُ لَا يَخْفَى عَلَيْكُمْ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ».
وَأَشَارَ بِيَدِهِ إلَى عَيْنِهِ، «وَأَنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ».
فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ، لَا يُوجِبُ عِلْمًا.
الثَّانِي أَنَّ هَذِهِ الْإِشَارَةَ فِي النَّفْيِ لَا فِي الْإِثْبَاتِ، وَفِي التَّقْدِيسِ لَا فِي التَّشْبِيهِ، وَهَذَا نَفِيسٌ فَاعْرِفْهُ.
الْآيَةُ الثَّانِيَةُ قوله تعالى: {وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاَللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}.
فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
نَفَى اللَّهُ سبحانه الْمُسَاوَاةَ بَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ فَتْحِ مَكَّةَ وَبَيْنَ مَنْ أَنْفَقَ بَعْدَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ حَاجَةَ النَّاسِ كَانَتْ قَبْلَ الْفَتْحِ أَكْثَرُ، لِضَعْفِ الْإِسْلَامِ، وَفِعْلُ ذَلِكَ كَانَ عَلَى الْمُنَافِقِينَ أَشَقُّ، وَالْأَجْرُ عَلَى قَدْرِ النَّصَبِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الثَّانِيَةُ:
رَوَى أَشْهَبُ عَنْ مَالِكٍ قال: يَنْبَغِي أَنْ يُقَدَّمَ أَهْلُ الْفَضْلِ وَالْعَزْمِ.
وَقَدْ قال اللَّهُ تعالى: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنْ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى} وَقَدْ بَيَّنَّا نَحْنُ فِيمَا تَقَدَّمَ تَرْتِيبَ أَحْوَالِ الصَّحَابَةِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَمَنَازِلِهِمْ فِي التَّقَدُّمِ وَالتَّأَخُّرِ وَمَرَاتِبِ التَّابِعِينَ.
المسألة الثَّالِثَةُ:
إذَا ثَبَتَ انْتِفَاءُ الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ الْخَلْقِ وَقَعَ التَّفْضِيلُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحِكْمَةِ وَالْحُكْمِ؛ فَإِنَّ التَّقَدُّمَ وَالتَّأَخُّرَ يَكُونُ فِي الدِّينِ وَيَكُونُ فِي أَحْكَامِ الدُّنْيَا، فَأَمَّا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ فَفِي الصَّحِيحِ عَنْ عَائِشَةَ قالتْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم أَنْ نُنْزِلَ النَّاسَ مَنَازِلَهُمْ، وَأَعْظَمُ الْمَنَازِلِ مَرْتَبَةً الصَّلَاةُ.
وَقَدْ قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي مَرَضِهِ: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ».
فَقِيلَ لَهُ: إنَّ أَبَا بَكْرٍ رَجُلٌ أَسِيفٌ إذَا قَامَ مَقَامَك لَمْ يُسْمِعْ النَّاسَ مِنْ الْبُكَاءِ، فَمُرْ عُمَرَ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ.
فَقال: «مُرُوا أَبَا بَكْرٍ فَلْيُصَلِّ بِالنَّاسِ». الْحديث.
فَقَدَّمَ الْمُقَدَّمَ، وَرَاعَى الْأَفْضَلَ.
وَفِي حديث أَبِي مَسْعُودٍ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ رِوَايَةِ التِّرْمِذِيِّ وَغَيْرِهِ: «يَؤُمُّ الْقَوْمَ أَقْرَؤُهُمْ لِكِتَابِ اللَّهِ؛ فَإِنْ كَانُوا فِي الْقراءة سَوَاءً فَأَعْلَمُهُمْ بِالسُّنَّةِ، فَإِنْ كَانُوا فِي السُّنَّةِ سَوَاءً فَأَقْدَمُهُمْ هِجْرَةً، فَإِنْ كَانُوا فِي الْهِجْرَةِ سَوَاءً فَأَكْبَرُهُمْ سِنًّا، وَلَا يَؤُمُّ الرَّجُلُ فِي سُلْطَانِهِ، وَلَا يَجْلِسُ عَلَى تَكْرِمَتِهِ إلَّا بِإِذْنِهِ».
وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قال لِمَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ وَأَخِيهِ «فَأَذِّنَا وَأَقِيمَا وَلْيَؤُمَّكُمَا أَكْبَرُكُمَا».
فَفَهِمَ مِنْهُ الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ، كَمَا قال صلى الله عليه وسلم: «الْوَلَاءُ لِلْكِبَرِ».
وَلَمْ يَعْنِ كِبَرَ السِّنِّ، وَإِنَّمَا أَرَادَ كِبَرَ الْمَنْزِلَةِ.
وَقَدْ قال مَالِكٌ وَغَيْرُهُ: وَإِنَّ لِلسِّنِّ حَقًّا.
وَرَاعَاهُ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ، وَهُوَ أَحَقُّ بِالْمُرَاعَاةِ؛ لِأَنَّهُ إذَا اجْتَمَعَ الْعِلْمُ وَالسِّنُّ فِي خَيِّرَيْنِ قُدِّمَ الْعِلْمُ وَأَمَّا أَحْكَامُ الدُّنْيَا فَهِيَ مُرَتَّبَةٌ عَلَى أَحْكَامِ الدِّينِ، فَمَنْ قُدِّمَ فِي الدِّينِ قُدِّمَ فِي الدُّنْيَا.
وَفِي الْآثَارِ: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْتَرِفْ لِعَالِمِنَا».
وَفِي الْحديث الثَّابِتِ فِي الْأَفْرَادِ: «مَا أَكْرَمَ شَابٌّ شَيْخًا لِسِنِّهِ إلَّا قَيَّضَ اللَّهُ لَهُ عِنْدَ سِنِّهِ مَنْ يُكْرِمُهُ».
وَأَنْشَدَنِي أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ قَاسِمٍ الْعُثْمَانِيُّ الشَّهِيدُ نَزِيلُ الْقُدْسِ لِابْنِ عَبْدِ الصَّمَدِ السَّرَقُسْطِيِّ:
يَا عَائِبًا لِلشُّيُوخِ مِنْ أَشَرٍ ** دَاخَلَهُ لِلصِّبَا وَمِنْ بَذَخِ

اُذْكُرْ إذَا شِئْت أَنْ تَعِيبَهُمْ ** جَدَّك وَاذْكُرْ أَبَاك يَا بْنَ أَخِي

وَاعْلَمْ بِأَنَّ الشَّبَابَ مُنْسَلِخٌ ** عَنْك وَمَا وِزْرُهُ بِمُنْسَلِخِ

مَنْ لَا يُعِزُّ الشُّيُوخَ لَا بَلَغَتْ ** يَوْمًا بِهِ سِنُّهُ إلَى الشَّيْخِ

الْآيَةُ الثَّالِثَةُ قوله تعالى: {وَاَلَّذِينَ آمَنُوا بِاَللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمْ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَاَلَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى:
فِي الْمُرَادِ بِقولهِ تعالى: {وَالشُّهَدَاءُ} وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: أَحَدُهَا أَنَّهُمْ النَّبِيُّونَ.
الثَّانِي: أَنَّهُمْ الْمُؤْمِنُونَ.
الثَّالِثُ أَنَّهُمْ الشُّهَدَاءُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْ هَؤُلَاءِ شَهِيدٌ، أَمَّا الْأَنْبِيَاءُ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى الْأُمَمِ، وَأَمَّا الْمُؤْمِنُونَ فَهُمْ شُهَدَاءُ عَلَى النَّاسِ كَمَا قال تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}.
وَأَمَّا مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم فَهُوَ شَهِيدٌ عَلَى الْكُلِّ لِقولهِ تعالى: {وَيَكُونُ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}.
المسألة الثَّانِيَةُ:
إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ فَهُوَ عَلَى الْعُمُومِ فِي كُلِّ شَاهِدٍ.
وَقَدْ قال عليه السلام: «خَيْرُ الشُّهَدَاء الَّذِي يَأْتِي بِشَهَادَتِهِ قَبْلَ أَنْ يُسْأَلَهَا، وَلَهُ الْأَجْرُ إذَا أَدَّى وَالْإِثْمُ إذَا كَتَمَ».
وَنُورُهُمْ قِيلَ وَهِيَ:
المسألة الثَّالِثَةُ:
هُوَ ظُهُورُ الْحَقِّ بِهِ، وَقِيلَ نُورُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
وَالْكُلُّ صَالِحٌ لِلْقول حَاصِلٌ لِلشَّاهِدِ بِالْحَقِّ.
وَأَمَّا إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الشُّهَدَاءَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَهُمْ الَّذِينَ قَاتَلُوا لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا.
وَهُمْ أَوْفَى دَرَجَةً وَأَعْلَى.
وَالشُّهَدَاءُ قَدْ بَيَّنَّا عَدَدَهُمْ، وَهُمْ:
الْمَقْتُولُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
الْمَقْتُولُ دُونَ مَالِهِ الْمَقْتُولُ دُونَ أَهْلِهِ.
الْمَطْعُونُ.
الْغَرِقُ.
الْحَرِقُ.
الْمَجْنُونُ.
الْهَدِيمُ.
ذَاتُ الْجَمْعِ.
الْمَقْتُولُ ظُلْمًا.
أَكِيلُ السَّبْعِ.
الْمَيِّتُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
مَنْ مَاتَ مِنْ بَطْنٍ فَهُوَ شَهِيدٌ.
الْمَرِيضُ شَهِيدٌ.
الْغَرِيبُ شَهِيدٌ.
صَاحِبُ النَّظْرَةِ شَهِيدٌ.
فَهَؤُلَاءِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهِيدًا.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُمْ فِي شَرْحِ الْحديث.
المسألة الرَّابِعَةُ:
قال جَمَاعَةٌ: إنَّ قوله: {وَالشُّهَدَاءُ} مَعْطُوفٌ عَلَى قوله تعالى: {الصِّدِّيقُونَ} عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ يَعْنِي أَنَّ الصِّدِّيقَ هُوَ الشَّهِيدُ، وَالْكُلُّ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ.
وَقِيلَ: هُوَ عَطْفُ جُمْلَةٍ عَلَى جُمْلَةٍ، وَالشُّهَدَاءُ ابْتِدَاءُ كَلَامٍ وَالْكُلُّ مُحْتَمَلٌ، وَأَظْهَرُهُ عَطْفُ الْمُفْرَدِ عَلَى الْمُفْرَدِ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ فِي الْمُلْجِئَةِ.
الْآيَةُ الرَّابِعَةُ قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
المسألة الْأُولَى الرَّهْبَانِيَّةُ:
فَعْلَانِيَّةٌ مِنْ الرَّهَبِ كَالرَّحْمَانِيَّةِ؛ وَقَدْ قرئتْ بِضَمِّ الرَّاءِ وَهِيَ مِنْ الرُّهْبَانِ كالرَّضْوانِيَّةِ مِنْ الرُّضْوَانِ.
وَالرَّهَبُ هُوَ الْخَوْفُ، كَفَى بِهِ عَنْ فِعْلٍ الْتَزَمَ خَوْفًا مِنْ اللَّهِ وَرَهْبًا مِنْ سَخَطِهِ.
المسألة الثَّانِيَةُ فِي تَفْسِيرِهَا: