فصل: فصل في معرفة آخر ما نزل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل في معرفة آخر ما نزل:

قال السيوطي:
فيه اختلاف، فروى الشيخان عن البراء بن عازب قال: آخر آية نزلت {يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة} وآخر سورة نزلت براءة. وأخرج البخاري عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت آية الربا. وروى البيهقي عن عمر مثله، والمراد بها قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا} وعند أحمد وابن ماجة عن عمر: من آخر ما نزل آية الربا. وعند ابن مردويه عن ابن سعيد الخدري قال: خطبنا عمر فقال: إن من آخر القرآن نزولًا آية الربا. وأخرج النسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس قال: آخر شيء نزل من القرآن {واتقوا يومًا ترجعون فيه} الآية. وأخرج ابن مردويه نحوه من طريق سعيد ابن جبير عن ابن عباس بلفظ: آخر آية نزلت. وأخرجه ابن جرير من طريق العوفي والضحاك عن ابن عباس. وقال: الفرياني في تفسيره: حدثنا سفيان عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} الآية، وكان بين نزولها وبين موت النبي صلى الله عليه وسلم أحد وثمانون يومًا. وأخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: آخر ما نزل من القرآن كله {واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله} الآية، وعاش النبي صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية تسع ليالي ثم مات ليلة الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول. وأخرج ابن جرير مثله عن ابن جريج. وأخرج من طريق عطية عن أبي سعيد قال: آخر آية نزلت {واتقوا يومًا ترجعون} الآية. وأخرج أبو عبيد في الفضائل عن ابن شهاب قال: آخر القرآن عهدًا بالعرش آية الربا وآية الدين. وأخرج ابن جرير من طريق ابن شهاب عن سعيد بن المسيب أنه بلغه أن أحدث القرآن عهدًا بالعرش آية الدين. مرسل صحيح الإسناد. قلت: ولا منافاة عندي بين هذه الروايات في آية الربا {واتقوا يومًا} وآية الدين، لأن الظاهر أنها نزلت دفعة واحدة كترتيبها في المصحف ولأنها في قصة واحدة، فأخبر كل عن بعض ما نزل بأنه آخر ذلك وذلك صحيح. وقول البراء: آخر ما نزل: {يستفتونك} أي في شأن الفرائض. وقال ابن حجر في شرح البخاري؛ طريق لا جمع بين القولين في آية الربا {واتقوا يومًا} أن هذه الآية هي ختام الآيات المنزلة في الربا إذ هي معطوفة عليهن، ويجمع بين ذلك وبين قول البراء بأن الآيتين نزلتا جميعًا فيصدق أن كلًا منهما آخر بالنسبة لما عداهما، ويحتمل أن تكون الآخرية في آية النساء مقيدة بما يتعلق بالمواريث بخلاف آية البقرة، ويحتمل عكسه. الأول أرجح لما في آية البقرة من الإشارة إلى معنى الوفاة المستلزمة لخاتمة النزول. وفي المستدرك عن أبيّ بن كعب قال: آخر آية نزلت {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى آخر السورة. وروى عبد الله بن أحمد في زوائد المسند وابن مردويه عن أبيّ أنهم جمعوا القرآن في خلافة أبي بكر وكان رجال يكتبون، فلما انتهوا إلى هذه الآية من سورة براءة {ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون} ظنوا أن هذا آخر ما نزل من القرآن، فقال لهم أبيّ بن كعب: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني بعدها آيتين {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} إلى قوله: {وهو رب العرش العظيم} وقال: هذا آخر ما نزل من القرآن قال: فختم بما فتح به بالله الذي لا إله إلا هو، وهو قوله: {وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}. وأخرج ابن مردويه عن أبيّ أيضًا قال: آخر القرآن عهدًا بالله هاتان الآيتان {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} وأخرجه ابن الأنباري بلفظ: أقرب القرآن بالسماء عهدًا. وأخرج أبو الشيخ في تفسيره من طريق عليّ بن زيد عن يوسف المكي عن ابن عباس قال: آخر آية نزلت {لقد جاءكم رسول من أنفسكم}. وأخرج مسلم عن ابن عباس قال: آخر سورة نزلت إذا جاء نصر الله والفتح. وأخرج الترمذي والحاكم عن عائشة قالت: آخر سورة نزلت بالمائدة فما وجدتم فيها من حلال فاستحلوه الحديث.
وأخرجا أيضًا عن عبد الله بن عمروقال: آخر سورة نزلت سورة المائدة والفتح. قلت: يعني إذا جاء نصر الله. وفي حديث عثمان المشهور: براءة من آخر القرآن نزولًا. قال البيهقي: يجمع بين هذه الاختلافات إن صحت بأن كل واحد أجاب بما عنده. وقال القاضي أبو بكر في الانتصار: هذه الأقوال ليس فيها شيء مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل قاله بضرب من الاجتهاد وغلبة الظن. ويحتمل أن كلًا منهم أخبر عن آخر ما سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم في اليوم الذي مات فيه أوقبل مرضه بقليل، وغيره سمع منه بعد ذلك وإن لم يسمعه هو، ويحتمل أيضًا أن تنزل هذه الآية التي هي آخر آية تلاها الرسول صلى الله عليه وسلم مع آيات نزلت معها فيؤمر برسم ما نزل معها بعد رسم فيظن أنه آخر ما نزل في الترتيب. اهـ.
ومن غريب ما ورد في ذلك: ما أخرجه ابن جرير عن معاوية بن أبي سفيان أنه تلا هذا الآية: {فمن كان يرجو لقاء ربه} الآية وقال: إنها آخر آية نزلت من القرآن.
قال ابن كثير: هذا أثر مشكل، ولعله أراد أنه لم ينزل بعدها آية تنسخها ولا تغير حكمها، بل هي مثبتة محكمة. قلت: ومثله ما أخرجه البخاري وغيره عن ابن عباس قال: نزلت هذا الآية: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} هي آخر ما أنزل وما نسخها شيء. وعند أحمد والنسائي عنه: لقد نزلت في آخر ما نزل ما نسخها شيء. وأخرج ابن مردويه من طريق مجاهد عن أم سلمة قالت: آخر آية نزلت هذه الآية: {فاستجاب لهم ربهم إني لا أضيع عمل عامل} إلى آخرها. قلت: وذلك أنها قالت: يا رسول الله أرى الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء، فنزلت {ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض} ونزلت {إن المسلمين والمسلمات} ونزلت هذه الآية، فهي آخر الثلاثة نزولًا أوآخر ما نزل بعد ما كان ينزل في الرجال خاصة. وأخرج ابن جرير عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم من فارق الدنيا على الإخلاص لله وحده وعبادته لا شريك له وأقام الصلاة وآتى الزكاة فارقها والله عنه راض قال أنس: وتصديق ذلك في كتاب الله في آخر ما نزل: {فإن تابوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة} الآية. قلت: يعني في آخر سورة نزلت. وفي البرهان لإمام الحرمين: إن قوله تعالى: {قل لا أجد فيما أوحى إلي محرمًا} الآية من آخر ما نزل، وتعقبه ابن الحصار بأن السورة مكية باتفاق، ولم يرد بتأخير هذه الآية عن نزول السورة بل هي في محاجة المشركين ومخاصمتهم وهم بمكة. اهـ.
تنبيه:
من المشكل على ما تقدم قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} فإنها نزلت بعرفة عام حجة الوداع، وظاهرها إكمال الفرائض والأحكام قبلها، وقد صرح بذلك جماعة منهم السدى فقال: لم ينزل بعدها حلال ولا حرام، مع أنه ورد في آية الربا والدين والكلالة أنها نزلت بعد ذلك. وقد استشكل ذلك ابن جرير وقال: الأولى أن يتأول على أنه أكمل لهم دينهم بإقرارهم بالبلد الحرام وإجلاء المشركين عنه حتى حجة المسلمون لا يخالطهم المشركون، ثم أيده بما أخرجه من طريق ابن أبي طلحة عن ابن عباس قال: كان المشركون والمسلمون يحجون جميعًا، فلما نزلت براءة لفى المشركون عن البيت وحج المسلمون لا يشاركهم في البيت الحرام أحد من المشركين، فكان ذلك من تمام النعمة وأتممت عليكم نعمتي. اهـ.

.من فوائد صاحب المنار في الآيات السابقة:

قال رحمه الله:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}.
نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ فِي تَحْرِيمِ الرِّبَا الَّذِي كَانَ مَعْرُوفًا فِي الْجَاهِلِيَّةِ، يَأْتِيهِ الْيَهُودُ وَالْمُشْرِكُونَ، وَهِيَ مِنْ آخَرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا كَمَا سَيَأْتِي. وَذُكِرَتْ فِي النَّظْمِ بَعْدَ آيَاتِ الصَّدَقَةِ الَّتِي كَانَ آخِرُهَا آيَةَ الْكَامِلِينَ فِي السَّخَاءِ وَالْجُودِ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي عَامَّةِ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ، لِمَا بَيْنَهُمَا مِنَ التَّنَاسُبِ بِالتَّضَادِّ، فَالْمُتَصَدِّقُ يُعْطِي الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ، وَالْمُرَابِي يَأْخُذُ الْمَالَ بِغَيْرِ عِوَضٍ يُقَابِلُهُ وَإِنَّنَا نَذْكُرُ تَفْسِيرَ الْآيَاتِ ثُمَّ نُفِيضُ الْكَلَامَ فِي مَسْأَلَةِ الرِّبَا وَحِكْمَةِ تَحْرِيمِهِ؛ لِأَنَّ لِهَذِهِ الْمَسْأَلَةِ شَأْنًا كَبِيرًا فِي حَيَاةِ الْأُمَّةِ السِّيَاسِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِيَّةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَيَزْعُمُ بَعْضُ الْمُتَفَرْنِجِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَحْرِيمَ الرِّبَا هُوَ الْعَقَبَةُ الْكَئُودُ فِي طَرِيقِ مُجَارَاةِ الْمُسْلِمِينَ لِلْأُمَمِ الْغَرْبِيَّةِ فِي الثَّرْوَةِ الَّتِي هِيَ مَنَاطُ الْعِزَّةِ وَالْقُوَّةِ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} تَنْفِيرٌ مِنَ الرِّبَا وَتَبْشِيعٌ لِحَالِ آكِلِهِ. وَالْمُرَادُ بِالْأَكْلِ: الْأَخْذُ لِأَجْلِ التَّصَرُّفِ، وَأَكْثَرُ مَكَاسِبِ النَّاسِ تُنْفَقُ فِي الْأَكْلِ، وَمَنْ تَصَرَّفَ فِي شَيْءٍ مِنْ مَالِ غَيْرِهِ يُقَالُ أَكَلَهُ وَهَضَمَهُ، أَيْ أَنَّهُ تَصَرَّفَ فِيهِ تَمَامَ التَّصَرُّفِ حَتَّى لَا مَطْمَعَ فِي رَدِّهِ. وَالرِّبَا فِي اللُّغَةِ: الزِّيَادَةُ، يُقَالُ: رَبَا الشَّيْءُ يَرْبُو إِذَا زَادَ عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، وَمِنْهُ الرَّابِيَةُ، وَالرَّبْوَةُ لِمَا عَلَا مِنَ الْأَرْضِ فَزَادَ عَلَى مَا حَوْلَهُ. وَتَعْرِيفُ الرِّبَا لِلْعَهْدِ، أَيْ لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا الَّذِي عَهِدْتُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ وَتَفْسِيرِ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ كَيْفِيَّةَ ذَلِكَ قَالَ: وَكَانَ أَكْلُهُمْ ذَلِكَ فِي جَاهِلِيَّتِهِمْ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَكُونُ لَهُ عَلَى الرَّجُلِ مَالٌ إِلَى أَجَلٍ، فَإِذَا حَلَّ الْأَجَلُ طَلَبَهُ مِنْ صَاحِبِهِ فَيَقُولُ لَهُ الَّذِي عَلَيْهِ الْمَالُ: أَخِّرْ عَنِّي دِينَكَ وَأَزِيدُكُ عَلَى مَالِكَ فَيَفْعَلَانِ ذَلِكَ، فَذَلِكَ هُوَ الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً، فَنَهَاهُمُ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ- فِي إِسْلَامِهِمْ عَنْهُ، اهـ. وَذَكَرَ وَقَائِعَ لِلْجَاهِلِيَّةِ فِي ذَلِكَ سَنَنْقُلُهَا عَنْهُ فِي مَوْضِعِهَا.
وَأَمَّا قِيَامُ آكِلِي الرِّبَا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ فِي تَفْسِيرِهِ: الْمُرَادُ: تَشْبِيهُ الْمُرَابِي فِي الدُّنْيَا بِالْمُتَخَبِّطِ الْمَصْرُوعِ، كَمَا يُقَالُ لِمَنْ يُصْرَعُ بِحَرَكَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ قَدْ جُنَّ. أَقُولُ: وَهَذَا هُوَ الْمُتَبَادَرُ، وَلَكِنْ ذَهَبَ الْجُمْهُورُ إِلَى خِلَافِهِ، وَقَالُوا: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْقِيَامِ: الْقِيَامُ مِنَ الْقَبْرِ عِنْدَ الْبَعْثِ، وَأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ مِنْ عَلَامَةِ الْمُرَابِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَنَّهُمْ يُبْعَثُونَ كَالْمَصْرُوعِينَ. وَرَوَوْا ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ، بَلْ رَوَى الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَوْفِ بْنِ مَالِكٍ مَرْفُوعًا: إِيَّاكَ وَالذُّنُوبَ الَّتِي لَا تُغْفَرُ: الْغُلُولُ فَمَنْ غَلَّ شَيْئًا أَتَى بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالرِّبَا فَمَنْ أَكَلَ الرِّبَا بُعِثَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَجْنُونًا يَتَخَبَّطُ أَقُولُ: وَالْمُتَبَادَرُ إِلَى جَمِيعِ الْأَفْهَامِ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ؛ لِأَنَّهُ إِذَا ذَكَرَ الْقِيَامَ انْصَرَفَ إِلَى النُّهُوضِ الْمَعْهُودِ فِي الْأَعْمَالِ، وَلَا قَرِينَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْبَعْثُ. وَهَذِهِ الرِّوَايَاتُ لَا يَسْلَمُ مِنْهَا شَيْءٌ مِنْ قَوْلٍ فِي سَنَدِهِ وَهِيَ لَمْ تَنْزِلْ مَعَ الْقُرْآنِ وَلَا جَاءَ الْمَرْفُوعُ مِنْهَا مُفَسِّرًا لِلْآيَةِ، وَلَوْلَاهَا لَمَا قَالَ أَحَدٌ بِغَيْرِ الْمُتَبَادَرِ الَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ إِلَّا مَنْ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ صِحَّتُهُ فِي الْوَاقِعِ. وَكَانَ الْوَضَّاعُونَ الَّذِينَ يَخْتَلِقُونَ الرِّوَايَاتِ يَتَحَرَّوْنَ فِي بَعْضِهَا مَا أَشْكَلَ عَلَيْهِمْ ظَاهِرُهُ مِنَ الْقُرْآنِ فَيَضَعُونَ لَهُ رِوَايَةً يُفَسِّرُونَهُ بِهَا وَقَلَّمَا يَصِحُّ فِي التَّفْسِيرِ شَيْءٌ، كَمَا قَالَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.
أَمَّا مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ ظَاهِرٌ فِي نَفْسِهِ، فَإِنَّ أُولَئِكَ الَّذِينَ فَتَنَهُمُ الْمَالُ وَاسْتَعْبَدَهُمْ حَتَّى ضَرِيَتْ نُفُوسُهُمْ بِجَمْعِهِ وَجَعَلُوهُ مَقْصُودًا لِذَاتِهِ وَتَرَكُوا لِأَجْلِ الْكَسْبِ بِهِ، جَمِيعَ مَوَارِدِ الْكَسْبِ الطَّبِيعِيِّ، تَخْرُجُ نُفُوسُهُمْ عَنِ الِاعْتِدَالِ الَّذِي عَلَيْهِ أَكْثَرُ النَّاسِ، وَيَظْهَرُ ذَلِكَ فِي حَرَكَاتِهِمْ وَتَقَلُّبِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ، كَمَا تَرَاهُ فِي حَرَكَاتِ الْمُولَعِينَ بِأَعْمَالِ الْبُورْصَةِ وَالْمُغْرَمِينَ بِالْقِمَارِ يَزِيدُ فِيهِمُ النَّشَاطُ وَالِانْهِمَاكُ فِي أَعْمَالِهِمْ، حَتَّى يَكُونَ خِفَّةً تَعْقُبُهَا حَرَكَاتٌ غَيْرُ مُنْتَظِمَةٍ، وَهَذَا هُوَ وَجْهُ الشَّبَهِ بَيْنَ حَرَكَاتِهِمْ وَبَيْنَ تَخَبُّطِ الْمَمْسُوسِ، فَإِنَّ التَّخَبُّطَ مِنَ الْخَبْطِ وَهُوَ ضَرْبٌ غَيْرُ مُنْتَظِمٍ، وَكَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ، وَبِهَذَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ بَيْنَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ وَمَا قَالَهُ الْجُمْهُورُ، ذَلِكَ بِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مَا شَنَّعَ بِهِ عَلَى الْمُرَابِينَ مِنْ خُرُوجِ حَرَكَاتِهِمْ عَنِ النِّظَامِ الْمَأْلُوفِ هُوَ أَثَرُ اضْطِرَابِ نُفُوسِهِمْ وَتَغَيُّرِ أَخْلَاقِهِمْ كَانَ لابد أَنْ يُبْعَثُوا عَلَيْهِ، فَإِنَّ الْمَرْءَ يُبْعَثُ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ يَمُوتُ عَلَى مَا عَاشَ عَلَيْهِ، وَهُنَاكَ تَظْهَرُ النَّفْسُ الْخَسِيسَةُ فِي أَقْبَحِ مَظَاهِرِهَا، كَمَا تَتَجَلَّى صِفَاتُ النَّفْسِ الزَّكِيَّةِ فِي أَبْهَى مَجَالِيهَا.
ثُمَّ إِنَّ التَّشْبِيهَ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْمَصْرُوعَ الَّذِي يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْمَمْسُوسِ يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ، أَيْ أَنَّهُ يُصْرَعُ بِمَسِّ الشَّيْطَانِ لَهُ وَهُوَ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَجَارِيًا فِي كَلَامِهِمْ مَجْرَى الْمَثَلِ.
قَالَ الْبَيْضَاوِيُّ فِي التَّشْبِيهِ: وَهُوَ وَارِدٌ عَلَى مَا يَزْعُمُونَ أَنَّ الشَّيْطَانَ يَخْبِطُ الْإِنْسَانَ فَيُصْرَعُ، وَالْخَبْطُ: ضَرْبٌ عَلَى غَيْرِ اتِّسَاقٍ كَخَبْطِ الْعَشْوَاءِ. اهـ. وَتَبِعَهُ أَبُو السُّعُودِ كَعَادَتِهِ، فَذَكَرَ عِبَارَتَهُ بِنَصِّهَا، فَالْآيَةُ عَلَى هَذَا لَا تُثْبِتُ أَنَّ الصَّرْعَ الْمَعْرُوفَ يَحْصُلُ بِفِعْلِ الشَّيْطَانِ حَقِيقَةً وَلَا نَنْفِي ذَلِكَ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ، أَنْكَرَ الْمُعْتَزِلَةُ وَبَعْضُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنْ يَكُونَ لِلشَّيْطَانِ فِي الْإِنْسَانِ غَيْرُ مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ بِالْوَسْوَسَةِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّ سَبَبَ الصَّرْعِ مَسُّ الشَّيْطَانِ كَمَا هُوَ ظَاهِرُ التَّشْبِيهِ- وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَصًّا فِيهِ- وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ أَطِبَّاءِ هَذَا الْعَصْرِ أَنَّ الصَّرْعَ مِنَ الْأَمْرَاضِ الْعَصَبِيَّةِ الَّتِي تُعَالَجُ كَأَمْثَالِهَا بِالْعَقَاقِيرِ وَغَيْرِهَا مِنْ طُرُقِ الْعِلَاجِ الْحَدِيثَةِ، وَقَدْ يُعَالَجُ بَعْضُهَا بِالْأَوْهَامِ، وَهَذَا لَيْسَ بُرْهَانًا قَطْعِيًّا عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْمَخْلُوقَاتِ الْخَفِيَّةَ الَّتِي يُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْجِنِّ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ لَهَا نَوْعُ اتِّصَالٍ بِالنَّاسِ الْمُسْتَعِدِّينَ لِلصَّرْعِ، فَتَكُونُ مِنْ أَسْبَابِهِ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، وَالْمُتَكَلِّمُونَ يَقُولُونَ: إِنَّ الْجِنَّ أَجْسَامٌ حَيَّةٌ خَفِيَّةٌ لَا تُرَى، وَقَدْ قُلْنَا فِي الْمَنَارِ غَيْرَ مَرَّةٍ: إِنَّهُ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الْأَجْسَامَ الْحَيَّةَ الْخَفِيَّةَ الَّتِي عُرِفَتْ فِي هَذَا الْعَصْرِ بِوَاسِطَةِ النَّظَّارَاتِ الْمُكَبِّرَةِ، وَتُسَمَّى بِالْمَيِكْرُوبَاتِ يَصِحُّ أَنْ تَكُونَ نَوْعًا مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّهَا عِلَلٌ لِأَكْثَرِ الْأَمْرَاضِ. قُلْنَا ذَلِكَ فِي تَأْوِيلِ مَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الطَّاعُونَ مِنْ وَخْزِ الْجِنِّ، عَلَى أَنَّنَا نَحْنُ الْمُسْلِمِينَ لَسْنَا فِي حَاجَةٍ إِلَى النِّزَاعِ فِيمَا أَثْبَتَهُ الْعِلْمُ وَقَرَّرَهُ الْأَطِبَّاءُ أَوْ إِضَافَةِ شَيْءٍ إِلَيْهِ مِمَّا لَا دَلِيلَ فِي الْعِلْمِ عَلَيْهِ لِأَجْلِ تَصْحِيحِ بَعْضِ الرِّوَايَاتِ الْأُحَادِيَّةِ، فَنَحْمَدُ اللهَ تَعَالَى عَلَى أَنَّ الْقُرْآنَ أَرْفَعُ مِنْ أَنْ يُعَارِضَهُ الْعِلْمُ.
قَالَ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا} أَيْ ذَلِكَ الْأَكْلُ لِلرِّبَا مُسَبَّبٌ عَنِ اسْتِحْلَالِهِمْ لَهُ وَجَعْلِهِ كَالْبَيْعِ وَمَا هُوَ كَالْبَيْعِ؛ فَإِنَّ الْبَيْعَ مُعَاوَضَةٌ بَيْنَ شَيْئَيْنِ، وَأَمَّا الرِّبَا الَّذِي كَانُوا يَأْكُلُونَهُ فَهُوَ زِيَادَةٌ عَنْ دِينِهِمْ يَزِيدُونَهَا عِنْدَ تَأْخِيرِ الْأَجَلِ لَا يُقَابِلُهَا شَيْءٌ، وَمَا يُؤْخَذُ بِغَيْرِ مُقَابِلٍ فَهُوَ مِنَ الْبَاطِلِ؛ لِذَلِكَ حَرَّمَ اللهُ الرِّبَا دُونَ الْبَيْعِ فَقَالَ: وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا وَلَوْ كَانَا مُتَسَاوِيَيْنِ لَمَا اخْتَلَفَ حُكْمُهُمَا عِنْدَ أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ، فَكُلُّ مَا فِيهِ مُعَاوَضَةٌ صَحِيحَةٌ خَالِيَةٌ مِنْ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ الَّذِي لَا يُقَابِلُهُ عِوَضٌ فَهِيَ بَيْعٌ حَلَالٌ، وَإِنَّمَا تَحْرُمُ الزِّيَادَةُ الَّتِي يَأْخُذُهَا صَاحِبُ الْمَالِ لِأَجْلِ التَّأْخِيرِ فِي الْأَجَلِ، وَهِيَ لَا مُعَاوَضَةَ فِيهَا وَلَا مُقَابِلَ لَهَا فَهِيَ ظُلْمٌ، وَسَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى تَعْلِيلُ تَحْرِيمِ الرِّبَا بِكَوْنِهِ ظُلْمًا. هَذَا مَا يَظْهَرُ لَنَا فِي مَعْنَى هَذِهِ الْعِبَارَةِ، وَتَرَى مُفَسِّرِينَا قَدْ بَنَوْا كَلَامَهُمْ فِيهَا عَلَى تَسْلِيمِ كَوْنِ الْبَيْعِ مِثْلَ الرِّبَا إِذْ جَعَلُوا تَحْرِيمَ الرِّبَا بِمَعْنَى الْأَمْرِ التَّعَبُّدِيِّ، وَقَالُوا: إِنَّ مَعْنَاهُ أَنَّ اللهَ تَعَالَى رَدَّ عَلَيْهِمْ بِأَنْ أَحَلَّ هَذَا وَحَرَّمَ هَذَا، فَيَجِبُ أَنْ يُطَاعَ.
وَيَظْهَرُ مِنْ عِبَارَةِ ابْنِ جَرِيرٍ أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي أُسْنِدَ إِلَيْهِمْ عَلَى ظَاهِرِهِ، قَالَ: هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا أَنَّهُ يُصِيبُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ قُبْحِ حَالِهِمْ، وَوَحْشَةِ قِيَامِهِمْ مِنْ قُبُورِهِمْ، وَسُوءِ مَا حَلَّ بِهِمْ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُمْ كَانُوا فِي الدُّنْيَا يَكْذِبُونَ وَيَفْتَرُونَ، وَيَقُولُونَ إِنَّمَا الْبَيْعُ الَّذِي أَحَلَّهُ اللهُ لِعِبَادِهِ مِثْلُ الرِّبَا، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ كَانُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنْ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ إِذَا حَلَّ مَالُ أَحَدِهِمْ عَلَى غَرِيمِهِ، يَقُولُ الْغَرِيمُ الْحَقُّ: زِدْنِي فِي الْأَجَلِ وَأَزِيدُكَ فِي مَالِكَ، فَكَانَ يُقَالُ لَهُمَا إِذَا فَعَلَا ذَلِكَ: هَذَا رِبًا لَا يَحِلُّ، فَإِذَا قِيلَ لَهُمَا ذَلِكَ قَالَا: سَوَاءٌ عَلَيْنَا زِدْنَا فِي أَوَّلِ الْبَيْعِ أَوْ عِنْدَ مَحَلِّ الْمَالِ، فَكَذَّبَهُمُ اللهُ تَعَالَى فِي قِيلِهِمْ فَقَالَ: {وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ}- ثُمَّ قَالَ فِي تَفْسِيرِ هَذَا مَا نَصَّهُ- يَعْنِي- جَلَّ ثَنَاؤُهُ-: وَأَحَلَّ اللهُ الْأَرْبَاحَ فِي التِّجَارَةِ وَالشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ وَحَرَّمَ الرِّبَا، يَعْنِي الزِّيَادَةَ الَّتِي يُزَادُ رَبُّ الْمَالِ بِسَبَبِ زِيَادَتِهِ غَرِيمَهُ فِي الْأَجَلِ وَتَأْخِيرِهِ دِينَهُ عَلَيْهِ. يَقُولُ- عَزَّ وَجَلَّ-: وَلَيْسَتِ الزِّيَادَتَانِ اللَّتَانِ إِحْدَاهُمَا مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ وَالْأُخْرَى مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةُ فِي الْأَجَلِ سَوَاءٌ؛ وَذَلِكَ أَنِّي حَرَّمْتُ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ تَأْخِيرِ الْمَالِ وَالزِّيَادَةِ فِي الْأَجَلِ، وَأَحْلَلْتُ الْأُخْرَى مِنْهُمَا وَهِيَ الَّتِي مِنْ وَجْهِ الزِّيَادَةِ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ الَّذِي ابْتَاعَ بِهِ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ الَّتِي يَبِيعُهَا فَيَسْتَفْضِلُ فَضْلَهَا، فَقَالَ اللهُ- عَزَّ وَجَلَّ-: لَيْسَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ وَجْهِ الْبَيْعِ نَظِيرَ الزِّيَادَةِ مِنْ وَجْهِ الرِّبَا؛ لِأَنِّي أَحْلَلْتُ الْبَيْعَ وَحَرَّمْتُ الرِّبَا، وَالْأَمْرُ أَمْرِي، وَالْخَلْقُ خَلْقِي، أَقْضِي فِيهِمْ مَا أَشَاءُ، وَأَسْتَعْبِدُهُمْ بِمَا أُرِيدُ، لَيْسَ لِأَحَدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَعْتَرِضَ فِي حُكْمِي. اهـ.
أَقُولُ: أَمَّا مَا قَالَهُ فِي بَيَانِ الْفَرْقِ بَيْنَ الزِّيَادَتَيْنِ فَهُوَ الصَّوَابُ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي مَعْنَى الرِّبَا هُوَ الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَهُمْ، وَهُوَ مَا يُسَمِّيهِ الْفُقَهَاءُ رِبَا النَّسِيئَةِ- كَمَا تَقَدَّمَ- وَأَمَّا قَوْلُهُ:
إِنَّهُمْ كَانَ يُقَالُ لَهُمْ: هَذَا رِبًا مُحَرَّمٌ، وَكَانُوا يُجِيبُونَ بِمَا حَكَى الله عَنْهُمْ فَلَيْسَتِ الْآيَةُ نَصًّا فِيهِ، إِذِ الْحِكَايَةُ عَنِ الْأَحْوَالِ بِالْأَقْوَالِ مِنَ الْأَسَالِيبِ الْمَعْرُوفَةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَيَتَوَقَّفُ جَعْلُ الْقَوْلِ عَلَى حَقِيقَتِهِ عَلَى إِثْبَاتِ اعْتِقَادِ الْعَرَبِ بِتَحْرِيمِ الرِّبَا، أَوْ عَلَى جَعْلِ الْآيَةِ خَاصَّةً بِالْيَهُودِ؛ فَإِنَّ الرِّبَا مُحَرَّمٌ فِي شَرِيعَتِهِمْ، وَهُمْ أَشَدُّ الْخَلْقِ مُرَابَاةً وَكَانُوا يَسْتَحِلُّونَ أَكْلَ أَمْوَالِ الْعَرَبِ بِكُلِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَاطِلِ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ [3: 75] وَإِنَّمَا حُرِّمَ عَلَيْنَا أَكْلُ أَمْوَالِ إِخْوَتِنَا الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَلَا دَلِيلَ عَلَى التَّخْصِيصِ، بَلِ الْآيَاتُ نَزَلَتْ فِي وَقَائِعَ لِغَيْرِهِمْ- كَمَا سَيَأْتِي- ثُمَّ إِنَّ مَا عَلَّلَ بِهِ كَوْنَ إِحْدَى الزِّيَادَتَيْنِ لَيْسَتْ كَالْأُخْرَى وَهُوَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَهَا، يُقَالُ فِيهِ: إِنَّهَا لَيْسَتْ مِثْلَهَا فِي الْوَاقِعِ وَنَفْسُ الْأَمْرِ كَمَا بَيَّنَ هُوَ، وَلَا فِي النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَمَا سَنُبَيِّنُ؛ وَلِذَلِكَ حَرَّمَهَا اللهُ تَعَالَى، فَمَا حَرَّمَ اللهُ تَعَالَى شَيْئًا إِلَّا لِأَنَّهُ ضَارٌّ فِي نَفْسِهِ، وَلَا أَحَلَّ شَيْئًا إِلَّا وَهُوَ نَافِعٌ فِي نَفْسِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ} فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي مَعْنَى الْوَعْظِ، وَكَوْنِ أَحْكَامِ الْقُرْآنِ مَقْرُونَةً بِالْمَوَاعِظِ فِي تَفْسِيرِ [آيَةِ 232] أَيْ فَمَنْ بَلَغَهُ تَحْرِيمُ اللهِ تَعَالَى لِلرِّبَا وَنَهْيُهُ عَنْهُ فَتَرَكَ الرِّبَا فَوْرًا بِلَا تَرَاخٍ وَلَا تَرَدُّدٍ، انْتِهَاءً عَمَّا نَهَى الله عَنْهُ فَلَهُ مَا كَانَ أَخَذَهُ فِيمَا سَلَفَ مِنَ الرِّبَا لَا يُكَلَّفُ رَدَّهُ إِلَى مَنْ أَخَذَهُ مِنْهُمْ، بَلْ يَكْتَفِي مِنْهُ بِأَلَّا يُضَاعِفَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ الْبَلَاغِ شَيْئًا وَأَمْرُهُ إِلَى اللهِ يَحْكُمُ فِيهِ بِعَدْلِهِ، وَمِنَ الْعَدْلِ أَلَّا يُؤَاخَذَ بِمَا أَكَلَ مِنَ الرِّبَا قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَبُلُوغِهِ الْمَوْعِظَةُ مِنْ رَبِّهِ، وَلَكِنَّ الْعِبَارَةَ تُشْعِرُ بِأَنَّ إِبَاحَةَ أَكْلِ مَا سَلَفَ رُخْصَةٌ لِلضَّرُورَةِ، وَتَوْمِئُ إِلَى أَنَّ رَدَّ مَا أَخَذَ مِنْ قَبْلِ النَّهْيِ إِلَى أَرْبَابِهِ الَّذِينَ أَخَذَ مِنْهُمْ مِنْ أَفْضَلِ الْعَزَائِمِ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُ عَبَّرَ عَنْ إِبَاحَةِ مَا سَلَفَ بِاللَّامِ، وَلَمْ يَقُلْ كَمَا قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ كَفَّارَةِ صَيْدِ الْمُحْرِمِ عَفَا اللهُ عَمَّا سَلَفَ [5: 95] وَأَنَّهُ عَقَّبَ هَذِهِ الْإِبَاحَةِ بِإِبْهَامِ الْجَزَاءِ وَجَعَلَهُ إِلَى اللهِ، وَالْمَعْهُودُ فِي أُسْلُوبِهِ أَنْ يَصِلَ مِثْلَ ذَلِكَ بِذِكْرِ الْمَغْفِرَةِ وَالرَّحْمَةِ، كَمَا قَالَ فِي آخِرِ آيَةِ مُحَرَّمَاتِ النِّسَاءِ: وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [4: 23] أَبَاحَ أَكْلَ مَا سَلَفَ قَبْلَ التَّحْرِيمِ وَأَبْهَمَ جَزَاءَ آكِلِهِ، لَعَلَّهُ يَغَصُّ بِأَكْلِ مَا فِي يَدِهِ مِنْهُ فَيَرُدُّهُ إِلَى صَاحِبِهِ، وَلَكِنَّهُ صَرَّحَ بِأَشَدِّ الْوَعِيدِ عَلَى مَنْ أَكَلَ شَيْئًا بَعْدَ النَّهْيِ فَقَالَ: وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ أَيْ وَمَنْ عَادَ إِلَى مَا كَانَ يَأْكُلُ مِنَ الرِّبَا الْمُحَرَّمِ بَعْدَ تَحْرِيمِهِ فَأُولَئِكَ الْبُعَدَاءُ عَنِ الِاتِّعَاظِ بِمَوْعِظَةِ رَبِّهِمُ الَّذِي لَا يَنْهَاهُمْ إِلَّا عَمَّا يَضُرُّ بِهِمْ فِي أَفْرَادِهِمْ أَوْ جَمِيعِهِمْ هُمْ أَهْلُ النَّارِ الَّذِينَ يُلَازِمُونَهَا كَمَا يُلَازِمُ الصَّاحِبُ صَاحِبَهُ فَيَكُونُونَ خَالِدِينَ فِيهَا. وَقَدْ أَوَّلَ الْخُلُودَ الْمُفَسِّرُونَ لِتَتَّفِقَ الْآيَةُ مَعَ الْمُقَرَّرِ فِي الْعَقَائِدِ وَالْفِقْهِ مَنْ كَوْنِ الْمَعَاصِي لَا تُوجِبُ الْخُلُودَ فِي النَّارِ، فَقَالَ أَكْثَرُهُمْ: إِنَّ الْمُرَادَ وَمَنْ عَادَ إِلَى تَحْلِيلِ الرِّبَا وَاسْتِبَاحَتِهِ اعْتِقَادًا، وَرَدَّهُ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي أَكْلِ الرِّبَا وَمَا ذُكِرَ عَنْهُمْ مِنْ جَعْلِهِ كَالْبَيْعِ هُوَ بَيَانٌ لِرَأْيِهِمْ فِيهِ قَبْلَ التَّحْرِيمِ، فَهُوَ لَيْسَ بِمَعْنَى اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمِ، فَإِذَا كَانَ الْوَعِيدُ قَاصِرًا عَلَى الِاعْتِقَادِ بِحِلِّهِ لَا يَكُونُ هُنَاكَ وَعِيدٌ عَلَى أَكْلِهِ بِالْفِعْلِ. وَالْحَقُّ أَنَّ الْقُرْآنَ فَوْقَ مَا كَتَبَ الْمُتَكَلِّمُونَ وَالْفُقَهَاءُ يَجِبُ إِرْجَاعُ كُلِّ قَوْلٍ فِي الدِّينِ إِلَيْهِ، وَلَا يَجُوزُ تَأْوِيلُ شَيْءٍ مِنْهُ لِيُوَافِقَ كَلَامَ النَّاسِ، وَمَا الْوَعِيدُ بِالْخُلُودِ هُنَا إِلَّا كَالْوَعِيدِ بِالْخُلُودِ فِي آيَةِ قَتْلِ الْعَمْدِ، وَلَيْسَ هُنَاكَ شُبْهَةً فِي اللَّفْظِ عَلَى إِرَادَةِ الِاسْتِحْلَالِ، وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَجْعَلَ الرَّازِّيُّ الْآيَةَ هُنَا حُجَّةً عَلَى الْقَائِلِينَ بِخُلُودِ مُرْتَكِبِ الْكَبِيرَةِ فِي النَّارِ انْتِصَارًا لِأَصْحَابِهِ الْأَشَاعِرَةِ، وَخَيْرٌ مِنْ هَذَا التَّأْوِيلِ تَأْوِيلُ بَعْضِهِمْ لِلْخُلُودِ بِطُولِ الْمُكْثِ، أَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ: مَا كُلُّ مَا يُسَمَّى إِيمَانًا يَعْصِمُ صَاحِبَهُ مِنَ الْخُلُودِ فِي النَّارِ؛ الْإِيمَانُ إِيمَانَانِ: إِيمَانٌ لَا يَعْدُو التَّسْلِيمَ الْإِجْمَالِيَّ بِالدِّينِ الَّذِي نَشَأَ فِيهِ الْمَرْءُ أَوْ نُسِبَ إِلَيْهِ، وَمُجَارَاةَ أَهْلِهِ وَلَوْ بِعَدَمِ مُعَارَضَتِهِمْ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ، وَإِيمَانٌ: هُوَ عِبَارَةٌ عَنْ مَعْرِفَةٍ صَحِيحَةٍ بِالدِّينِ عَنْ يَقِينٍ بِالْإِيمَانِ، مُتَمَكِّنَةٍ فِي الْعَقْلِ بِالْبُرْهَانِ، مُؤَثِّرَةٍ فِي النَّفْسِ بِمُقْتَضَى الْإِذْعَانِ، حَاكِمَةٍ عَلَى الْإِرَادَةِ الْمُصَرِّفَةِ لِلْجَوَارِحِ فِي الْأَعْمَالِ، بِحَيْثُ يَكُونُ صَاحِبُهَا خَاضِعًا لِسُلْطَانِهَا فِي كُلِّ حَالٍ، إِلَّا مَا لَا يَخْلُو عَنْهُ الْإِنْسَانُ مِنْ غَلَبَةِ جَهَالَةٍ أَوْ نِسْيَانٍ، وَلَيْسَ الرِّبَا مِنَ الْمَعَاصِي الَّتِي تُنْسَى أَوْ تَغْلِبُ النَّفْسَ عَلَيْهَا خِفَّةُ الْجَهَالَةِ وَالطَّيْشِ، كَالْحِدَّةِ وَثَوْرَةِ الشَّهْوَةِ، أَوْ يَقَعُ صَاحِبُهَا مِنْهَا فِي غَمْرَةِ النِّسْيَانِ كَالْغَيْبَةِ وَالنَّظْرَةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِيمَانُ الَّذِي يَعْصِمُ صَاحِبَهُ بِإِذْنِ اللهِ مِنَ الْخُلُودِ فِي سُخْطِ اللهِ، وَلَكِنَّهُ لَا يَجْتَمِعُ مَعَ الْإِقْدَامِ عَلَى كَبَائِرِ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشِ عَمْدًا؛ إِيثَارًا لِحُبِّ الْمَالِ وَاللَّذَّةِ عَلَى دِينِ اللهِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْحِكَمِ وَالْمَصَالِحِ، وَأَمَّا الْإِيمَانُ الْأَوَّلُ فَهُوَ صُورِيٌّ فَقَطْ، فَلَا قِيمَةَ لَهُ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى لِأَنَّهُ تَعَالَى لَا يَنْظُرُ إِلَى الصُّوَرِ وَالْأَقْوَالِ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى الْقُلُوبِ وَالْأَعْمَالِ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى هَذَا الَّذِي قَرَّرْنَاهُ فِي كِتَابِ اللهِ تَعَالَى كَثِيرَةٌ جِدًّا وَهُوَ مَذْهَبُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَإِنْ جَهِلَهُ كَثِيرٌ مِمَّنْ يَدَّعُونَ اتِّبَاعَ السُّنَّةِ حَتَّى جَرَّءُوا النَّاسَ عَلَى هَدْمِ الدِّينِ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ مَدَارَ السَّعَادَةِ عَلَى الِاعْتِرَافِ بِالدِّينِ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْ بِهِ، حَتَّى صَارَ النَّاسُ يَتَبَجَّحُونَ بِارْتِكَابِ الْمُوبِقَاتِ مَعَ الِاعْتِرَافِ بِأَنَّهَا مِنْ كَبَائِرِ مَا حُرِّمَ كَمَا بَلَغَنَا عَنْ بَعْضِ كُبَرَائِنَا أَنَّهُ قَالَ: إِنَّنِي لَا أُنْكِرُ أَنَّنِي آكُلُ الرِّبَا وَلَكِنَّنِي مُسْلِمٌ، أَعْتَرِفُ بِأَنَّهُ حَرَامٌ، وَقَدْ فَاتَهُ أَنَّهُ يَلْزَمُهُ بِهَذَا الْقَوْلِ الِاعْتِرَافُ بِأَنَّهُ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْوَعِيدِ وَبِأَنَّهُ يَرْضَى أَنْ يَكُونَ مُحَارِبًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ، وَظَالِمًا لِنَفْسِهِ وَلِلنَّاسِ كَمَا سَيَأْتِي فِي آيَةٍ أُخْرَى، فَهَلْ يَعْتَرِفُ بِالْمَلْزُومِ أَمْ يُنْكِرُ الْوَعِيدَ الْمَنْصُوصَ فَيُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ؟ نَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الْخِذْلَانِ.
ثُمَّ يُبَيِّنُ اللهُ تَعَالَى الْفَرْقَ بَيْنَ الرِّبَا وَالصَّدَقَةِ، إِذْ جَاءَ الْكَلَامُ عَنْهُ بَعْدَ الْكَلَامِ عَنْهَا بِبَيَانِ أَثَرِهِمَا فَقَالَ: يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ فَسَّرُوا مَحْقَ اللهِ الرِّبَا بِإِذْهَابِ بَرَكَتِهِ وَإِهْلَاكِهِ أَوْ إِهْلَاكِ الْمَالِ الَّذِي يَدْخُلُ فِيهِ، وَقَدِ اشْتُهِرَ هَذَا حَتَّى عَرَفَهُ الْعَامَّةُ فَهُمْ يَذْكُرُونَ دَائِمًا مَا يَحْفَظُونَ مِنْ أَخْبَارِ آكِلِي الرِّبَا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَمْوَالُهُمْ وَخَرِبَتْ بُيُوتُهُمْ. وَفِي حَدِيثِ ابْنِ مَسْعُودٍ عِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ وَالْحَاكِمِ وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ فِي التَّفْسِيرِ إِنِ الرِّبَا وَإِنْ كَثُرَ فَعَاقِبَتُهُ تَصِيرُ إِلَى قَلٍّ وَقَالَ الضَّحَّاكُ: إِنَّ هَذَا الْمَحْقَ فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يُبْطِلَ مَا يَكُونُ مِنْهُ مِمَّا يُتَوَقَّعُ نَفْعُهُ، فَلَا يَبْقَى لِأَهْلِهِ مِنْهُ شَيْءٌ.
وَقَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِهَذَا الْمَحْقِ مَحْقَ الزِّيَادَةِ فِي الْمَالِ؛ فَإِنَّ هَذَا مُكَابَرَةٌ لِلْمُشَاهَدَةِ وَالِاخْتِبَارِ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ مَا يُلَاقِي الْمُرَابِي مِنْ عَدَاوَةِ النَّاسِ وَمَا يُصَابُ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَغَيْرِهَا، أَمَّا عَدَاوَةُ النَّاسِ فَمِنْ حَيْثُ هُوَ عَدُوُّ الْمُحْتَاجِينَ وَبَغِيضُ الْمَعُوزِينَ، وَقَدْ تُفْضِي الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ إِلَى مَفَاسِدَ وَمَضَرَّاتٍ، وَاعْتِدَاءٍ عَلَى الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَقَدْ ظَهَرَ أَثَرُ ذَلِكَ فِي الْأُمَمِ الَّتِي فَشَا فِيهَا الرِّبَا إِذْ قَامَ الْفُقَرَاءُ فِيهَا يُعَادُونَ الْأَغْنِيَاءَ وَيَتَأَلَّبُ الْعُمَّالُ عَلَيْهِمْ حَتَّى صَارَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ أَعْقَدَ الْمَسَائِلِ عِنْدَهُمْ، وَأَمَّا مَا يُصَابُ بِهِ فِي نَفْسِهِ مِنَ الْوَسَاوِسِ وَالْأَوْهَامِ فَهُوَ مَا لَا يَعْرِفُهُ إِلَّا مَنْ رَاقَبَ هَؤُلَاءِ الْعَابِدِينَ وَتَلَا أَخْبَارَهُمْ. وَلَا أَذْكُرُ عَنْهُ مِثَالًا عَلَى ذَلِكَ، وَمَا الْأَمْثَالُ فِيهِ بِقَلِيلَةٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَشْغَلُهُ الْمَالُ عَنْ طَعَامِهِ وَشَرَابِهِ وَعَنْ أَهْلِهِ وَوَلَدِهِ حَتَّى يُقَصِّرَ فِي حُقِّ نَفْسِهِ وَحُقُوقِهِمْ تَقْصِيرًا يُفْضِي إِلَى الْخُسْرِ أَوِ الْمَهَانَةِ وَالذُّلِّ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَبُ لِذَلِكَ الصَّعْبِ وَيَقْتَحِمُ الْخَطَرَ حَتَّى يَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ.
وَأَقُولُ: الْمَحْقُ فِي اللُّغَةِ: مَحْوُ الشَّيْءِ وَالذَّهَابُ بِهِ، كَمُحَاقِ الْقَمَرِ، وَكُلُّ مَا لَا يُحْسِنُ الْمَرْءُ عَمَلَهُ فَقَدْ مَحَقَهُ- كَمَا فِي الْأَسَاسِ- فَلَعَلَّ الْمُرَادَ بِمَحْقِ الرِّبَا مَحْوُ مَا يَطْلُبُ النَّاسُ بِزِيَادَةِ الْمَالِ مِنَ اللَّذَّةِ وَبَسْطَةِ الْعَيْشِ وَالْجَاهِ وَالْمَكَانَةِ، وَزِيَادَةُ الرِّبَا تَذْهَبُ بِذَلِكَ لِاشْتِغَالِ الْمُرَابِي غَالِبًا عَنِ اللَّذَّةِ وَخَفْضِ الْمَعِيشَةِ بِوَلَهِهِ فِي مَالِهِ وَلِمَقْتِ النَّاسِ إِيَّاهُ وَكَرَاهَتِهِمْ لَهُ كَمَا عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ، فَهُوَ لَمْ يُحْسِنِ التَّصَرُّفَ فِي التَّوَصُّلِ إِلَى ثَمْرَةِ الْمَالِ، وَأَمَّا إِرْبَاءُ الصَّدَقَاتِ فَهُوَ زِيَادَةُ فَائِدَتِهَا وَثَمَرَتِهَا فِي الدُّنْيَا وَأَجْرِهَا فِي الْآخِرَةِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَاتِ الصَّدَقَةِ وَمُضَاعَفَةِ اللهِ إِيَّاهَا، فَمَعْنَى يَمْحَقُ اللهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ أَنَّ سُنَّتَهُ قَضَتْ فِي عَابِدِ الْمَالِ الَّذِي لَا يَرْحَمُ مَعُوزًا وَلَا يُنْظِرُ مُعْسِرًا إِلَّا بِمَالٍ يَأْخُذُهُ رِبًا بِدُونِ مُقَابِلٍ أَنْ يَكُونَ مَحْرُومًا مِنَ الثَّمَرَةِ الشَّرِيفَةِ لِلثَّرْوَةِ، وَهِيَ كَوْنُ صَاحِبِهَا نَاعِمًا عَزِيزًا شَرِيفًا عِنْدَ النَّاسِ. لِكَوْنِهِ مَصْدَرًا لِخَيْرِهِمْ وَالتَّفَضُّلِ عَلَيْهِمْ وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى زَمَنِهِمْ، كَمَا يَكُونُ مَحْرُومًا فِي الْآخِرَةِ مِنْ ثَوَابِ الْمَالِ، فَهُوَ فِي عَدَمِ انْتِفَاعِهِ بِمَالِهِ هَذَا الضَّرْبَ مِنَ الِانْتِفَاعِ كَمَنْ مُحِقَ مَالُهُ وَهَلَكَ، وَقَضَتْ سُنَّتُهُ فِي الْمُتَصَدِّقِ أَنْ يَكُونَ انْتِفَاعُهُ بِمَالِهِ أَكْبَرَ مِنْ مَالِهِ- وَقَدْ تَقَدَّمَ شَرْحُ ذَلِكَ فَلَا نُعِيدُهُ- وَفِي حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عِنْدَ الشَّيْخَيْنِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم قَالَ: مَنْ تَصَدَّقَ بِعَدْلِ ثَمَرَةٍ مِنْ كَسْبٍ طَيِّبٍ- وَلَا يَقْبَلُ اللهُ إِلَّا طَيِّبًا- فَإِنَّ اللهَ تَعَالَى يَقْبَلُهَا بِيَمِينِهِ ثُمَّ يُرَبِّيهَا لِصَاحِبِهَا كَمَا يُرَبِّي أَحَدُكُمْ فُلُوَّهُ، حَتَّى تَكُونَ مِثْلَ الْجَبَلِ وَالْحَدِيثُ مِنْ بَابِ التَّمْثِيلِ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ.
قَالَ تَعَالَى: {وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ} قَالُوا: لَا يُحِبُّ لَا يَرْضَى، وَالْكُفَّارُ: الْمُسْتَحِلُّ لِلرِّبَا، وَالْأَثِيمُ: الْمُقِيمُ عَلَى الْإِثْمِ. وَأَقُولُ: إِنَّ حُبَّ اللهِ لِلْعَبْدِ شَأْنٌ مِنْ شُئُونِهِ يُعْرَفُ بِاسْتِعْمَالِ الْعَبْدِ إِتْمَامَ حُكْمِ اللهِ فِي صَلَاحِ عِبَادِهِ، وَنَفْيُ هَذَا الْحُبِّ يُعْرَفُ بِضِدِّ ذَلِكَ، وَالْكُفَّارُ هُنَا: هُوَ الْمُتَمَادِي عَلَى كُفْرِ إِنْعَامِ اللهِ عَلَيْهِ بِالْمَالِ إِذْ لَا يُنْفِقُ مِنْهُ فِي سَبِيلِهِ وَلَا يُوَاسِي بِهِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِهِ، وَالْأَثِيمُ: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الْمَالَ آلَةً لِجَذْبِ مَا فِي أَيْدِي النَّاسِ إِلَى يَدِهِ فَافْتَرَصَ إِعْسَارَهُمْ لِاسْتِغْلَالِ اضْطِرَارِهِمْ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} أَيْ صَدَّقُوا تَصْدِيقَ إِذْعَانٍ بِمَا جَاءَ مِنْ عِنْدِ اللهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَغَيْرِهَا {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} أَيِ الْأَعْمَالَ الَّتِي تَصْلُحُ بِهَا نُفُوسُهُمْ وَشَأْنُ مَنْ يَعِيشُ مَعَهُمْ، وَمِنْهَا مُوَاسَاةُ الْمُحْتَاجِينَ، وَالرَّحْمَةُ بِالْبَائِسِينَ، وَإِنْظَارُ الْمُعْسِرِينَ، وَمِنْ سُنَّةِ الْقُرْآنِ أَنْ يُقْرِنَ الْإِيمَانَ بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي مَقَامِ الْوَعْدِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ الْحَقِيقِيَّ الْمَقْرُونَ بِالْإِذْعَانِ يَتْبَعُهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ حَتْمًا لَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَهَذَا بُرْهَانٌ عَلَى مَا قُلْنَاهُ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ السَّابِقَةِ.
{وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ} الَّتِي تُذَكِّرُ الْمُؤْمِنَ بِاللهِ تَعَالَى فَتَزِيدُ فِي إِيمَانِهِ وَحُبِّهِ وَمُرَاقَبَتِهِ لَهُ حَتَّى تَسْهُلَ عَلَيْهَا، وَيَكُونُ تَرْكُ أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالرِّبَا أَسْهَلُ.
وَذِكْرُ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ بَعْدَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ الَّتِي تَشْمَلُهُمَا؛ لِأَنَّهُمَا أَعْظَمَ أَرْكَانِ الْعِبَادَةِ النَّفْسِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ، فَمَنْ أَتَى بِهِمَا كَامِلَتَيْنِ سَهُلَ عَلَيْهِ كُلُّ عَمَلٍ صَالِحٍ {لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذَا الْجَزَاءِ قَرِيبًا فَلَا حَاجَةَ لِإِعَادَةِ التَّذْكِيرِ بِمَعْنَاهُ. وَجُمْلَةُ الْآيَةِ تَعْرِيضٌ بِآكِلِ الرِّبَا- كَأَنَّهُ يَقُولُ: لَوْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِلَخْ؛ لَكَفَّ عَنْهُ وَلَكِنَّهُ كَفَّارٌ أَثِيمٌ- وَتَمْهِيدٌ لِمَا بَعْدَهَا وَهُوَ:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا} وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ وَذَكَّرَهُمْ بِالتَّقْوَى، ثُمَّ انْتَقَلَ إِلَى الْأَمْرِ بِتَرْكِ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا لِمَنْ كَانُوا يُرَابُونَ مِنْهُمْ عِنْدَ غُرَمَائِهِمْ، ثُمَّ وَصَلَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} قَالَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ: أَيْ إِنْ كَانَ إِيمَانُكُمْ تَامًّا شَامِلًا لِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْأَحْكَامِ فَذَرُوا بَقَايَا الرِّبَا، وَقَدْ عُهِدَ فِي الْأُسْلُوبِ الْعَرَبِيِّ أَنْ يُقَالَ: إِنْ كُنْتَ مُتَّصِفًا بِهَذَا الشَّيْءِ فَافْعَلْ كَذَا، وَيَذْكُرُ أَمْرًا مِنْ شَأْنِهِ أَنْ يَكُونَ أَثَرًا لِذَلِكَ الْوَصْفِ. أَقُولُ: وَيُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتْرُكْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا بَعْدَ نَهْيِ اللهِ تَعَالَى عَنْهُ وَتَوَعُّدِهِ عَلَيْهِ فَلَا يُعَدُّ مِنْ أَهْلِ هَذَا الْإِيمَانِ التَّامِّ الشَّامِلِ الَّذِي لَهُ السُّلْطَانُ الْأَعْلَى عَلَى إِرَادَةِ الْعَامِلِ، وَهَذَا يُؤَيِّدُ مَا قُلْنَاهُ فِي مَسْأَلَةِ خُلُودِ مَنْ عَادَ إِلَى الرِّبَا بَعْدَ تَحْرِيمِهِ فِي النَّارِ. وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُؤْمِنُ بِبَعْضِ الْكِتَابِ إِيمَانًا يَبْعَثُ عَلَى الْعَمَلِ، وَيَكْفُرُ بِبَعْضٍ فَلَا يُذْعِنُ لَهُ وَيَعْمَلُ بِهِ، فَهُوَ يَجْحَدُهُ بِفِعْلِهِ وَإِنْ أَقَرَّ بِهِ بِلِسَانِهِ، وَلَا يَعْتَدُّ اللهُ بِإِيمَانِهِ إِلَّا إِذَا صَدَّقَ قَلْبُهُ وَعَمَلُهُ لِسَانَهُ لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ.
فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ أَيْ فَإِنْ لَمْ تَتْرُكُوا مَا بَقِيَ لَكُمْ مِنَ الرِّبَا كَمَا أُمِرْتُمْ فَاعْلَمُوا وَاسْتَيْقِنُوا بِأَنَّكُمْ عَلَى حَرْبٍ مِنَ اللهِ وَرَسُولِهِ إِذْ نَبَذْتُمْ مَا جَاءَكُمْ بِهِ رَسُولُهُ عَنْهُ. فَقَوْلُهُ: فَأْذَنُوا كَقَوْلِهِ: فَاعْلَمُوا وَزْنًا وَمَعْنًى وَهِيَ قِرَاءَةُ الْجُمْهُورِ، وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَعَاصِمُ فِي رِوَايَةِ ابْنِ عَيَّاشٍ {فَآذِنُوا} بِمَدِّ الْأَلْفِ مِنَ الْإِيذَانِ بِمَعْنَى الْإِعْلَامِ، أَيْ فَأَعْلِمُوا أَنْفُسَكُمْ- أَيْ لِيُعْلِمَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا- أَوِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ مُحَارِبُونَ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ بِالْخُرُوجِ عَنِ الشَّرِيعَةِ وَعَدَمِ الْخُضُوعِ لِلْحُكْمِ، وَهَذَا يَسْتَلْزِمُ أَنْ يَكُونُوا عَالِمِينَ بِذَلِكَ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: إِنَّ عَدَمَ الْخُضُوعِ لِلْأَمْرِ خُرُوجٌ عَنِ الشَّرِيعَةِ، فَهُوَ إِعْلَامٌ لِلْمُسْلِمِينَ بِأَنَّكُمْ خَارِجُونَ عَنْ حُكْمِ اللهِ وَرَسُولِهِ مُحَارِبُونَ لَهُمَا.
فَسَّرَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ حَرْبَ اللهِ لَهُمْ بِغَضَبِهِ وَانْتِقَامِهِ. قَالَ: وَنَحْنُ إِنْ لَمْ نَرَ أَثَرَ هَذَا فِي الْمَاضِينَ فَإِنَّنَا نَرَاهُ فِي الْحَاضِرِينَ مِمَّنْ أَصْبَحُوا بَعْدَ الْغِنَى يَتَكَفَّفُونَ، وَمَنْ بَاتُوا وَالْمَسْأَلَةُ الِاجْتِمَاعِيَّةُ مُنَاصَبَةُ الْعُمَّالِ لِأَرْبَابِ الْأَمْوَالِ تُهَدِّدُهُمْ بِالْوَيْلِ وَالثُّبُورِ. وَأَمَّا الْحَرْبُ مِنْ رَسُولِهِ لَهُمْ فَهِيَ مُقَاوَمَتُهُمْ بِالْفِعْلِ فِي زَمَنِهِ، وَاعْتِبَارُهُمْ أَعْدَاءً لَهُ فِي هَذَا الزَّمَنِ الَّذِي لَا يَخْلُفُهُ فِيهِ أَحَدٌ يُقِيمُ شَرْعَهُ وَإِنْ تُبْتُمْ وَرَجَعْتُمْ عَنِ الرِّبَا امْتِثَالًا وَخُضُوعًا فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ غُرَمَاءَكُمْ بِأَخْذِ الزِّيَادَةِ وَلَا تُظْلَمُونَ بِنَقْصِ شَيْءٍ مِنْ رَأْسِ الْمَالِ، بَلْ تَأْخُذُونَهُ كَامِلًا.
رَوَى ابْنُ جَرِيرٍ عَنِ السُّدِّيِّ أَنَّ الْآيَتَيْنِ نَزَلَتَا فِي الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، عَمِّ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَرَجُلٍ مَنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ كَانَا شَرِيكَيْنِ فِي الْجَاهِلِيَّةِ أَسْلَفَا فِي الرِّبَا إِلَى أُنَاسٍ مِنْ ثَقِيفٍ مَنْ بَنِي عَمْرٍو، وَهُمْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ، فَجَاءُ الْإِسْلَامُ وَلَهُمَا أَمْوَالٌ عَظِيمَةٌ فِي الرِّبَا؛ فَأَنْزَلَ اللهُ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنْ فَضْلٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ مِنَ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ قَالَ: «كَانَتْ ثَقِيفٌ قَدْ صَالَحَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَنَّ مَا لَهُمْ مِنْ رِبًا عَلَى النَّاسِ وَمَا كَانَ لِلنَّاسِ عَلَيْهِمْ مِنْ رِبًا فَهُوَ مَوْضُوعٌ، فَلَمَّا كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ اسْتَعْمَلَ عِتَابَ بْنَ أُسَيْدٍ عَلَى مَكَّةَ وَكَانَتْ بَنُو عَمْرِو بْنِ عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ يَأْخُذُونَ الرِّبَا مِنْ بَنِي الْمُغِيرَةِ، وَكَانَتْ بَنُو الْمُغِيرَةِ يُرْبُونَ لَهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، فَجَاءَ الْإِسْلَامُ وَلَهُمْ عَلَيْهِمْ مَالٌ كَثِيرٌ، فَأَتَاهُمْ بَنُو عَمْرٍو يَطْلُبُونَ رِبَاهُمْ، فَأَبِي بَنُو الْمُغِيرَةِ أَنْ يُعْطُوهُمْ فِي الْإِسْلَامِ وَرَفَعُوا ذَلِكَ إِلَى عِتَابِ بْنِ أُسَيْدٍ، فَكَتَبَ عِتَابُ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَنَزَلَتِ الْآيَتَانِ فَكَتَبَ بِهِمَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى عِتَابٍ، وَقَالَ: إِنْ رَضُوا وَإِلَّا فَآذِنْهُمْ بِحَرْبٍ». وَأَخْرَجَ أَبُو يَعْلَى فِي مُسْنَدِهِ وَابْنُ مَنْدَهْ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوَهُ. وَفِي الْآيَةِ أَنَّ الرِّبَا حُرِّمَ لِأَنَّهُ ظُلْمٌ، وَلَكِنْ بَعْضُ مَا يَعُدُّهُ الْفُقَهَاءُ مِنْهُ لَا ظُلْمَ فِيهِ، بَلْ رُبَّمَا كَانَ فِيهِ فَائِدَةٌ لِلْآخِذِ وَالْمُعْطِي.
{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} أَيْ وَإِنْ وُجِدَ غَرِيمٌ مُعْسِرٌ مِنْ غُرَمَائِكُمْ فَأَنْظِرُوهُ وَأَمْهِلُوهُ إِلَى وَقْتٍ يَسَارٍ يَتَمَكَّنُ فِيهِ مِنَ الْأَدَاءِ. وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَنَافِعٌ {مُيْسَرَةٍ}- بِضَمِّ السِّينِ- وَهِيَ لُغَةٌ كَالْفَتْحِ الَّذِي قَرَأَ بِهِ الْبَاقُونَ. رُوِيَ أَنَّ بَنِي الْمُغِيرَةِ قَالُوا لِبَنِي عَمْرِو بْنِ عُمَيْرٍ فِي الْقِصَّةِ السَّابِقَةِ: نَحْنُ الْيَوْمَ أَهْلُ عُسْرَةٍ فَأَخِّرُونَا إِلَى أَنْ تُدْرَكَ الثَّمْرَةُ فَأَبَوْا؛ فَنَزَلَتِ الْآيَةُ فِي قِصَّتِهِمْ كَالْآيَتَيْنِ قَبْلَهَا {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ} أَصْلُ تَصَدَّقُوا تَتَصَدَّقُوا قَرَأَ عَاصِمٌ- بِتَخْفِيفِ الصَّادِ- بِحَذْفِ إِحْدَى التَّاءَيْنِ، وَالْبَاقُونَ بِتَشْدِيدِهَا لِلْإِدْغَامِ؛ أَيْ: وَتَصَدُّقُكُمْ عَلَى الْمُعْسِرِ بِوَضْعِ الدَّيْنِ عَنْهُ وَإِبْرَائِهِ مِنْهُ- خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ إِنْظَارِهِ، فَهُوَ نَدْبٌ إِلَى الصَّدَقَةِ وَالسَّمَاحِ لِلْمَدِينِ الْمُعْسِرِ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّعَاطُفِ وَالتَّرَاحُمِ بَيْنَ النَّاسِ وَبِرِّ بَعْضِهِمْ بِبَعْضٍ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ هَنَاءِ الْمَعِيشَةِ وَحُسْنِ حَالِ الْأُمَّةِ؛ وَلِذَلِكَ نَبَّهَ إِلَى الْعِلْمِ بِذَلِكَ فَقَالَ: إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لِأَنَّ مَنْ لَا يَعْلَمُ وَجْهَ الْخَيْرِيَّةِ فِي شَيْءٍ؛ لَا يَعْمَلُهُ، وَمَنْ عَلِمَ حَتْمًا؛ أَيْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أَنَّهُ خَيْرٌ لَكُمْ عَمِلْتُمْ بِهِ وَعَامَلْتُمْ إِخْوَانَكُمْ بِالْمُسَامَحَةِ، فَعَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي يَهْدِيكُمْ إِلَى خَيْرِ الْعَمَلِ الَّذِي يُقَرِّبُ بَعْضَكُمْ مِنْ بَعْضٍ وَيَجْعَلُكُمْ مُتَحَابِّينَ مُتَوَادِّينَ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِالْآيَةِ عَلَى وُجُوبِ إِنْظَارِ الْمُعْسِرِ مُطْلَقًا، وَبَعْضُهُمْ عَلَى وُجُوبِ ذَلِكَ فِي دَيْنِ الرِّبَا خَاصَّةً. وَقَالُوا: إِنَّ هَذَا الْوَاجِبَ يَفْضُلُهُ شَيْءٌ مَنْدُوبٌ وَهُوَ الْإِبْرَاءُ وَالتَّصَدُّقُ عَلَى الْمُعْسِرِ، فَإِنَّهُ لَيْسَ بِوَاجِبٍ اتِّفَاقًا. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالتَّصَدُّقِ هُنَا الْإِنْظَارُ، كَأَنَّهُ يَقُولُ: وَهَذَا الْإِنْظَارُ الَّذِي أُمِرْتُمْ بِهِ خَيْرٌ لَكُمْ وَهُوَ خِلَافُ الْمُتَبَادَرِ.
ثُمَّ خَتَمَ- جَلَّ ثَنَاؤُهُ- آيَاتِ الرِّبَا بِهَذِهِ الْمَوْعِظَةِ الْعَامَّةِ الَّتِي تُسَهِّلُ عَلَى الْمُؤْمِنِ إِذَا وَعَاهَا السَّمَاحَ بِالْمَالِ، بَلْ وَبِالنَّفْسِ رَجَاءَ أَنْ يَلْقَى اللهَ تَعَالَى عَلَى أَحْسَنِ حَالٍ مِنَ الْفَضْلِ وَالْكَمَالِ فَقَالَ: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ قَرَأَ أَبُو عَمْرٍو وَيَعْقُوبُ: {تَرْجِعُونَ} بِفَتْحِ التَّاءِ وَكَسْرِ الْجِيمِ مَنْ رَجَعَ. وَالْبَاقُونَ: {تُرْجَعُونَ} بِضَمِّ التَّاءِ وَفَتْحِ الْجِيمِ مِنْ أَرْجَعَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ؛ أَيْ وَاحْذَرُوا يَوْمًا عَظِيمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ مِنْ غَفَلَاتِكُمْ وَشَوَاغِلِ الْحَيَاةِ الْجَسَدِيَّةِ الَّتِي تَشْغَلُكُمْ عَنْ مُرَاقَبَةِ اللهِ فَتَصِيرُونَ إِلَى اللهِ، أَيْ إِلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي الْعِلْمِ وَالشُّعُورِ بِأَنَّهُ لَا سُلْطَانَ إِلَّا سُلْطَانُهُ وَلَا مُلْكَ إِلَّا لَهُ، ذَكَرَ مَعْنَى ذَلِكَ الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ وَقَالَ مَا مَعْنَاهُ مَبْسُوطًا: أَمَّا حَقِيقَةُ الرُّجُوعِ فَلَا تَصِحُّ هُنَا لِأَنَّنَا مَا غِبْنَا عَنِ اللهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ نَغِيبَ عَنْهُ فَنَرْجِعَ إِلَيْهِ، وَلَكِنَّ الْإِنْسَانَ فِي غَفْلَتِهِ وَشُغُلِهِ بِشُئُونِهِ الْحَيَوَانِيَّةِ يَتَوَهَّمُ أَنَّ لَهُ اسْتِقْلَالًا تَامًّا بِنَفْسِهِ وَأَنَّ لَهُ رُؤَسَاءَ وَأُمَرَاءَ يَخَافُهُمْ وَيَرْجُوهُمْ، وَيَرَى أَنَّهُ تَعْرِضُ لَهُ حَاجَاتٌ وَضَرُورَاتٌ يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يَسْتَعِدَّ لَهَا بِتَكْثِيرِ الْمَالِ وَجَمْعِهِ مِنْ حَرَامٍ وَحَلَالٍ. فَأَمْثَالُ هَذِهِ الْخَوَاطِرِ تَكُونُ لَهُ شُغُلًا شَاغِلًا رُبَّمَا يَسْتَغْرِقُ وَقْتَهُ فَيَصْرِفُهُ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي مَنَافِعِ التَّسَامُحِ فِي مُعَامَلَةِ النَّاسِ وَالتَّصَدُّقِ عَلَى الْمُحْتَاجِ مِنْهُمْ، فَكَانَ أَنْفَعَ دَوَاءٍ لِمَرَضِ انْصِرَافِ النَّفْسِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي سُلْطَانِ اللهِ وَقُدْرَتِهِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيْهِ بِمَا فِيهِ تَمَامُ حِكْمَتِهِ- التَّذْكِيرُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ الَّذِي تَبْطُلُ فِيهِ هَذِهِ الشَّوَاغِلُ، وَتَتَلَاشَى هَذِهِ الصَّوَارِفُ؛ حَتَّى لَا يَشْغَلَ الْإِنْسَانَ فِيهِ شَيْءٌ مَا عَنِ اللهِ تَعَالَى وَمَا أَعَدَّهُ مِنَ الْجَزَاءِ لِلْعِبَادِ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ التَّذْكِيرِ بِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ: ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ أَيْ تُجَازَى عَلَى مَا عَمِلْتَ فِي الدُّنْيَا جَزَاءً وَافِيًا وَهَمْ لَا يُظْلَمُونَ أَيْ لَا يُنْقَصُونَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، بَلْ قَدْ يُزَادُ الْمُحْسِنُونَ مِنْهُمْ فَيُعْطَوْنَ أَكْثَرَ مِمَّا يَسْتَحِقُّونَ عَلَى إِحْسَانِهِمْ كَمَا ثَبَتَ فِي آيَاتٍ أُخْرَى.
أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ آخِرَ آيَةٍ نَزَلَتْ آيَةُ الرِّبَا. وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ عَنْ عُمَرَ مِثْلَهُ. قَالَ فِي الْإِتْقَانِ: وَالْمُرَادُ بِهَا يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا وَعِنْدَ أَحْمَدَ وَابْنِ مَاجَهْ عَنْ عُمَرَ: «مِنْ آخَرِ مَا نَزَلَ آيَةُ الرِّبَا» وَعِنْدَ ابْنِ مَرْدَوَيْهِ عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ قَالَ: خَطَبَنَا عُمَرُ فَقَالَ: «إِنَّ مِنْ آخِرِ الْقُرْآنَ نُزُولًا آيَةُ الرِّبَا» وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ مِنْ طَرِيقِ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخِرُ شَيْءٍ نَزَلَ مِنَ الْقُرْآنِ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ الْآيَةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ مَرْدَوَيْهِ نَحْوَهُ مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ، وَأَخْرَجَهُ ابْنُ جَرِيرٍ مِنْ طَرِيقِ الْعَوْفِيِّ وَالضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ عَنِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: آخَرُ آيَةٍ نَزَلَتْ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ الْآيَةَ. وَكَانَ بَيْنَ نُزُولِهَا وَبَيْنَ مَوْتِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَحَدٌ وَثَمَانُونَ يَوْمًا. ثُمَّ ذُكِرَ فِي الْإِتْقَانِ مِثْلُهُ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ: عَاشَ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ تِسْعَ لَيَالٍ، وَمِثْلُهُ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ. وَعَنِ ابْنِ شِهَابٍ عِنْدَ أَبِي عُبَيْدٍ: آخِرُ الْقُرْآنِ عَهْدًا بِالْعَرْشِ آيَةُ الرِّبَا وَآيَةُ الدَّيْنِ. وَعَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ عِنْدَ ابْنِ جَرِيرٍ مِثْلُ هَذَا اللَّفْظِ فِي آيَةِ الدَّيْنِ فَقَطْ. قَالَ السُّيُوطِيُّ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَا مُنَافَاةَ عِنْدِي بَيْنَ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ فِي آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ وَاتَّقُوا يَوْمًا وَآيَةِ الدَّيْنِ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهَا نَزَلَتْ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَتَرْتِيبِهَا فِي الْمُصْحَفِ، وَلِأَنَّهَا فِي قِصَّةٍ وَاحِدَةٍ، فَأَخْبَرَ كُلٌّ عَنْ بَعْضِ مَا نَزَلَ بِأَنَّهُ آخِرُ وَذَلِكَ صَحِيحٌ. اهـ. أَيْ إِنَّ كُلَّ مُخْبِرٍ ذَكَرَ ذَلِكَ فِي سِيَاقٍ يَقْتَضِيهِ. وَقِيلَ غَيْرُ مَا ذُكِرَ فِي آخِرِ الْقُرْآنِ نُزُولًا وَفِي مُدَّةِ بَقَائِهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ نُزُولِ وَاتَّقُوا يَوْمًا الْآيَةَ. وَوَرَدَ أَنَّهُ قَالَ: اجْعَلُوهَا بَيْنَ آيَةِ الرِّبَا وَآيَةِ الدَّيْنِ وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: جَاءَنِي جِبْرِيلُ فَقَالَ: اجْعَلُوهَا عَلَى رَأْسِ مِائَتَيْنِ وَثَمَانِينَ آيَةً مِنَ الْبَقَرَةِ وَهَكَذَا كَانَ شَأْنُهُ صلى الله عليه وسلم فِي تَرْتِيبِ الْآيَاتِ.