فصل: في رياض آيات السورة الكريمة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وهناك الوثنيون المتعلقون بأذيال الليل المدبر.
وهناك اليهود الذين يعبدون جنسهم ويريدون فرض أهوائهم على الناس.
وهناك المنافقون الذين يجرون وراء مصالحهم ويظهرون في ألف لون.
وهذه السورة على وجازتها، تعرضت لأولئك جميعا.
فقد بتت في قضية الظهار، وهو من شئون الأسرة المسلمة، وبينت أنه ليس طلاقا، وذكرت كفارته. والإسلام يهتم بشئون الأسرة ويوضح حدودها، فيقول هنا {وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم}. ويقول في سورة البقرة {تلك حدود الله فلا تعتدوها}- بعد أحكام الطلاق- ويقول في سورة النساء {تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار}- بعد أحكام الميراث- وهذه الحدود شيء آخر غير العقوبات المقدرة على بعض الجرائم. ومن أسلوب القرآن أن يمزج الأحكام بالعقائد ليجعل التزامها جزءا من الإيمان ومظهرا لإجلال الله، ولذلك قال بعدها {ألم تر أن الله يعلم ما في السماوات وما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم...}.
وانتقلت السورة عقب ذلك إلى اليهود الذين إذا أرادوا تحية المسلمين قالوا: السام عليكم! ويجعلون من الشبه بين السام والسلام ذريعة للعن المسلمين وتمنى الهلاك لهم! وقد سمعتهم عائشة فكشفتهم ونهرتهم، ولكن النبي صلى الله عليه وسلم آثر أسلوبا أليق به، ونزلت الآية {.. وإذا جاءوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير}.
ثم أمر الله المسلمين أن تكون أحاديثهم في مجالسهم أو مع خصومهم بعيدة عن الشحناء والتحدي وأن يترفعوا عن محاكاة اليهود، وألا يكترثوا إذا تلاقى اليهود والمنافقون فتسار بعضهم مع البعض الآخر في بشاشة وود- ليحرجوا المؤمنين ويشعروهم بالعزلة {إنما النجوى من الشيطان ليحزن الذين آمنوا وليس بضارهم شيئا إلا بإذن الله وعلى الله فليتوكل المؤمنون}.
والإسلام ينزل الناس منازلهم وفق الإيمان والعلم. فـ: في صفوف الصلاة، يقول الرسول: «ليلني منكم أولو الأحلام والنهى». وفي المجالس العامة، يقول الله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات}. والمسلمون يحبون نبيهم أشد الحب، ولم لا وقد أخرجهم من الظلمات إلى النور، وعرفهم بخالقهم ورازقهم، ووقفهم صفوفا بين يديه يحمدونه ويستهدونه طر في النهار وزلفا من الليل؟ ثم إن شخصه النبيل جدير بالحب والحفاوة، والكمال البشرى جدير بالحب حيث كان. إلا أن عاطفة الالتفاف حول الرسول والجلوس معه لابد من تنظيمها حتى تستقيم شئون الدنيا والدين وحتى يجد وقتا يخلص فيه إلى نفسه وأهله!! ولذلك نزلت الآية {يا أيها الذين آمنوا إذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة ذلك خير لكم وأطهر فإن لم تجدوا فإن الله غفور رحيم}. فإذا صعب ذلك على مؤمن، فأفعال الخير أمامه كثيرة يستطيع بها إرضاء ربه، وهى أولى به من إيثار الحديث مع الرسول! قد يكون في الحديث مع العظماء لذة، بيد أن نصرة رسالتهم أهم! {أأشفقتم أن تقدموا بين يدي نجواكم صدقات فإذ لم تفعلوا وتاب الله عليكم فأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة...}.
وفي مجتمع يختلط فيه المؤمنون والمشركون والكتابيون وتشتبك فيه المصالح المادية والأدبية تمتحن المبادئ امتحانا قاسيا، وقد يقدم الرجل قرابته أو تجارته على مذهبه أو رأيه! وذاك ما جعل الشاعر يقول قديما لواحد من هؤلاء المتلونين:
فإما أن تكون أخي بصدق ** فأعرف منك غثي من سميني

وإما فاطرحني واتخذني ** عدوا أتقيك وتتقيني

والنفاق داء خبيث شديد الخطر. ومن أيسر الأمور على المنافق أن يحلف كاذبا، ولذلك قال تعالى يصف هذا الصنف: {ألم تر إلى الذين تولوا قوما غضب الله عليهم ما هم منكم ولا منهم ويحلفون على الكذب وهم يعلمون أعد الله لهم عذابا شديدا إنهم ساء ما كانوا يعملون} ويظهر أن الذي يألف نهجا معينا من الحياة يموت به ويبعث عليه، وذاك ما جعل العامة في بلادنا يقولون (يموت الزمار وأصابعه تلعب)! فإذا مات كذلك بعث كذلك. وربما حاول الدجال في الدنيا أن يكون دجالا في الآخرة، فيحلف على الزور كأن حلفه سينجيه! {يوم يبعثهم الله جميعا فيحلفون له كما يحلفون لكم ويحسبون أنهم على شيء ألا إنهم هم الكاذبون}، وهيهات.. {إن الذين يحادون الله ورسوله أولئك في الأذلين}.
في النجاة من هذه الفتن. وتفريقا بين الإيمان الصادق والإيمان المغشوش، يأمر الله المؤمنين أن يصارحوا بعقائدهم ويتحدَّوا بمبادئهم وينحازوا إلى أشكالهم ويجافوا خصومهم. {لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه..}. اهـ.

.في رياض آيات السورة الكريمة:

.فصل في أسرار ترتيب السورة:

قال السيوطي:
سورة المجادلة:
أقول: لما كان في مطلع الحديد ذكر صفاته الجليلة، ومنها: الظاهر والباطن، وقال: {يعلمُ ما يلجُ في الأَرضِ وما يخرجُ منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أينما كُنتُم} افتتح هذه بذكر أنه سمع قوله المجادلة التي شكت إليه صلى الله عليه وسلم ولهذا قالت عائشة رضي الله عنها حين نزلت: «سُبحانَ الذي وسِعَ سمعهُ الأَصوات، إِني لفي ناحية البيت لا أَعرف ما تقول» وذكر بعد ذلك قوله: {أَلم تر أَن اللَهَ يعلمُ ما في السموات وما في الأَرض ما يكون من نجوى ثلاثة إِلا هو رابعهم} وهو تفصيل لقوله: {وهوَ معكُم أَينما كنتُم} وبذلك تعرف الحكمة في الفصل بها بين الحديد والحشر، مع تآخيهما في الافتتاح بـ {سبح}. اهـ.

.تفسير الآيات (1- 2):

قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقول وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
{بسم الله} الذي أحاط علمه فتمت قدرته فكملت جميع صفاته (الرحمن) الذي شمل الخلائق جودا بالإيجاد وإرسال هداته (الرحيم) الذي خص أصفياءه فتمت عليهم نعمة مرضاته.
لما ختمت الحديد بعد إثبات عجز الخلق بعظيم الفضل له سبحانه، وكان سماع أصوات جميع الخلائق من غير أن يشغل صوت عن صوت وكلام عن كلام من الفضل العظيم، وكان قد تقدم ابتداع بعض المتعبدين من الرهبانية بما لم يصرح لهم بالإذن فيه، فكان سببًا للتضييع، وكان الظهار على نوعين: موقت ومطلق، وكان الموقت مما يدخل في الرهبانية لأنه من التبتل وتحريم ما أحل الله من الطيبات، وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم قد منع نفسه بالموقت منه من مرغوبها مما لم يأت عن الله، فظاهر من امرأته محافظة على كمال التعبد خوفًا من الجماع في نهار رمضان، وكان ذلك مما لم يأذن به بل نهى عنه كما روى أبو داود عن أنس رضي الله عنه والطبراني في الأوسط على سهل بن حنيف رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تشددوا على أنفسكم، فإنما هلك من كان قبلكم بتشديدهم على أنفسهم، وستجدون بقاياهم في الصوامع والديارات» وكان بعض الصحابة رضي الله عنهم أجمعين قد ظاهر مطلقًا فشكت امرأته ما لحقها من الضرر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهتفت باسم الله، وكان علمه سبحانه بخصوص شكاية هذه المرأة المسكينة وإزالة ضررها بحكم عام لها ولغيرها من عباده حتى صارت واقعتها رخصة عامة للمسلمين إلى يوم القيامة معلمًا بأنه ذو الفضل العظيم، وأنه الظاهر الباطن، ذو الملك كله، وكان قد أمر بالإيمان به وبرسوله ووعد على ذلك بالنور، كان السامع لذلك جديرًا بتوقع البيان الذي هو النور في هذه الرهبانية التي ابتدعت في هذه الأمة، وتخفيف الشديد الذي وقع عن بعضهم ليعلم أهل الكتاب ما لهذه الأمة من الكرامة على ربها وأنه يختص برحمته من يشاء فقال: {قد سمع الله} أي أجاب بعظيم فضله الذي أحاط بجميع صفات الكمال فوسع سمعه الأصوات {قول} وعبر بالوصف دون الاسم تعريفًا برحمته الشاملة فقال: {التي تجادلك} أي تبالغ في أن تقبلك إلى مرادها {في زوجها} أي في الأمر المخلص له من ظهاره رحمة لها {وتشتكي} أي تتعمد بتلك المجادلة الشكوى، منتهية {إلى الله} أي الملك العظيم الرحيم الذي أحاط بكل شيء علمًا، ولصدقها في شكواها وقطع رجائها في كشف ما بها من غير الله كانت هي والنبيُّ صلى الله عليه وسلم متوقعين أن الله يكشف ضرها {والله} أي والحال أن الذي وسعت رحمته كل شيء لأنه له الأمر كله {يسمع تحاوركما} أي مراجعتكما التي يحور- أي يرجع فيها إلى كل منكما جواب كلامه من الآخر كأنها لثقل ما قدح في أمرها ونزل من ضرها ناشئة عن حيرة.
ولما كان ذلك في غاية ما يكون من خرق العادة بحيث إن الصديقة عائشة رضي الله عنها قالت عند نزول الآية: «الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد كلمت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا في جانب البيت ما أسمع كثيرًا مما تقول» أكده تنبيهًا على شدة غرابته ولأنه ربما استبعده من اشتد جهله لعراقته في التقيد بالعادات فقال: {إن الله} أي الذي أحاط بجميع صفات الكمال فلا كفؤ له {سميع بصير} أي بالغ السمع لكل مسموع، والبصر لكل ما يبصر والعلم لكل ما يصح أن يعلم أزلًا وأبدًا، وقد مضى نحو هذا التناسب في المائدة حين أتبع تعالى آية القسيسين والرهبان قوله تعالى: {يأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [المائدة: 87] غير أن هذا خاص وذاك عام، فهذا فرد منه، فالمناسبة واحدة لأن الأخص في ضمن الأعم، والحاصل أنه سبحانه امتنَّ عليهم بما جعل في قلوبهم من الرهبانية وغيرها، وأخبر أنهم لم يوفوها حقها، وأنه آتى مؤمنيهم الأجر، وأمر المسلمين بالتقوى واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم ليحصل لهم من فضله العظيم ضعف ما حصل لأهل الكتاب، ونهاهم عن التشديد على أنفسهم بالرهبانية، فصاروا مفضلين من وجهين: كثرة الأجر وخفة العمل، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء- والله أعلم، روى البزار من طريق خصيف عن عطاء من غيرهما أيضًا عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال: يا رسول الله! إني ظاهرت من امرأتي ورأيت ساقها في القمر فواقعتها قبل أن أكفر، قال: «كفِّر ولا تعد» وروى أبو داود عن عكرمة «أن رجلًا ظاهر من امرأته ثم واقعها قبل أن يكفر، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: رأيت بياض ساقيها في القمر، قال: فاعتزلها حتى تكفر عنك» قال المنذري: وأخرجه أيضًا عن عكرمة عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم بمعناه، وأخرجه النسائي وابن ماجة والترمذي- وقال: حديث حسن غريب صحيح- وقال النسائي: المرسل أولى بالصواب من المسند، وقال أبو بكر المعافري: ليس في الظهار حديث صحيح يعول عليه، قال المنذري: وفيما قاله نظر، فقد صححه الترمذي كما ترى، ورجال إسناده ثقات، وسماع بعضهم من بعض مشهور، وترجمة عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهم احتج بها البخاري في غير موضع- انتهى.
وللترمذي- وقال حسن غريب- عن سلمة بن صخر رضي الله عنه في المظاهر يواقع قبل أن يكفر قال: «كفّار واحدة».
وروى أحمد والحاكم وأصحاب السنن إلا النسائي وحسنه الترمذي، قال ابن الملقن: وصححه ابن حبان والحاكم- من طريق سليمان بن يسار عن سلمة بن صخر البياضي رضي الله عنه قال: «كنت أمرا أصيب من النساء ما لا يصيب غيري، فلما دخل شهر رمضان خفت أن أصيب من امرأتي شيئًا يتابع بي حتى أصبح فظاهرت منها حتى ينسلخ شهر رمضان، فبينا هي تخدمني ذات ليلة تكشف لي منها شيء فما لبث أن نزوت عليها، فلما أصبحت خرجت إلى قومي فأخبرتهم الخبر وقلت: امشوا معي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالوا: لا والله: فانطلقت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته، فقال أنت بذاك يا سلمة؟ قلت: أنا بذاك يا رسول الله مرتين، وأنا صابر لأمر الله، فاحكم فيّ بما أراك الله، وفي رواية: فأمض فيَّ حكم الله فإني صابر لذلك، قال حرر رقبة. قلت: والذي بعثك بالحق ما أملك غيرها- وضربت صفحة رقبتي، قال: فصم شهرين متتابعين، قلت: وهل أصبت الذي أصبت إلا من الصيام، قال: فاطعم وسقًا من تمر بين ستين مسكينًا، قال: والذي بعثك بالحق، لقد بتنا وحشين ما لنا طعام، قال: فانطلق إلى صاحب صدقة بني زريق فليدفعها إليك فأطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر وكل أنت وعيالك بقيتها فرجعت إلى قومي فقلت: وجدت عندكم الضيق وسوء الرأي، ووجدت عند النبي صلى الله عليه وسلم السعة وحسن الرأي، وفي رواية: والبركة وقد أمرني- أو أمر لي- بصدقتكم»، وفي رواية: «فادفعوها إليّ، فدفعوها إليّ».