فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرأ جمهور الناس: {أمهاتِهم} بنصب الأمهات، وقرأ عاصم في رواية المفضل عنه: {أمهاتُهم} بالرفع وهذا على اللغتين في {ما} لغة الحجاز ولغة تميم، وقرأ ابن مسعود {ما هنّ بأمهاتهم} بزيادة باء الجر، وجعل الله تعالى القول بالظهار {منكرًا} {وزورًا}، فهو محرم، لكنه، إذا وقع لزم، هكذا قال فيه أهل العلم، لكن تحريمه تحريم المكروهات جدًا، وقد رجى الله تعالى بعده بأنه {لعفو غفور} مع الكفارة. اهـ.

.قال القرطبي:

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} فيه مسألتان:
الأولى قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ الله قول التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} التي اشتكت إلى الله هي خَوْلَة بنت ثعلبة.
وقيل بنت حكيم.
وقيل اسمها جميلة.
وخَوْلَة أصح؛ وزوجها أَوْس بن الصَّامِت أخو عُبَادة بن الصامت، وقد مرّ بها عمر بن الخطاب رضي الله عنه في خلافته والناس معه على حمار فاستوقفته طويلًا ووعظته وقالت: يا عمر قد كنت تدعى عُمَيْرًا، ثم قيل لك عمر، ثم قيل لك أمير المؤمنين؛ فاتق الله يا عمر؛ فإنه من أيقن بالموت خاف الفوت، ومن أيقن بالحساب خاف العذاب؛ وهو واقف يسمع كلامها؛ فقيل له: يا أمير المؤمنين أتقف لهذه العجوز هذا الوقوف؟ فقال: والله لو حبستني من أوّل النهار إلى آخره لازلت إلا للصلاة المكتوبة، أتدرون من هذه العجوز؟ هي خَوْلَة بنت ثعلبة سمع الله قولها من فوق سبع سموات، أيسمع ربّ العالمين قولها ولا يسمعه عمر؟ وقالت عائشة رضي الله عنها: تبارك الذي وسِع سمعه كل شيء، إني لأسمع كلام خَوْلَة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وهي تقول: يا رسول الله! أكل شبابي ونثرت له بطني، حتى إذا كبر سني وانقطع ولدي ظاهر مني؛ اللهم إني أشكو إليك! فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية: {قَدْ سَمِعَ الله قول التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} خرجه ابن ماجه في السنن.
والذي في البخاري من هذا عن عائشة قالت: الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات، لقد جاءت المجادِلة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول، فأنزل الله عز وجل: {قَدْ سَمِعَ الله قول التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا}.
وقال الماوردي: هي خَوْلَة بنت ثعلبة.
وقيل: بنت خويلد.
وليس هذا بمختلف؛ لأن أحدهما أبوها والآخر جدّها فنسبت إلى كل واحد منهما.
وزوجها أَوْس بن الصَّامِت أخو عُبَادة بن الصَّامت.
وقال الثعلبي قال ابن عباس: هي خَوْلة بنت خويلد الخزرجية، كانت تحت أَوس بن الصَّامت أخو عُبَادة بن الصامت، وكانت حسنة الجِسم؛ فرآها زوجها ساجدة فنظر عجيزتها فأعجبه أمرها، فلما انصرفت أرادها فأبت فغضب عليها قال عُرْوة: وكان امرأ به لَمَم فأصابه بعض لَمَمِه فقال لها: أنت عليّ كظهر أمي.
وكان الإيلاء والظهار من الطلاق في الجاهلية، فسألت النبيّ صلى الله عليه وسلم فقال لها: «حرِمت عليه» فقالت: والله ما ذكر طلاقًا؛ ثم قالت: أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي ووحشتي وفراق زوجي وابن عمي وقد نفضت له بطني؛ فقال: «حرِمت عليه» فما زالت تراجعه ويراجعها حتى نزلت عليه الآية.
وروى الحسن: «أنها قالت: يا رسول الله قد نسخ الله سنن الجاهلية وإن زوجي ظاهر مني؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما أوحي إليّ في هذا شيء. فقالت: يا رسول الله، أوحي إليك في كل شيء وطُوِي عنك هذا؟! فقال: هو ما قلت لكِ. فقالت: إلى الله أشكو لا إلى رسوله. فأنزل الله: {قَدْ سَمِعَ الله قول التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله} الآية».
وروى الدَّارَقطْنِيّ من حديث قتادة أن أنس بن مالك حدّثه قال: «إن أَوْس بن الصَّامت ظاهر من امرأته خُوَيْلة بنت ثعلبة فشكت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ظاهر حين كبِرت سنّي ورقّ عظمي.
فأنزل الله تعالى آية الظهار، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأوس: اعتق رقبة قال: مالي بذلك يدان.
قال: فصم شهرين متتابعين قال: أما إني إذا أخطأني أن آكل في يوم ثلاث مرات يكِلّ بصري.
قال: فأطعم ستين مسكينًا قال: ما أجد إلا أن تعينني منك بعون وصلة.
قال: فأعانه رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمسة عشر صاعًا حتى جمع الله له والله غفور رحيم»
.
{إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} قال: فكانوا يرون أن عنده مثلها وذلك لستين مسكينًا، وفي الترمذيّ وسنن ابن ماجه: «أن سلمة بن صخر البياضيّ ظاهر من امرأته، وأن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال له: اعتق رقبة. قال: فضربت صفحة عنقي بيدي.
فقلت: لا والذي بعثك بالحق ما أصبحت أملك غيرها.
قال: فصم شهرين. فقلت: يا رسول الله وهل أصابني ما أصابني إلا في الصيام.
قال: فأطعم ستين مسكينًا»
الحديث.
وذكر ابن العربي في أحكامه: روي: أن خولة بنت دليج ظاهر منها زوجها، فأتت النبيّ صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك.
فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: «قد حرمت عليه. فقالت: أشكو إلى الله حاجتي.
ثم عادت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: حرمت عليه. فقالت: إلى الله أشكو حاجتي إليه وعائشة تغسل شق رأسه الأيمن، ثم تحوّلت إلى الشق الآخر وقد نزل عليه الوحي، فذهبت أن تعيد، فقالت عائشة: اسكتي فإنه قد نزل الوحي.
فلما نزل القرآن قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوجها: اعتق رقبة قال: لا أجد.
قال: صم شهرين متتابعين قال: إن لم آكل في اليوم ثلاث مرات خفت أن يعشو بصري.
قال: فأطعم ستين مسكينًا. قال: فأعني. فأعانه بشيء»
.
قال أبو جعفر النحاس: أهل التفسير على أنها خولة وزوجها أَوْس بن الصّامت، واختلفوا في نسبها، قال بعضهم: هي أنصارية وهي بنت ثعلبة، وقال بعضهم: هي بنت دليج، وقيل: هي بنت خُوَيلد، وقال بعضهم: هي بنت الصامت، وقال بعضهم: هي أمَة كانت لعبد الله بن أُبَيّ، وهي التي أنزل الله فيها {وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغاء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} لأنه كان يُكرهها على الزنى.
وقيل: هي بنت حكيم.
قال النحاس: وهذا ليس بمتناقض، يجوز أن تنسب مرةً إلى أبيها، ومرةً إلى أمها، ومرةً إلى جدّها، ويجوز أن تكون أَمة كانت لعبد الله بن أبيّ فقيل لها أنصارية بالولاء؛ لأنه كان في عداد الأنصار وإن كان من المنافقين.
الثانية قرئ: {قَد سَّمِعَ اللَّهُ} بالإدغام و{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ} بالإظهار.
والأصل في السماع إدراك المسموعات، وهو اختيار الشيخ أبي الحسن.
وقال ابن فُورك: الصحيح أنه إدراك المسموع.
وقال الحاكم أبو عبد الله في معنى السميع: إنه المدرك للأصوات التي يدركها المخلوقون بآذانهم من غير أن يكون له أُذن، وذلك راجع إلى أن الأصوات لا تخفى عليه؛ وإن كان غير موصوف بالحِس المركب في الأذن؛ كالأصم من الناس لما لم تكن له هذه الحاسة لم يكن أهلًا لإدراك الصوت.
والسمع والبصر صفتان كالعلم والقدرة والحياة والإرادة، فهما من صفات الذات لم يزل الخالق سبحانه وتعالى متصفًا بهما.
وشكى واشتكى بمعنى واحد.
وقرئ: {تُحَاوِرُكَ} أي تراجعك الكلام و{تُجَادِلُكَ} أي تسائلك.
{الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقول وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2)}
فيه ثلاث وعشرون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {الذين يظاهرون} قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وخلف {يظَّاهُرونَ} بفتح الياء وتشديد الظاء وألف.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو ويعقوب {يَظَّهّرُونَ} بحذف الألف وتشديد الهاء والظاء وفتح الياء.
وقرأ أبو العالية وعاصم وزِرّ بن حُبَيش {يُظاهِرُونَ} بضم الياء وتخفيف الظاء وألف وكسر الهاء.
وقد تقدّم هذا في {الأحزاب}.
وفي قراءة أبَي {يَتَظَاهَرُونَ} وهي معنى قراءة ابن عامر وحمزة. وذِكر الظهر كناية عن معنى الركوب، والآدمية إنما يركب بطنها ولكن كنّي عنه بالظهر؛ لأن ما يركب من غير الآدميات فإنما يركب ظهره، فكنّي بالظهر عن الركوب.
ويقال: نزل عن امرأته أي طلقها كأنه نزل عن مركوب.
ومعنى أنت عليّ كظهر أمّي: أي أنت عليّ محرّمة لا يحلّ لي ركوبك.
الثانية: حقيقة الظهار تشبيه ظهر بظهر، والموجب للحكم منه تشبيه ظهرٍ محلل بظهرٍ محرّم؛ ولهذا أجمع الفقهاء على أن من قال لزوجته: أنت عليّ كظهر أمي أنه مظاهر.
وأكثرهم على أنه إن قال لها: أنت عليّ كظهر ابنتي أو أختي أو غير ذلك من ذوات المحارم أنه مظاهر. وهو مذهب مالك وأبي حنيفة وغيرهما.
واختلف فيه عن الشافعي رضي الله عنه؛ فروي عنه نحو قول مالك؛ لأنه شبّه امرأته بظهر محرّم عليه مؤبَّد كالأم.
وروى عنه أبو ثور: أن الظهار لا يكون إلا بالأم وحدها.
وهو مذهب قتادة والشعبي، والأوّل قول الحسن والنخعي والزهري والأوزاعي والثوري.
الثالثة: أصل الظهار أن يقول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي، وإنما ذكر الله الظهر كناية عن البطن وسترًا.
فإن قال: أنت عليّ كأمي ولم يذكر الظهر، أو قال: أنت عليّ مثل أمي؛ فإن أراد الظهار فله نيته، وإن أراد الطلاق كان مطلقًا الْبَتَّة عند مالك، وإن لم تكن له نية في طلاق ولا ظهار كان مظاهرًا.
ولا ينصرف صريح الظهار بالنية إلى الطلاق؛ كما لا ينصرف صريح الطلاق وكنايته المعروفة له إلى الظهار، وكناية الظهار خاصة تنصرف بالنية إلى الطلاق الْبَتّ.
الرابعة: ألفاظ الظهار ضربان: صريح وكناية؛ فالصريح أنت عليّ كظهر أمي، وأنت عندي وأنتِ مني وأنتِ معي كظهر أمي.
وكذلك أنت عليّ كبطن أمي أو كرأسها أو فرجها أو نحوه، وكذلك فرجك أو رأسك أو ظهرك أو بطنك أو رجلك عليّ كظهر أمي فهو مظاهر؛ مثل قوله: يدك أو رجلك أو رأسك أو فرجك طالق تطلق عليه.
وقال الشافعي في أحد قوليه: لا يكون ظهارًا.
وهذا ضعيف منه؛ لأنه قد وافقنا على أنه يصح إضافة الطلاق إليه خاصة حقيقة خلافًا لأبي حنيفة فصح إضافة الظهار إليه.
ومتى شبهها بأمه أو بإحدى جداته من قبل أبيه أو أمه فهو ظهار بلا خلاف.
وإن شبهها بغيرهن من ذوات المحارم التي لا تحل له بحال كالبنت والأخت والعمة والخالة كان مظاهرًا عند أكثر الفقهاء، وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه على الصحيح من المذهب على ما ذكرنا.
والكناية أن يقول: أنت عليّ كأمي أو مثل أمي فإنه يعتبر فيه النية.