فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



بإظهار الدار، وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي وابن محيصن بإدغامها في السين، قال خلف بن هشام البزار: سمعت الكسائي يقول: من قرأ {قد سمع} فبين الدال فلسانه أعجمي ليس بعربي، ولا يلتفت إلى هذا فكلا الأمرين فصيح متواتر بل الجمهور على البيان {قول التي تُجَادِلُكَ في زَوْجِهَا} أي تراجعك الكلام في شأنه وفيما صدر عنه في حقها من الظهار، وقرء تحاورك والمعنى على ما تقدم وتحاولك أي تسائلك {وَتَشْتَكِى إِلَى الله} عطف على {تُجَادِلُكَ} فلا محل للجملة من الإعراب، وجوز كونها حالًا أي تجادلك شاكية حالها إلى الله تعالى، وفيه بعد معنى، ومع هذا يقدر معها مبتدأ أي وهي تشتكي لأن المضارعية لا تقترن بالواو في الفصيح فيقدر معها المبتدأ لتكون اسمية، واشتكاؤها إليه تعالى إظهار بثها وما انطوت عليه من الغم والهم وتضرعها إليه عز وجل وهو من الشكو، وأصله فتح الشكوة وإظهار ما فيها، وهي سقاء صغير يجعل فيه الماء ثم شاع في ذلك، وهي امرأة صحابية من الأنصار اختلف في اسمها واسم أبيها، فقيل: خولة بنت ثعلبة بن مالك، وقيل: بنت خويلد، وقيل: بنت حكيم، وقيل: بنت الصامت، وقيل: خويلة بالتصغير بنت ثعلبة، وقيل: بنت مالك بن ثعلبة، وقيل: جميلة بنت الصامت، وقيل: غير ذلك، والأكثرون على أنها خولة بنت ثعلبة بن مالك الخزرجية، وأكثر الرواة على أن الزوج في هذه النازلة أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وقيل: هو سلمة بن صخر الأنصاري، والحق أن لهذا قصة أخرى، والآية نزلت في خولة وزوجها أوس، وذلك أن زوجها أوسًا كان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه فدخل عليها يومًا فراجعته بشيء فغضب، فقال: أنت علي كظهر أمي، وكان الرجل في الجاهلية إذا قال ذلك لامرأته حرمت عليه وكان هذا أول ظهار في الإسلام فندم من ساعته فدعاها فأبت، وقالت: والذي نفس خولة بيده لا تصل إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله صلى الله عليه وسلم فينا، فأتت رسول الله عليه الصلاة والسلام فقالت: يا رسول الله إن أوسًا تزوجني وأنا شابة مرغوب في فلما خلا سني ونثرت بطني أي كثر ولدي جعلني عليه كأمه وتركني إلى غير أحد فإن كنت تجد لي رخصة يا رسول الله تنعشني بها وإياه فحدثني بها؟ فقال عليه الصلاة والسلام: «والله ما أمرت في شأنك بشيء حتى الآن» وفي رواية: «مَا أَرَاكِ إِلا قَدْ حرمت عَلَيْهِ».
قالت: ما ذكر طلاقًا، وجادلت رسول الله عليه الصلاة والسلام مرارًا ثم قالت: اللهم إني أشكو إليه شدة وحدتي وما يشق علي من فراقه، وفي رواية قالت: أشكو إلى الله تعالى فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارًا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا، وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول: اللهم إني أشكو إليك اللهم فأنزل علي لسان نبيك وما برحت حتى نزل القرآن فيها، فقال صلى الله عليه وسلم: «يا خولة أبشري قالت: خيرًا؟ فقرأ عليه الصلاة والسلام عليها {قَدْ سَمِعَ الله} الآيات» وكان عمر رضي الله تعالى عنه يكرمها إذا دخلت عليه ويقول: قد سمع الله تعالى لها.
وروى ابن أبي حاتم والبيهقي في الأسماء والصفات أنها لقيته رضي الله تعالى عنه وهو يسير مع الناس فاستوقفته فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها ووضع يده على منكبيها حتى قضت حاجتها وانصرفت، فقال له رجل: يا أمير المؤمنين حبست رجال قريش على هذه العجوز قال: ويحك أتدري من هذه؟ قال: لا قال: هذه امرأة سمع الله تعالى شكواها من فوق سبع سموات هذه خولة بنت ثعلبة، والله لو لم تنصرف حتى أتى الليل ما انصرفت حتى تقضي حاجتها، وفي رواية للبخاري في (تاريخه) أنها قالت له: قف يا عمر فوقف فأغلظت له القول، فقال رجل: يا أمير المؤمنين ما رأيت كاليوم فقال رضي الله تعالى عنه: وما يمنعني أن أستمع إليها وهي التي استمع الله تعالى لها فأنزل فيها ما أنزل {قَدْ سَمِعَ الله} الآيات، والسماع مجاز عن القبول والإجابة بعلاقة السببية أو كناية عن ذلك، و{قَدْ} للتحقيق أو للتوقع، وهو مصروف إلى تفريج الكرب لا إلى السمع لأنه محقق أو إلى السمع لأنه مجاز أو كناية عن القبول، والمراد توقع المخاطب ذلك، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتوقع أن ينزل الله تعالى حكم الحادثة ويفرج عن المجادلة كربها، وفي الأخبار ما يشعر بذلك، والسمع في قوله تعالى: {والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُما} على ما هو المعروف فيه من كونه صفة يدرك بها الأصوات غير صفة العلم، أو كونه راجعًا إلى صفة العلم، والتحاور المرادّة في الكلام، وجوز أن يراد به الكلام المردد، ويقال: كلمته فما رجع إلى حوارًا.
وحويرًا.
ومحورة أي مارد على بشيء، وصيغة المضارع للدلالة على استمرار السمع حسب استمرار التحاور وتجدده، وفي نظمها في سلك الخطاب تغليبًا تشريف لها من جهتين، والجملة استئناف جار مجرى التعليل لما قبله فإن إلحافها في المسألة ومبالغتها في التضرع إلى الله تعالى ومدافعته عليه الصلاة والسلام إياها وعلمه عز وجل بحالهما من دواعي الإجابة، وقيل: هي حال كالجملة السابقة، وفيه أيضًا بعد، وقوله تعالى: {إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ} تعليل لما قبله بطريق التحقيق أي أنه تعالى يسمع كل المسموعات ويبصر كل المبصرات على أتم وجه وأكمله ومن قضية ذلك أن يسمع سبحانه {تحاورهما}، ويرى ما يقارنه من الهيئات التي من جملتها رفع رأسها إلى السماء وسائر آثار التضرع، والاسم الجليل في الموضعين لتربية المهابة وتعليل الحكم بما اشتهر به الاسم الجليل من وصف الألوهية وتأكيد استقلال الجملتين، وقوله عز وجل: {الذين يظاهرون مِنكُمْ مّن نّسَائِهِمْ} شروع في بيان شأن الظهار في نفسه وحكمته المترتب عليه شرعًا، وفي ذلك تحقيق قبول تضرع تلك المرأة وإشكاؤها بطريق الاستئناف.
والظهار لغة مصدر ظاهر وهو مفاعلة من الظهر، ويراد به معان مختلفة راجعة إلى الظهر معنى ولفظًا باختلاف الأغراض، فيقال: ظاهر زيد عمرًا أي قابل ظهره بظهره حقيقة وكذا إذا غايظه، وإن لم يقابل حقيقة باعتبار أن المغايظة تقتضي هذه المقابلة، وظاهره إذا نصره باعتبار أنه يقال: قوى ظهره إذا نصره، وظاهر بين ثوبين إذا لبس أحدهما فوق الآخر باعتبار جعل ما يلي به كل منهما الآخر ظهرًا للثوب: وظاهر من امرأته إذا قال لها: أنت علي كظهر أمي، وغاية ما يلزم كون لفظ الظهر في بعض هذه التراكيب مجازًا، وهو لا يمنع الاشتقاق منه ويكون المشتق مجازًا أيضًا، وهذا الأخير هو المعنى الذي نزلت فيه الآيات.
وعرفه الحنفية شرعًا بأنه تشبيه المنكوحة أو عضوًا منها يعبر به عن الكل كالرأس أو جزء شائع منها كالثلث بقريب محرم عليه على التأييد أو بعضو منه يحرم عليه النظر إليه.
وحكى عن الشافعية أن تشبيهها أو عضو منها بمحرم من نسب أو رضاع أو مصاهرة أو عضو منه لا يذكر للكرامة كاليد والصدر، وكذا العضو الذي يذكر لها كالعين والرأس إن قصد معنى الظهار، وهو التشبيه بتحريم نحو الأم لا أن قصد الكرامة أو أطلق في الأصح، وتخصيص المحرم بالأم قول قديم للشافعي عليه الرحمة، وتفصيل ذلك في كتب الفقه للفريقين، وكان الظهار بالمعنى السابق طلاقًا في الجاهلية قيل: وأول الإسلام.
وحكى بعضهم أنه كان طلاقًا يوجب حرمة مؤبدة لا رجعة فيه، وقيل؛ لم يكن طلاقًا من كل وجه بل لتبقى معلقة لا ذات زوج ولا خلية تنكح غيره، وذكر بعض الأجلة أنهم كانوا يعدونه طلاقًا مؤكدًا باليمين على الاجتناب، ولذا قال الشافعية: إن فيه الشائبتين، وسيأتي إن شاء الله تعالى الإشارة إلى حكمه الشرعي، وعدي بمن مع أنه يتعدى بنفسه لتضمنه معنى التبعيد ولما سمعت أنه كان طلاقًا وهو مبعد، والظهر في قولهم: أنت علي كظهر أمي قيل: مجاز عن البطن لأنه إنما يركب البطن فكظهر أمي أي كبطنها بعلاقة المجاورة، ولأنه عموده لكن لا يظهر ما هو الصارف عن الحقيقة من النكات، وقيل: خص الظهر لأنه محل الركوب والمرأة مركوب الزوج، ومن سمى المركوب ظهرًا، وقيل: خص ذلك لأن إتيان المرأة من ظهرها في قبلها كان حرامًا فإتيانه أمه من ظهرها أحرم فكثر التغليظ، وإقحام {مّنكُمْ} في الآية للتصوير والتهجين لأن الظهار كان مخصوصًا بالعرب، ومنه يعلم أنه ليس من مفهوم الصفة ليستدل به على عدم صحة ظهار الذمي كما حكى عن المالكية، ومن هنا قال الشافعية: يصح من الذمي والحربي لعموم الآية، وكذا الحنابلة.
والحنفية يقولون: لا يصح منهما، وفي رواية عن أبي حنيفة صحته من الذمي، والرواية المعمول عليها عدم الصحة لأنها ليس من أهل الكفارة، وشنع على الشافعية في قولهم بصحته منه مع اشتراطهم النية في الكفارة والأيمان في الرقبة، وتعذر ملكه لها لأن الكافر لا يملك المؤمن، وقال بعض أجلتهم إن في الكفارة شائبة الغرامات ونيتها في كافر كفر بالإعتاق للتمييز كما في قضاء الديون لا الصوم لأنه لا يصح منه لأن عبادة بدنية ولا ينتقل عنه للإطعام لقدرته عليه بالإسلام فإن عجز انتقل ونوى للتمييز أيضًا، ويتصور ملكه للمسلم بنحو إرث أو إسلام قنه، أو يقول: لمسلم أعتق قنك عن كفارتي، فيجيب فإن لم يمكنه شيء من ذلك وهو مظاهر موسى منع من الوطء لقدرته على ملكه بأن يسلم فيشتريه انتهى.
وفي كتب بعض الأصحاب كالبحر وغيره كلام مع الشافعية في هذه المسألة فيه نقض وإبرام لا يخلو عن شيء والسبب في ذلك قلة تتبع معتبرات كتبهم.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو {يظهرون} بشد الظاء والهاء.
والأخوان وابن عامر {يظاهرون} مضارع أظاهر.
وأبي {يتظاهرون} مضارع تظاهر، وعنه أيضًا {يتظهرون} مضارع تظهر.
والموصول مبتدأ خبره محذوف أي مخطئون، وأقيم دليله وهو قوله تعالى؛ {مَّا هُنَّ أمهاتهم} مقامه أو هو الخبر نفسه أي ما نشاؤهم أمهاتهم على الحقيقة فهو كذب بحت.
وقرأ المفضل عن عاصم {أمهاتهم} بالرفع على لغة تميم.
وقرأ ابن مسعود {بأمهاتهم} بزيادة الباء.
قال الزمخشري: في لغة من ينصب أي بما الخبر وهم الحجازيون يعني أنهم الذي يزيدون الباء دون التميميين وقد تبع في ذلك أبا علي الفارسي، ورد بأنه سمع خلافه كقول الفرزدق وهو تميمي: لعمرك ما معن بتارك حقه ** ولا منسيء معن ولا متيسر

{إِنْ أمهاتهم} أي ما أمهاتهم على الحقيقة {إِلا اللائي وَلَدْنَهُمْ} فلا يشبه بهن في الحرمة إلا من ألحقها الله تعالى بهن كالمرضعات ومنكوحات الرسول صلى الله عليه وسلم فدخلن في حكم الأمهات، وأما الزوجات فأبعد شيء من الأمومة {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنكَرًا مّنَ القول} ينكره الشرع والعقل والطبع أيضًا كما يشعر به التنكير، ومناط التأكيد كونه منكرًا، وإلا فصدور القول عنهم أمر محقق {وَزُورًا} أي وكذبًا باطلًا منحرفًا عن الحق، ووجه كون الظهار كذلك عند من جعله إخبارًا كاذبًا علق عليه الشارع الحرمة والكفارة ظاهر، وأما عند من جعله إنشاء لتحريم الاستمتاع في الشرع كالطلاق على ما هو الظاهر فوجهه أن ذلك باعتبار ما تضمنه من إلحاق الزوجة بالأم المنافي لمقتضى الزوجية {وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} أي مبالغ في العفو والمغفرة فيغفر ما سلف منه ويعفو عمن ارتكبه مطلقًا أو بالتوبة، ويعلم من الآيات أن الظهار حرام بل قالوا: إنه كبيرة لأن فيه إقدامًا على إحالة حكم الله تعالى وتبديله بدون إذنه، وهذا أخطر من كثير من الكبائر إذ قضيته الكفر لولا خلو الاعتقاد عن ذلك، واحتمال التشبيه لذلك وغيره، ومن ثم سماه عز وجل {مُنكَرًا مّنَ القول وَزُورًا}، وإنما كره على ما ذكره بعض الشافعية أنت علي حرام لأن الزوجية ومطلق الحرمة يجتمعان بخلافها مع التحريم المشابه لتحريم نحو الأم، ومن ثم وجب هنا الكفارة العظمى.
وثم على ما قالوا: كفارة يمين. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قول الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ}
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها تنويهًا بالمرأة التي وجَّهت شَكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصّر في طلب العدل في حقها وحق بَنِيها.
ولم ترضَ بعُنجهية زوجها وابتداره إلى ما ينثر عقد عائلته دون تبصّر ولا روية، وتعليمًا لنساء الأمة الإِسلامية ورجالها واجب الذود عن مصالحها.
تلك هي قضية المرأة خولة أو خُويلة مصغرًا أو جميلة بنت مالك بن ثعلبة أو بنت دُلَيْج (مصغرًا) العَوْفية.