فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والصور عديدة وليست الإِحاطة بها مفيدة، وذلك من مجال الفتوى وليس من مهيع التفسير.
وجملة {ما هن أمهاتهم} خبر عن {الذين}، أي ليس أزواجهم أمهات لهم بقول أحدهم: أنت عليّ كظهر أمّي، أي لا تصير الزوج بذلك أمًّا لقائل تلك المقالة.
وهذا تمهيد لإِبطال أثر صيغة الظهار في تحريم الزوجة، بما يشير إلى أن الأمومةَ حقيقةٌ ثابتة لا تُصنع بالقول إذ القول لا يبدل حقائق الأشياء، كما قال تعالى في سورة [الأحزاب: 4]: {ذلكم قولكم بأفواهكم ولذلك أعقب هنا بقوله إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم} أي فليست الزوجاتُ المظاهَرُ منهن بصائرات أمهات بذلك الظهار لانعدام حقيقة الأمومة منهن إذ هن لم يلدن القائلين: أنتِ عليّ كظهر أمي، فلا يحرمْن عليهم، فالقصر في الآية حقيقي، أي فالتحريم بالظهار أمر باطل لا يقتضيه سبب يؤثِّر إيجاده.
وجملة {إن أمهاتهم} إلخ واقعة موقع التعليل لجملة {ما هن أمهاتهم}، وهو تعليل للمقصود من هذا الكلام.
أعني إبطال التحريم بلفظ الظهار، إذ كونهن غير أمهاتهم ضروري لا يحتاج إلى التعليل.
وزيد صنيعهم ذَمًّا بقوله: {وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا} توبيخًا لهم على صنيعهم، أي هو مع كونه لا يوجب تحريم المرأة هو قول منكر، أي قبيح لما فيه من تعريض حُرمة الأم لتخيُّلات شنيعة تخطر بمخيلة السامع عند ما يسمع قول المظاهر: أنتِ عليّ كظهر أمّي.
وهي حالة يستلزمها ذكر الظهر في قوله: (كظهر أمي).
وأحسب أن الفكر الذي أملى صيغة الظهار على أوّل من نطقَ بها كان مليئًا بالغضب الذي يبعث على بذيء الكلام مثل قولهم: امصُصْ بَظْر أمك في المشاتمة، وهو أيضًا قول زور لأنه كذب إذ لم يحرمها الله.
وقد قال تعالى في سورة [الأحزاب: 4]: {وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم}
وتأكيد الخبر بإنّ واللامِ، للاهتمام بإيقاظ الناس لشناعته إذ كانوا قد اعتادوه فنُزلوا منزلة من يتردد في كونه منكرًا أو زورًا، وفي هذا دلالة على أن الظهار لم يكن مشروعًا في شَرع قديم ولا في شريعة الإِسلام، وأنه شيء وضعَه أهل الجاهلية كما نبه عليه عَدُّه مع تكاذيب الجاهلية في قوله تعالى: {ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظّهّرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم} وقد تقدم في سورة [الأحزاب: 4].
وبعد هذا التوبيخ عَطف عليه جملة {وإن الله لعفو} كناية عن عدم مواخذتهم بما صدر منهم من الظهار قبل هذه الآية، إذ كان عذرهم أن ذلك قول تابعوا فيه أسلافهم وجرَى على ألسنتهم دون تفكر في مدلولاته.
وأما بعد نزول هذه الآية فمذهب المالكية: أن حكم إيقاعه الحُرمة كما صرح به ابن راشد القفصي في (اللُّباب) لقوله بعده: {وتلك حدود الله} [المجادلة: 4] أن إيقاع الظهار معصية، ولكونه معصية فسّر ابن عطية قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا}.
وبذلك أيضًا فسّر القرطبي قوله تعالى: {وتلك حدود الله}.
وقال ابن الفرس: هو حرام لا يحلّ إيقاعه.
ودَل على تحريمه ثلاثة أشياء:
أحدها: تكذيب الله تعالى من فعل ذلك.
الثاني: أنه سمّاه منكرًا وزورًا، والزور الكذب وهو محرّم بإجماع.
الثالث: إخباره تعالى عنه بأنه يعفو عنه ويغفر ولا يُعْ في ويُغفر إلاّ على المذنبين.
وأقوال فقهاء الحنفية تدل على أن الظهار معصية ولم يصفه أحد من المالكية ولا الحنفية بأنه كبيرة.
ولا حجة في وصفه في الآية بزور، لأن الكذب لا يكون كبيرة إلا إذا أفضى إلى مضرة.
وعَدّ السبْكي في (جمع الجوامع) الظهارَ من جملة الكبائر وسلمه المحلي.
والكاتبون قالوا: لأن الله سماه زورًا والزور كبيرة فكون الظهار كبيرة قول الشافعية، وفيه نظر فإنهم لم يَعدوا الكذب على الإِطلاق كبيرة.
وإنما عدوا شهادة الزور كبيرة.
وأعقب {لعفو} بقوله: {غفور} فقوله: {وإن الله لعفو غفور} في معنى: أن الله عفا عنهم وغفر لهم لأنه عفوّ غفور، يغفر هذا وما هو أشد.
والعفو: الكثير العفو، والعفو عدم المؤاخذة بالفعل أي عفو عن قولهم: الذي هو منكر وزور.
والغفور: الكثير الغفران، والغفران الصفح عن فاعل فعل من شأنه أن يعاقبه عليه، فذكر وصف {غفور} بعد وصف (عفوّ) تتميم لتمجيد الله إذ لا ذنب في المظاهرة حيث لم يسبق فيها نهي، ومع ما فيه من مقابلة شيئين وهما {منكرًا} و{زورًا}، بشيْئين هما (عفوّ غفور).
وتأكيد الخبر في قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} لمشاكلة تأكيد مقابله في قوله: {وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا}.
وقوله: {وإن الله لعفو غفور} يدل على أن المظاهرة بعد نزول هذه الآية منهي عنها وسنذكر ذلك.
وقد أَومَأ قوله تعالى: {وإن الله لعفو غفور} إلى أن مراد الله من هذا الحكم التوسعة على الناس، فعلمنا أن مقصد الشريعة الإِسلامية أن تدور أحكام الظهار على محور التخفيف والتوسعة، فعلى هذا الاعتبار يجب أن يجري الفقهاء فيما يفتون.
ولذلك لا ينبغي أن تلاحظ فيه قاعدة الأخذ بالأحوط ولا قاعدة سدّ الذريعة، بل يجب أن نسير وراء ما أضاء لنا قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا وإن الله لعفو غفور}.
وقد قال مالك في (المدونة): لا يقبّل المظاهر ولا يباشر ولا ينظر إلى صدر ولا إلى شعَر.
قال الباجي في (المنتقى): فمن أصحابنا من حمل ذلك على التحريم، ومنهم من حمله على الكراهة لئلا يدعوه إلى الجماع.
وبه قال الشافعي وعبد الملك.
قلت: وهذا هو الوجه لأن القرآن ذكر المسيس وهو حقيقة شرعية في الجماع.
وقال مالك: لو تظاهر من أربع نسوة بلفظ واحد في مجلس واحد لم تجب عليه إلا كفارة واحدة عند مالك قولا واحدًا.
وعند أبي حنيفة والشافعي في أحد قوليهما.
والمقصود من هذه الآية إبطال تحريم المرآة التي يظاهر منها زوجها.
وتحميق أهل الجاهلية الذين جعلوا الظهار محرّمًا على المظاهر زوجَه التي ظاهر منها.
وجعل الله الكفارة فدية لذلك وزجرًا ليكفّ الناس عن هذا القول.
ومن هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من قال لصاحبه: تعالى أَقامرْك فليتصدقْ» أي من جَرى ذلك على لسانه بعد أن حرم الله الميسر. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

قال ابن القيم:
قوله تعالى: {الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم}
فإن قيل فما تقولون في قول المظاهر أنت علي كظهر أمي هل هو إنشاء لا يقبل التصديق والتكذيب والله سبحانه قد كذبهم هنا في ثلاثة مواضع:
أحدها: في قوله: {ما هن أمهاتهم} المجادلة فن في ما أثبتوه وهذا حقيقة التكذيب ومن طلق امرأته لا يحسن أن يقال ما هي مطلقة.
والثاني: قوله تعالى: {وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا} المجادلة 2 والإنشاء لا يكون منكرا وإنما يكون المنكر هو الخبر والثالث أنه سماه زورا والزور هو الكذب وإذا كذبهم الله دل على أن الظهار إخبار لا إنشاء.
الثالث: أن الظهار محرم وليست جهة تحريمه إلا كونه كذبا والدليل على تحريمه خمسة أشياء:
الأول ما وصفه بالمنكر والثاني وصفه بالزور.
والثالث أنه شرع فيه الكفارة ولو كان مباحا لم يكن فيه كفارة.
والرابع أن الله قال: {ذلكم توعظون به} المجادلة 3 والوعظ إنما يكون في غير المباحات.
والخامس قوله: {وإن الله لعفو غفور} المجادلة 2 والعفو والمغفرة إنما يكونان عن الذنب وإن قلتم هو إخبار هو باطل من وجوه.
أحدها أن الظهار كان طلاقا في الجاهلية فجعله الله في الإسلام تحريما تزيله الكفارة وهذا متفق عليه بين أهل العلم ولو كان خبرا لم يوجب التحريم فإنه إن كان صدقا فظاهر وإن كان كذبا فأبعد له من أن يترتب عليه التحريم.
والثاني أنه لفظ يوجب حكمه الشرعي بنفسه وهو التحريم وهذا حقيقة الإنشاء بخلاف الخبر فإنه لا يوجب حكمه بنفسه فسلب كونه إنشاء مع ثبوت حقيقة الإنشاء فيه جمع بين النقيضين.
وثالثها أن إفادة قوله أنت علي كظهر أمي للتحريم كإفادة قوله أنت حرة وأنت طالق وبعتك ووهبتك وتزوجتك ونحوها لأحكامها فكيف يقولون هذه إنشاءات دون الظهار وما الفرق.
أما الفقهاء فيقولون الظهار إنشاء ونازعهم بعض المتأخرين في ذلك وقال الصواب إنه إخبار وأجاب عما احتجوا به من كونه إنشاء.
قال أما قولهم كان طلاقا في الجاهلية فهذا لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق بل يقتضي أنهم كانوا يزيلون العصمة عند النطق به فجاز أن يكون زوالها لكونه إنشاء كما زعمتم أو لكونه كذبا وجرت عادتهم أن من أخبر بهذا الكذب زالت عصمة نكاحه وهذا كما التزموا تحريم الناقة إذا جاءت بعشرة من الولد ونحو ذلك.
قال وأما قولكم إنه يوجب التحريم المؤقت وهذا حقيقة الإنشاء لا الإخبار فلا نسلم أن ثم تحريما ألبتة والذي دل عليه القرآن وجوب تقديم الكفارة على الوطء كتقديم الطهارة على الصلاة فإذا قال الشارع لا تصل حتى تتطهر لا يدل ذلك على تحريم الصلاة عليه بل ذلك نوع ترتيب سلمنا أن الظهار ترتب عليه تحريم لكن التحريم عقب الشيء قد يكون لاقتضاء اللفظ له ودلالته عليه وهذا هو الإنشاء وقد يكون عقوبة محضة كترتيب حرمان الإرث على القتل وليس القتل إنشاء للتحريم.
وكترتب التعزير على الكذب وإسقاط العدالة به فهذا ترتيب بالوضع الشرعي لا بدلالة اللفظ.
وحقيقة الإنشاء أن يكون ذلك وضع لذلك الحكم ويدل عليه كصيغ العقود فسببية القول أعم من كونه سببا بالإنشاء أو بغيره فكل إنشاء سبب وليس كل سبب إنشاء فالسببية أعم فلا يستدل بمطلقها على الإنشاء فإن الأعم لا يستلزم الأخص فظهر الفرق بين ترتب التحريم على الطلاق وترتبه على الظهار.
قال وأما قولكم إنه كالتكلم بالطلاق والعتاق والبيع ونحوها فقياس في الأسباب فلا نقبله ولو سلمناه فنص القرآن يدفعه وهذه الإعتراضات عليهم باطلة.
أما قوله إن كونه طلاقا في الجاهلية لا يقتضي أنهم كانوا يثبتون به الطلاق إلى آخره فكلام باطل قطعا فإنهم لم يكونوا يقصدون الإخبار الكذب ليترتب عليه التحريم بل كانوا إذا أرادوا الطلاق أتوا بلفظ الظهار إرادة للطلاق ولم يكونوا عند أنفسهم كاذبين ولا مخبرين وإنما كانوا منشئين للطلاق به ولهذا كان هذا ثابتا في أول الإسلام حتى نسخه الله بالكفارة في قصة خولة بنت ثعلبة كانت تحت عبادة بن الصامت حسن فقال لها أنت علي كظهر أمي فأتت رسول الله فسألته عن ذلك فقال رسول الله «حرمت عليه» فقالت يا رسول الله والذي أنزل عليك الكتاب ما ذكر الطلاق وإنه أبو ولدي وأحب الناس إلي فقال: «حرمت عليه» فقالت أشكو إلى الله فاقتي ووحدتي فقال رسول الله «ما أراك إلا قد حرمت عليه ولم أومر في شأنك بشيء» فجعلت تراجع رسول الله وإذا قال لها «حرمت عليه هتفت» وقالت أشكو إلى الله فاقتي وشدة حالي وإن لي صبية صغارا إن ضممتهم إليه ضاعوا وإن ضممتهم إلي جاعوا وجعلت ترفع رأسها إلى السماء وتقول اللهم إني أشكوا إليك. وكان هذا أول ظهار في الإسلام فنزل الوحي على رسول الله فلما قضى الوحي قال: «ادعي زوجك» فتلا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سمع الله الآيات فهذا يدل على أن الظهار كان إنشاء للتحريم الحاصل بالطلاق في أول الإسلام ثم نسخ ذلك بالكفارة وبهذا يبطل ما نظر به من تحريم الناقة عند ولادتها عشرة أبطن ونحوه فإنه ليس هناك لفظ إنشاء يقتضي التحريم بل هو شرع منهم لهذا التحريم عند هذا السبب.