فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



المسألة الثامنة:
لو اشترى قريبه الذي يعتق عليه بنية الكفارة عتق عليه، لكنه لا يقع عن الكفارة عند الشافعي، وعند أبي حنيفة يقع، حجة أبي حنيفة التمسك بظاهر الآية، وحجة الشافعي ما تقدم.
المسألة التاسعة:
قال أبو حنيفة: الإطعام في الكفارات يتأدى بالتمكين من الطعام، وعند الشافعي لا يتأدى إلا بالتمليك من الفقير، حجة أبي حنيفة ظاهر القرآن وهو أن الواجب هو الإطعام، وحقيقة الإطعام هو التمكين، بدليل قول تعالى: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وذلك يتأدى بالتمكين والتمليك، فكذا هاهنا، وحجة الشافعي القياس عن الزكاة وصدقة الفطر.
المسألة العاشرة:
قال الشافعي: لكل مسكين مد من طعام بلده الذي يقتات منه حنطة أو شعيرًا أو أرزًا أو تمرًا أو أقطًا، وذلك بمد النبي صلى الله عليه وسلم ولا يعتبر مد حدث بعده، وقال أبو حنيفة: يعطى كل مسكين نصف صاع من بر أو دقيق أو سويق أو صاعًا من تمر أو صاعًا من شعير ولا يجزئه دون ذلك، حجة الشافعي أن ظاهر الآية يقتضي الإطعام، ومراتب الإطعام مختلفة بالكمية والكيفية، فليس حمل اللفظ على البعض أولى من حمله على الباقي، فلابد من حمله على أقل ما لابد منه ظاهرًا، وذلك هو المد، حجة أبي حنيفة ما روي في حديث أوس بن الصامت: «لكل مسكين نصف صاع من بر» وعن علي وعائشة قالا: لكل مسكين مدان من بر، ولأن المعتبر حاجة اليوم لكل مسكين، فيكون نظير صدقة الفطر، ولا يتأدى ذلك بالمد، بل بما قلنا، فكذلك هنا.
المسألة الحادية عشرة:
لو أطعم مسكينًا واحدًا ستين مرة لا يجزئ عند الشافعي، وعند أبي حنيفة يجزئ، حجة الشافعي ظاهر الآية، وهو أنه أوجب إطعام ستين مسكينًا، فوجب رعاية ظاهر الآية، وحجة أبي حنيفة أن المقصود دفع الحاجة وهو حاصل، وللشافعي أن يقول: التحكمات غالبة على هذه التقديرات، فوجب الامتناع فيها من القياس، وأيضًا فلعل إدخال السرور في قلب ستين إنسانًا، أقرب إلى رضا الله تعالى من إدخال السرور في قلب الإنسان الواحد.
المسألة الثانية عشرة:
قال أصحاب الشافعي: إنه تعالى قال في الرقبة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ} وقال في الصوم: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا} فذكر في الأول: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} وفي الثاني: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} فقالوا: من ماله غائب لم ينتقل إلى الصوم بسبب عجزه عن الإعتاق في الحال أما من كان مريضًا في الحال، فإنه ينتقل إلى الإطعام وإن كان مرضه بحيث يرجى زواله، قالوا: والفرق أنه قال في الانتقال إلى الإطعام: {فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ} وهو بسبب المرض الناجز، والعجز العاجل غير مستطيع، وقال في الرقبة: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} والمراد فمن لم يجد رقبة أو مالًا يشتري به رقبة، ومن ماله غائب لا يسمى فاقدًا للمال، وأيضًا يمكن أن يقال في الفرق إحضار المال يتعلق باختياره وأما إزالة المرض فليس باختياره.
المسألة الثالثة عشرة:
قال بعض أصحابنا: الشبق المفرط والغلمة الهائجة، عذر في الانتقال إلى الإطعام، والدليل عليه أنه عليه السلام لما أمر الأعرابي بالصوم قال له: وهل أتيت إلا من قبل الصوم فقال عليه السلام «أطعم» دل الحديث على أن الشبق الشديد عذر في الانتقال من الصوم إلى الإطعام، وأيضًا الاستطاعة فوق الوسع، والوسع فوق الطاقة، فالاستطاعة هو أن يتمكن الإنسان من الفعل على سبيل السهولة، ومعلوم أن هذا المعنى لا يتم مع شدة الشبق، فهذه جملة مختصرة مما يتعلق بفقه القرآن في هذه الآية، والله أعلم.
قوله تعالى: {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} قال الزجاج: {ذلكم} للتغليظ في الكفارة {تُوعَظُونَ بِهِ} أي أن غلظ الكفارة وعظ لكم حتى تتركوا الظهار ولا تعاودوه، وقال غيره {ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ} أي تؤمرون به من الكفارة {والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} من التكفير وتركه.
{فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)}
ثم ذكر تعالى حكم العاجز عن الرقبة فقال: {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتّينَ مِسْكِينًا} فدلت الآية على أن التتابع شرط، وذكر في تحرير الرقبة والصوم أنه لابد وأن يوجدا من قبل أن يتماسا، ثم ذكر تعالى أن من لم يستطع ذلك فإطعام ستين مسكينًا، ولم يذكر أنه لابد من وقوعه قبل المماسة، إلا أنه كالأولين بدلالة الإجماع، والمسائل الفقهية المفرعة على هذه الآية كثيرة مذكورة في كتاب الفقه.
ثم قال تعالى: {ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ الله وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ} وفي قوله: {ذلك} وجهان الأول: قال الزجاج: إنه في محل الرفع، والمعنى الفرض ذلك الذي وضعناه، الثاني: فعلنا ذلك البيان والتعليم للأحكام لتصدقوا بالله ورسوله في العمل بشرائعه، ولا تستمروا على أحكام الجاهلية من جعل الظهار أقوى أنواع الطلاق، وفي الآية مسائل.
المسألة الأولى:
استدلت المعتزلة باللام في قوله: {لّتُؤْمِنُواْ} على أن فعل الله معلل بالغرض وعلى أن غرضه أن تؤمنوا بالله، ولا تستمروا على ما كانوا عليه في الجاهلية من الكفر، وهذا يدل على أنه تعالى أراد منهم الإيمان وعدم الكفر.
المسألة الثانية:
استدل من أدخل العمل في مسمى الإيمان بهذه الآية، فقال: أمرهم بهذه الأعمال، وبين أنه أمرهم بها ليصيروا بعملها مؤمنين، فدلت الآية على أن العمل من الإيمان ومن أنكر ذلك قال: إنه تعالى لم يقل: (ذلك لتؤمنوا بالله بعمل هذه الأشياء)، ونحن نقول المعنى ذلك لتؤمنوا بالله بالإقرار بهذه الأحكام، ثم إنه تعالى أكد في بيان أنه لابد لهم من الطاعة {وَتِلْكَ حُدُودُ الله وللكافرين عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي لمن جحد هذا وكذب به. اهـ.

.قال ابن عطية:

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
اختلف الناس في معنى قوله عز وجل: {ثم يعودون لما قالوا} فقال قوم: المعنى {والذين يظاهرون من نسائهم} في الجاهلية، كأنه قال: والذين كان الظهار عادتهم ثم يعودون في ذلك في الإسلام، وقاله القتبي وقال أهل الظاهر المعنى: والذين يظاهرون ثم يظاهرون ثم ثانية فلا يلزم عندهم كفارة إلا بأن يعيد الرجل الظهار، قاله منذر بن سعيد، وحينئذ هو عائد إلى القول الذي هو منكر وزور.
قال القاضي أبو محمد: وهذا قول ضعيف، وإن كان القشيري قد حكاه عن بكير بن عبد الله بن الأشج وقال بعض الناس في هذه الآية تقديم وتأخير، وتقديرها: (فتحرير رقبة لما قالوا)، وهذا أيضًا قول يفسد نظر الآية، وحكي عن الأخفش، لكنه غير قوي. وقال قتادة وطاوس ومالك والزهري وجماعة كثيرة من أهل العلم معنى: {ثم يعودون لما قالوا} أي للوطء فالمعنى ثم يعودون لما قالوا إنهم لا يعودون فإذا ظاهر الرجل ثم وطئ فحينئذ تلزمه الكفارة في ذمته وإن طلق أو ماتت امرأته. وقال الشافعي وأبو حنيفة ومالك أيضًا وفريق {يعودون} معناه: بالعوم على إمساك الزوجة ووطئها والتزام التكفير لذلك، فمتى وقع من المظاهر هذا العزم لزمت الكفارة ذمته، طلق أو ماتت المرأة.
قال القاضي أبو محمد: وهذان القولان في مذهب مالك رحمه الله هما حسنان لزمت الكفارة فيهما بشرطين: ظهار وعود.
واختلفا في العود ما هو؟ وقال الشافعي العود الموجب للكفارة: أن يمسك عن طلاقها بعد الظهار ويمضي بعد الظهار ما يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق، والرقبة في الظهار لا تكون عند مالك إلا مؤمنة، رد هذا: إلى المقيد الذي في كفارة القتل الخطأ.
واختلف والناس في قوله تعالى: {من قبل أن يتماسا} فقال الحسن والثوري وجماعة من قبل الوطء، وجعلت المسيس هاهنا الوطء، فأباحت للمظاهر التقبيل والمضاجعة والاستمتاع بأعلى المرأة كالحائض. وقال جمهور أهل العلم قوله: {من قبل أن يتماسا} عام في نوع المسيس الوطء والمباشرة، فلا يجوز لمظاهر أن يطأ ولا يقبل ولا يلمس بيده، ولا يفعل شيئًا من هذا النوع إلا بعد الكفارة، وهذا قول مالك رحمه الله.
وقوله تعالى: {ذلك} إشارة إلى التحرير أي فعل عظة لكم لتنتهوا عن الظهار، والتتابع في الشهرين صيامهما ولا بين أيامهما، وجائز أن يصومهما الرجل بالعدد، فيصوم ستين يومًا تباعًا، وجائز أن يصومهما بالأهلة، يبدأ مع الهلال ويفطر مع الهلال، وإن جاء أحد شهريه ناقصًا، وذلك مجزئ عنه، وجائز إن بدأ صومه في وسط الشهر أن يبعض الشهر الأول فيصوم إلى الهلال ثم يصوم شهرًا بالهلال ثم يتم الشهر الأول بالعدد.
ولا خلاف أحفظه من أهل العلم أن الصائم في الظهار إن أفسد التتابع باختياره أنه يبتدأ صومها. واختلف الناس إذا أفسده لعذر غالب: كالمرض والنسيان ونحوه، فقال أصحاب الرأي والشافعي في أحد قوليه والنخعي وابن جبير والحكم بن عيينة والثوري: يبتدئ، وقال مالك والشافعي وغيره: يبني. وأجمعوا على الحائض وأنها تبني في صومها التتابع.
وإطعام المساكين في الظهار هو بالمد الهاشمي عند مالك، وهو مد وثلث بمد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل مدان غير ثلث. وروى عنه ابن وهب أنه يطعم كل مسكين مدين بمد النبي عليه السلام وفي العلماء من يرى إطعام الظهار مدًا بمد النبي عليه السلام، ولا يجزئ في إطعام الظهار إلا إكمال عدد المساكين، ولا يجوز أن يطعم ثلاثين مرتين ولا ما أشبهه، والطعام هو غالب قوت البلد. قال مالك رحمه الله وعطاء وغيره: إطعام المساكين أيضًا هو قبل التماس حملًا على العتق والصوم. وقال أبو حنيفة وجمهور من أهل العلم لم ينص الله على الشرط هنا، فنحن نلتزمه، فجاز للمظاهر إذا كان من أهل الإطعام أن يطأ قبل الكفارة ويستمتع.
وقوله: {ذلك لتؤمنوا} إشارة إلى الرخصة والتسهيل في النقل من التحرير إلى الصوم، والإطعام ثم شدد تعالى بقوله: {تلك حدود الله} أي فالتزموها وقفوا عندها، ثم توعد الكافرين بهذا الحديث والحكم الشرعي. اهـ.

.قال القرطبي:

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا} فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ} هذا ابتداء والخبر {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وحذف عليهم لدلالة الكلام عليه؛ أي فعليهم تحرير رقبة.
وقيل: أي فكفارتهم عتق رقبة.
والمجمع عليه عند العلماء في الظهار قول الرجل لامرأته: أنت عليّ كظهر أمي.
وهو قول المنكر والزور الذي عنى الله بقوله: {وَإِنَّهُمْ لَيَقولونَ مُنكَرًا مِّنَ القول وَزُورًا} فمن قال هذا القول حرم عليه وطء امرأته.
فمن عاد لما قال لزمته كفارة الظهار؛ لقوله عز وجل: {والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالواْ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وهذا يدل على أن كفارة الظهار لا تلزم بالقول خاصة حتى ينضم إليها العَوْد، وهذا حرف مشكل اختلف الناس فيه على أقوال سبعة: الأوّل: أنه العزم على الوطء، وهو مشهور قول العراقيين أبي حنيفة وأصحابه.
وروي عن مالك: فإن عزم على وطئها كان عَوْدًا، وإن لم يعزم لم يكن عَوْدًا.
الثاني: العزم على الإمساك بعد التظاهر منها؛ قاله مالك.
الثالث: العزم عليهما.