فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولا يخفى أنه مجاز فلا مصير إليه بموجبه، فإن قلت: المعنى الذي باعتباره يصير اللفظ مجازًا ويندرج فيه التعدد الحكمي ما هو؟ قلت: هو الحاجة فيكون ستين سكينًا مجازًا عن ستين حاجة، وهو أعم من كونها حاجات ستين أو حاجات واحد إذا تحقق تكررها إلا أن الظاهر إنما هو عدد معدوده ذوات المساكين مع عقلية أن العدد مما يقصد لما في تعميم الجميع من بركة الجماعة وشمول المنفعة واجتماع القلوب على المحبة والدعاء قاله في فتح القدير وهو كلام متين يظهر منه ترجيح مذهب الجمهور، وذهب الأصحاب إلى أنه لا يشترط اتحاد نوع المدفوع لكل من المساكين فلو دفع لواحد بعضًا من الحنطة وبعضًا من الشعير مثلا جاز إذا كان المجموع قدر الواجب كأن دفع ربع صاع من بر ونصف صاع من شعير، وجاز نحو هذا التكميل لاتحاد المقصود وهو الإطعام ولا يجوز دفع قيمة القدر الواجب من منصوص عليه، وهو البر والشعير ودقيق كل، وسويقه والزبيب والتمر إذا كانت من منصوص عليه آخر إلا أن يبلغ المدفوع الكمية المقدرة شرعًا فلو دفع نصف صاع تمر يبلغ قيمة نصف صاع بر لا يجوز، فالواجب عليه أن يتم للذين أعطاهم القدر المقدر من ذلك الجنس الذي دفعه إليهم فإن لم يجدهم بأعيانهم استأنف في غيرهم، ومن غير المنصوص كالأرز والعدس يجوز كما إذا دفع ربع صاع من أرز يساوي قيمة نصف صاع من بر مثلًا، وذلك لأنه لا اعتبار لمعنى النص في المنصوص عليه وإنما الاعتبار في غير المنصوص عليه، ونقل في ذلك خلاف الشافعي رحمه الله تعالى فلا يجوز دفع القيمة عنده مطلقًا، ولا يجوز في الكفارة إعطاء المسكين أقل من نصف صاع من البر مثلاٌ فقط، ففي التاتار خانية لو أعطى ستين مسكينًا كل مسكين مدًّا من الحنطة لم يجز، وعليه أن يعيد مدًّا آخر على كل فإن لم يجد الأولين فأعطى ستين آخرين كلا مدًّا لم يجز، ولو أعطى كلا من المساكين مدًّا ثم استغنوا ثم افتقروا فأعاد على كل مدًّا لم يجز، وكذا لو أعطى المكاتبين مدًّا مدًّا ثم ردوا إلى الرق ومواليهم أغنياء ثم كوتبوا ثانيًا ثم أعاد عليهم لم يجز لأنهم صاروا بحال لا يجوز دفع الكفارة إليهم فصاروا كجنس آخر، وعليه فالمراد بستين مسكينًا ستون مسكينًا لم يعرض لهم في أثناء الإطعام ما ينافي ذلك، والظاهر أن فاعل إطعام هو المظاهر الغير المستطيع للصيام، ولا فرق بين أن يباشر ذلك أو يأمر به غيره، فإن أمر غيره فاطعم أجزأ لأنه استقراض معنى، فالفقير قابض له أولا ثم يتحقق تملكه ثم تمليكه، والمراد بالمسكين ما يعم الفقير، وقد قالوا: المسكين والفقير إذا اجتمعا افترقا وإذا اقترفا اجتمعا، ويشترط أن لا يكون المطعم أصله أو فرعه أو زوجته أو مملوكه أو هاشميًا لمزيد شرفه فيجل عن هذه الغسالة، ولا حربيًا ولو مستأمنًا لمزيد خسته فليس أهلًا لأدنى منفعة، ويجوز أن يكون ذميًا ولو دفع بتحرّ فبان أنه ليس بمصرف أجزأه عندهما خلافًا لأبي يوسف كما في البدائع.
واستنبط الشافعية من التعبير بعدم الوجود عند الانتقال إلى الصوم، وبعدم الاستطاعة عند الانتقال إلى الإطعام أنه لو كان له مال غائب ينتظره ولا يصوم ولو كان مريضًا يرجى برؤه يطعم ولا ينتظر الصحة ليصوم، وهو موافق لمذهبنا في الصوم لا في الاطعام كما سمعت، ثم هذا الحكم في الأحرار أما العبد فلا يجوز له إلا الصوم لأنه لا يملك وإن ملك والاعتاق والإطعام شرطهما الملك فإن أعتق عنه المولى أو أطعم لم يجز ولو بأمره، ويجب تقديم الإطعام على المسيس فإن قريب المظاهر المظاهرة في خلاله أثم، ولم يستأنف لأنه عز وجل ما شرط فيه أن يكون قبل المسيس كما شرط فيما قبل، ونحن لا نحمل المطلق على المقيد وإن كانا في حادثة واحدة بعد أن يكونا حكمين، والوجوب قيل: لم يثبت إلا لتوهم وقوع الكفارة بعد التماس بيانه أنه لو قدر على العتق أو الصيام في خلال الاطعام أو قبله يلزمه التكفير بالمقدور عليه فلو جوز للعاجز عنهم القربان قبل الإطعام، ثم اتفق قدرته فلزمالتكفير به لزم أن يقع العتق بعد التماس، والمفضى إلى الممتنع ممتنع.
وتعقب بأن فيه نظرًا فإن القدرة حال قيام العجز بالفقر والكبر والمرض الذي لا يرجى زواله أمر موهوم، وباعتبار الأمور الموهومة لا تثبت الأحكام ابتداءًا بل يثبت الاستحباب ورعا فالأولى الاستدلال على حرمة المسيس قبل الإطعام لمن يتعين كفارة له بما ورد من حديث «اعتزالها حتى تكفر» ونحوه، وما ذكر من أنه لو قدر على العتق مثلا خلال الإطعام لزم التكفير به خالف فيه الشافعية.
قال ابن حجر عليه الرحمة: لا أثر لقدرته على صوم أو عتق بعد الاطعام ولو لمدّ كما لو شرع في صوم يوم من الشهرين فقدر على العتق، وأجاز بعض المسيس في خلال الاطعام من غير إثم، ونقل ذلك عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه وهو توهم نشأ من عدم إيجابه الاستئناف، وقد صرح في الكشاف بأنه لا فرق عند أبي حنيفة بين الكفارات الثلاث في وجوب تقديمها على المساس وإن ترك ذكره عند الإطعام للدلالة على أنه إذا وجد في خلال الإطعام لم يستأنف كما يستأنف الصوم.
وجعل بعضهم ذكر القيد فيما قبل وتركه في الإطعام دليلًا لأبي حنيفة في قوله: بعدم الاستئناف أي مع الإثم.
وتعقبه ابن المنير في الانتصاف بأن لقائل أن يقول لأبي حنيفة: إذا جعلت الفائدة في ذكر عدم التماس في بعضها وإسقاطه من بعضها الفرق بين أنواعها فلم جعلته مؤثرًا في أحد الحكمين دون الآخر؟ وهل التخصيص إلا نوع من التحكم؟ ثم قال: وله أن يقول: اتفقنا على التسوية بين الثلاث في هذا الحكم أعني حرمة المساس قبل التكفير، وقد نطقت الآية بالتفرقة فلم يمكن صرفها إلى ما وقع الاتفاق على التسوية فيه فتعين صرفه إلى الآخر، هذا منتهى النظر مع أبي حنيفة؛ وأطال الكلام في هذا المقام بما لا يخلو عن بحث على أصول الإمام.
وإذا عجز المظاهر عن الجميع قال الشافعية: استقرت في ذمته فإذا قدر على خصلة فعلها ولا أثر لقدرته على بعض عتق أو صوم بخلاف بعض الطعام ولو بعض ما يجب لواحد من المساكين فيخرجه، ثم الباقي إذا أيسر، والظاهر بقاء حرمة المسيس إلى أن يؤدي الكفارة تمامًا ولم يبال باضرار المرأة بذلك لأن الأيسار مترقب كزوال المرض المانع من الجماع، ولم أراجع حكم المسألة في الظاهر عند الحنفية، وأما في الجماع في نهار رمضان الموجب للكفارة فقد قال ابن الهمام بعد نقل حديث الأعرابي الواقع على امرأته فيه العاجر عن الخصال الثلاثة، وفيه: «فأتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيه تمر فقال: تصدق به، فقال: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها أفقر مني ولا أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ثم قال: خذه فأطعمه أهلك» في لفظ لأبي داود زاد الزهري وإنما كان هذا رخصة له خاصة، ولو أن رجلًا فعل ذلك اليوم لم يكن له بدّ من التكفير، وجمهور العلماء على قوله، وذكر النووي في (شرح صحيح مسلم) أن للشافعي في هذا العاجز قولين: أحدهما لا شيء عليه واحتج له بحديث الأعرابي المذكور عليه الصلاة والسلام لم يقل له: إن الكفارة ثابتة في ذمته بل أذن له في إطعام عياله والثاني وهو الصحيح عند أصحابنا وهو المختار أن الكفارة لا تسقط بل تستقر في ذمته حتى يتمكن قياسًا على سائر الديون والحقوق والمؤاخذات كجزاء الصيد وغيره، وأما الحديث فليس فيه نفي استقرار الكفارة بل فيه دليل لاستقرارها لأنه أخبر النبي: صلى الله عليه وسلم بالعجز عن الخصال ثم أتى عليه الصلاة والسلام بعرق التمر فأمره بإخراجه في الكفارة فلو كانت تسقط بالعجز لم يكن عليه شيء فلم يأمره بالإخراج فدل على ثبوتها في ذمته، وإنما أذن له في إطعام عياله لأنه محتاج إلى الإنفاق عليهم في الحال والكفارة واجبة على التراخي، وإنما لم يبين عليه الصلاة والسلام بقاءها في ذمته لأن تأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز عند جماهير الأصوليين فهذا هو الصواب في معنى الحديث، وحكم المسألة وفيها أقوال وتأويلاتأخر ضعيفة انتهى.
ومن الناس من قال: لم يكن هناك تأخير بيان وإنما اكتفى صلى الله عليه وسلم بفهم الأعرابي عن التصريح له بالاستقرار، والاخبار في وقوع مثل ذلك للمظاهر مضطربة كما لا يخفى على من راجع الدر المنثور للسيوطي.
ومسائل الظاهر كثيرة والمذاهب في ذلك مختلفة، ومن أراد كمال الاطلاع فليرجع إلى كتب الفروع، ولولا التأسي ببعض الأجلة لما ذكرنا شيئًا منها، ومع هذا لا يخلو أكثره عن تعلق بتفسير الآية والله تعالى أعلم.
{ذلك} إشارة إلى ما مر من البيان والتعليم، ومحله إما الرفع على الابتداء أو النصب بمضمر معلل بما بعده أي ذلك واقع أو فعلنا ذلك {لّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ} وتعملوا بشرائعه التي شرعها لكم وترفضوا ما كنتم عليه في جاهليتكم {وَتِلْكَ} الأحكام المذكورة {حُدُودَ الله} التي لا يجوز تعديها فالزموها وقفوا عندها {وللكافرين} أي الذين يتعدونها ولا يعملون بها {عَذَابٌ أَلِيمٌ} على كفرهم وأطلق الكافر على متعدى الحدود تغليظًا لزجره، ونظير ذلك قوله تعالى: {وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِىٌّ عَنِ العالمين} [آل عمران: 97]. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قالوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}
عطف على جملة {الذين يظّهّرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم} [المجادلة: 2] أعيد المبتدأ فيها للاهتمام بالحكم والتصريح بأصحابه وكان مقتضى الكلام أن يقال: فإن يعودوا لما قالوا فتحرير رقبة، فيكون عطفًا على جملة الخبر من قوله: {ما هن أمهاتهم} [المجادلة: 2].
و {ثمّ} عاطفة جملةَ {يعودون} على جملة {يظّهّرون}، وهي للتراخي الرتبي تعريضًا بالتخطئة لهم بأنهم عادوا إلى ما كانوا يفعلونه في الجاهلية بعدَ أن انقطع ذلك بالإِسلام.
ولذلك علق بفعل {يعودون} ما يدل على قولهم لفظ الظهار.
والعود: الرجوع إلى شيء تركه وفارقه صاحبه.
وأصله: الرجوع إلى المكان الذي غادره، وهو هنا عوْد مجازي.
ومعنى {يعودون لما قالوا} يحتمل أنهم يعودون لما نطقوا به من الظهار.
وهذا يقتضي أن المظاهِر لا يَكون مظاهرًا إلا إذا صدر منه لفظ الظهار مرة ثانية بعد أُولى.
وبهذا فسر الفراء.
وروي عن علي بن طلحة عن ابن عباس: بحيث يكون ما يصدر منه مرة أولى معفوًا عنه.
غير أن الحديث الصحيح في قضية المجادِلة يدفع هذا الظاهر لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأوس بن الصامت: «أعتق رقبة» كما سيأتي من حديث أبي داود فتعين أن التكفير واجب على المظاهر من أول مرة ينطلق فيها بلفظ الظهار.
ويحتمل أن يراد أنهم يريدون العود إلى أزواجهم، أي لا يحبون الفراق ويرومون العود إلى المعاشرة.
وهذا تأويل اتفق عليه الفقهاء عدا داود الظاهري وبُكير بن الأشج وأبا العالية.
وفي (الموطأ) قال مالك في قول الله عز وجل: {والذين يظّهّرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا} قال سمعت: أن تفسير ذلك أن يُظاهر الرجل من امرأته ثم يُجمع على إصابتها وإمساكها فإن أجمع على ذلك فقد وجبت عليه الكفارة وإن طلقها ولم يجمع بعد تظاهره منها على إمساكها فلا كفارة عليه.
وأقوال أبي حنيفة والشافعي والليثثِ تحوم حول هذا المعنى على اختلاف في التعبير لا نطيل به.
وعليه فقد استعمل فعل {يعودون} في إرادة العودة كما استعمل فعل مستعمل في معنى إرادة العود والعزم عليه لا على العود بالفعل لأنه لو كان عودًا بالفعل لم يكن لاشتراط التفكير قبل المسِيس معنى، فانتظم من هذا معنى: ثم يريدون العود إلى ما حرموه على أنفسهم فعليهم كفارة قبل أن يعودوا إليه على نحو قوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} [المائدة: 6] أي إذا أردتم القيام، وقوله: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [النحل: 98]، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سَألت فاسأل الله وإذا استعَنْت فاستعنْ بالله».
وتلك هي قضية سبب النزول لأن المرأة ما جاءت مجادلة إلا لأنها علمت أن زوجها المظاهر منها لم يرد فراقها كما يدل عليه الحديث المروي في ذلك في كتاب أبي داود عن خويلة بنت مالك بن ثعلبة قالت: ظاهر منّي زوجي أوس بن الصامت فجئت رسول الله صلى الله عليه وسلم أشكو إليه ورسول الله يجادلني ويقول: «اتقي الله فإنه ابن عمك؟» فما برحتُ حتّى نزل القرآن.