فصل: من أقوال المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال البقاعي:
ولما كان هذا الدليل أيضًا تتعذر الإحاطة به، قال دالًا عليه بأمر جزئي واقع بعلم المحدث عنه حقيقة، فإن عاند بعده سقط عنه الكلام إلا بحد الحسام: {ألم تر} أي تعلم علمًا هو كالرؤية، ودل على سفول رتبه المرئي بإبعاده عن أعلى الناس قدرًا بحرف الغاية فقال: {إلى الذين} ولما كان العاقل من إذا زجر عن شيء انزجر حتى يتبين له أنه لا ضرر عليه في فعل ما زجر عنه، عبر بالبناء للمفعول فقال: {نهوا} أي من ناه ما لا ينبغي للمنهي مخالفته حتى يعلم أنه مأمون الغائلة {عن النجوى} أي الإسرار لإحلال أنفسهم بذلك في محل التهمة بما لا يرضى من رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال أبو العلاء المعري:
والخل كالماء يبدي لي ضمائره ** مع الصفاء ويخفيها من الكدر

ولما كان الناهي هو الله، فكان هذا للنهي أهلًا لأن يبعد منه غاية البعد، عبر بأداة التراخي فقال: {ثم يعودون} أي على سبيل الاستمرار لأنه إذا وقعت مرة بادروا إلى التوبة منها أو فلتة وقعت معفوًا عنها {لما نهوا عنه} أي من غير أن يعدوا لما يتوقع من جهة الناهي من الضرر عدة {ويتناجون} أي يقبل جميعهم على المناجاة إقبالًا واحدًا، فيفعل كل منهم ما يفعله الآخر مرة بعد أخرى على سبيل الاستمرار، وقراءة حمزة {وينتجون} بصيغة الافتعال يدل على التعمد والمعاندة {بالإثم} أي بالشيء الذي يكتب عليهم به الإثم بالذنب وبالكذب وبما لا يحل.
ولما ذكر المطلق أتبعه المقيد بالشدة فقال: {والعدوان} أي العدو الذي هو نهاية في قصد الشر بالإفراط في مجاوزة الحدود.
ولما كان ذلك شرًا في نفسه أتبعه الإشارة إلى أن الشيء يتغير وصفه بالنسبة إلى من يفعل معه فيكبر بكبر المعصي فقال: {ومعصيت الرسول} أي الذي جاء إليهم من الملك الأعلى، وهو كامل الرسلية، لكونه مرسلًا إلى جميع الخلق وفي كل الأزمان، فلا نبي بعده، فهو لذلك يستحق غاية الإكرام.
ولما أنهى تعظيم الذنب إلى غايته آذن بالغضب بأن لفت الكلام إلى الخطاب فقال: {وإذا جاؤوك} أيها الرسول الأعظم الذي يأتيه الوحي ممن أرسله ولم يغب أصلًا عنه لأنه المحيط علمًا وقدرة {حيوك} أي واجهوك بما يعدونه تحية من قولهم: السام عليك ونحوه، وعم كل لفظ بقوله: {بما لم يحيك به الله} أي الملك الأعلى الذي لا أمر لأحد معه فمن تجاوز ما شرعه فقد عرض نفسه لسخطه، ومما دخل فيه قوله بعض الناس لبعض (صباح الخير) ونحوه معرضًا عن السلام.
ولما كان المشهور عنهم أنهم يخفون ذلك جهدهم ويعلنون بإملاء الله لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يطلع عليه، وإن اطلع عليه لم يقدر على أن ينتقم منهم، عبر عن ذلك بقوله: {ويقولون} أي عند الاستدراج بالإملاء مجددين قولهم مواظبين عليه {في أنفسهم} من غير أن يطلعوا عليه أحدًا: {لولا} أي هلا ولم لا {يعذبنا الله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء على زعم من باهانا {بما نقول} مجددين مع المواظبة إن كان يكرهه- كما يقول محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما تضمن هذا علمه سبحانه وتعالى بهذه الجزئية من هؤلاء القوم ثبت بذلك علمه سبحانه بجميع ما في الكون، لأن نسبة الكل إليه على حد سواء، فإذا ثبت علمه بالبعض ثبت علمه بالكل فثبتت قدرته على الكل فكان على كل شيء شهيدًا، قال مهددًا لهم مشيرًا إلى أنه لا ينبغي لأحد أن يقول مثل هذا إلا إن كان قاطعًا بأنه لا يحصل له عذاب، أو يحصل له منه ما لا يبالي به ثم يرده بقوته: {حسبهم} أي كفايتهم في الانتقام منهم وفي عذابهم ورشقهم بسهام لهيبها ومنكئ شررها وتصويب صواعقها {جهنم} أي الطبقة التي تلقاهم بالتجهم والعبوسة والتكره والفظاظة.
فإن حصل لهم في الدنيا عذاب كان زيادة على الكفاية، فاستعجالهم بالعذاب محض رعونة {يصلونها} أي يقاسون عذابها دائمًا إني أعددتها لهم.
ولما كان التقديرية فإنهم يصيرون إليها ولا بد، تسبب عنه قوله: {فبئس المصير} أي مصيرهم، وسبب ذلك أن اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم ينظرون إلى المؤمنين ويتغامزون يوهمونهم أنهم يتناجون فيما يسوءهم فيظنون أنه بلغهم شيء من إخوانهم الذين خرجوا في السرايا غزاة في سبيل الله من قتل أو هزيمة فيحزنهم ذلك، فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن التناجي في هذه الحالة فلم ينتهوا، وروى أحمد والبزار والطبراني بإسناد- قال الهيثمي في المجمع إنه جيد لأن حمادًا سمع من عطاء بن السائب في حالة الصحة- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم: سام عليك.
ثم يقولون في أنفسهم: لولا يعذبنا الله بما نقول، فنزلت.
وروى أبو يعلى عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال عند ذلك: «إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا: وعليك». اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ}
ثم إنه تعالى بين حال أولئك الذين نهوا عن النجوى فقال: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ} واختلفوا في أنهم من هم؟ فقال الأكثرون: هم اليهود، ومنهم من قال: هم المنافقون، ومنهم من قال: فريق من الكفار، والأول أقرب، لأنه تعالى حكى عنهم فقال: {وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله}، وهذا الجنس فيما روي وقع من اليهود، فقد كانوا إذا سلموا على الرسول عليه السلام قالوا: السام عليك، يعنون الموت، والأخبار في ذلك متظاهرة، وقصة عائشة فيها مشهورة.
ثم قال تعالى: {ويتناجون بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول وَإِذَا جَاءوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله وَيَقولونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقول} وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
قال المفسرون: إنه صح أن أولئك الأقوام كانوا يتناجون فيما بينهم ويوهمون المؤمنين أنهم يتناجون فيما يسوءهم، فيحزنون لذلك، فلما أكثروا ذلك شكا المسلمون ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك وعادوا إلى مناجاتهم، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وقوله: {ويتناجون بالإثم والعدوان} يحتمل وجهين أحدهما: أن الإثم والعدوان هو مخالفتهم للرسل في النهي عن النجوى لأن الإقدام على المنهي يوجب الإثم والعدوان، سيما إذا كان ذلك الإقدام لأجل المناصبة وإظهار التمرد.
والثاني: أن الإثم والعدوان هو ذلك السر الذي كان يجري بينهم، لأنه إما مكر وكيد بالمسلمين أو شيء يسوءهم.
المسألة الثانية:
قرأ حمزة وحده، {ويتنجون} بغير ألف، والباقون: {يتناجون}، قال أبو علي: ينتجون يفتعلون من النجوى، والنجوى مصدر كالدعوى والعدوى، فينتجون ويتناجون واحد، فإن يفتعلون، ويتفاعلون، قد يجريان مجرى واحد، كما يقال: ازدوجوا، واعتوروا، وتزاوجوا وتعاوروا، وقوله تعالى: {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا} [الأعراف: 38] وادركوا فادركوا افتعلوا، وادركوا تفاعلوا وحجة من قرأ: {يتناجون}، قوله: {إِذَا ناجيتم الرسول} [المجادلة: 12] {وتناجوا بالبر والتقوى} [المجادلة: 9] فهذا مطاوع ناجيتم، وليس في هذا رد لقراءة حمزة: {ينتجون}، لأن هذا مثله في الجواز، وقوله تعالى: {ومعصية الرسول} قال صاحب الكشاف: قرئ {ومعصيات الرسول}، والقولان هاهنا كما ذكرناه في الإثم والعدوان وقوله: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيّكَ بِهِ الله} يعني أنهم يقولون في تحيتك: السام عليك يا محمد والسام الموت، والله تعالى يقول: {وسلام على عِبَادِهِ الذين اصطفى} [النمل: 59] و{يا أيها الرَّسُول} و{يا أيها النبي} ثم ذكر تعالى أنهم {يَقولونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذّبُنَا الله بِمَا نَقول} يعني أنهم يقولون في أنفسهم: إنه لو كان رسولًا فلم لا يعذبنا الله بهذا الاستخفاف.
ثم قال تعالى: {حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير} والمعنى أن تقدم العذاب إنما يكون بحسب المشيئة، أو بحسب المصلحة، فإذا لم تقتض المشيئة تقديم العذاب، ولم يقتض الصلاح أيضًا ذلك، فالعذاب في القيامة كافيهم في الردع عما هم عليه. اهـ.

.قال القرطبي:

{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى} قيل: إن هذا في اليهود والمنافقين حسب ما قدمناه.
وقيل: في المسلمين.
قال ابن عباس: نزلت في اليهود والمنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، وينظرون للمؤمنين ويتغامزون بأعينهم، فيقول المؤمنون: لعلهم بلغهم عن إخواننا وقرابتنا من المهاجرين والأنصار قتل أو مصيبة أو هزيمة، ويسوءهم ذلك فكثرت شكواهم إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم، فنهاهم عن النجوى فلم ينتهوا فنزلت.
وقال مقاتل: كان بين النبيّ صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة، فإذا مر بهم رجل من المؤمنين تناجوا بينهم حتى يظن المؤمن شرًّا، فيعرج عن طريقه، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينتهوا فنزلت.
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم: كان الرجل يأتي النبيّ صلى الله عليه وسلم فيسأله الحاجة ويناجيه والأرض يومئذ حرب، فيتوهمون أنه يناجيه في حرب أو بلية أو أمر مهِمٍّ فيفزعون لذلك فنزلت.
الثانية: روى أبو سعيد الخدري قال: كنا ذات ليلة نتحدّث إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما هذه النجوى ألم تُنهوا عن النجوى» فقلنا: تبنا إلى الله يا رسول الله؛ إنا كنا في ذكر المسيخ يعني الدجال فرقًا منه.
فقال: «ألا أخبركم بما هو أخوف عندي منه» قلنا: بلى يا رسول الله؛ قال: «الشرك الخفيّ أن يقوم الرجل يعمل لمكان رجل» ذكره الماوردي.
وقرأ حمزة وخلف ورُوَيس عن يعقوب {وَيَنْتَجُونَ} في وزن يفتعلون وهي قراءة عبد الله وأصحابه.
وقرأ الباقون {وَيَتَنَاجَوْنَ} في وزن يتفاعلون، واختاره أبو عبيد وأبو حاتم؛ لقوله تعالى: {إِذَا تَنَاجَيْتُمْ} و{وَتَنَاجَوْاْ}.
النحاس: وحكى سيبويه أن تفاعلوا وافتعلوا يأتيان بمعنى واحد، نحو تخاصموا واختصموا، وتقاتلوا واقتتلوا فعلى هذا {يَتَنَاجَوْنَ} و{يَنتجُون} واحد.
ومعنى {بالإثم والعدوان} أي الكذب والظلم.
{وَمَعْصِيَةِ الرسول} أي مخالفته.
وقرأ الضحاك ومجاهد وحميد {وَمَعْصِيَاتِ الرَّسُول} بالجمع.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله} لا خلاف بين النقلة أن المراد بها اليهود؛ كانوا يأتون النبيّ صلى الله عليه وسلم فيقولون: السام عليك.
يريدون بذلك السلام ظاهرًا وهم يعنون الموت باطنًا، فيقول النبيّ صلى الله عليه وسلم: «عليكم» في رواية، وفي رواية أخرى «وعليكم» قال ابن العربي: وهي مشكلة.
وكانوا يقولون: لو كان محمد نبيًّا لما أمهلنا الله بسبّه والاستخفاف به، وجهلوا أن الباري تعالى حليم لا يعاجل من سبّه، فكيف من سبّ نبيه.
وقد ثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا أحدَ أصبر على الأذى من الله يدعون له الصاحبة والولد وهو يعافيهم ويرزقهم»
فأنزل الله تعالى هذا كشفًا لسرائرهم، وفضحًا لبواطنهم، معجزةً لرسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت عن قتادة عن أنس: «أن يهوديًّا أتى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أصحابه فقال: السام عليكم. فرد عليه النبيّ صلى الله عليه وسلم وقال: أتدرون ما قال هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال كذا ردوه عليّ. فردوه؛ قال: قلت السام عليكم. قال: نعم. فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم عند ذلك: إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا عليك ما قلت. فأنزل الله تعالى: {وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله}».